مع تواصل القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، يستمر السكان في الهرب من منازلهم إلى المدن والولايات المجاورة، ما يزيد من عدد النازحين داخلياً إلى أكثر من مليونين.
ومنذ 15 إبريل/ نيسان الماضي، تاريخ اندلاع الاشتباكات، تعرضت العاصمة المثلثة، بمدنها الخرطوم وبحري وأم درمان، إلى قصف جوي ومدفعي عنيف، إلى جانب الاشتباكات المباشرة على الأرض، والتي دمرت منازل المواطنين وقتلت وجرحت الكثيرين منهم، فيما يتواصل النزوح يومياً مع تزايد حدة الاشتباكات.
نزح نحو 2.5 مليون شخص داخل السودان وخارجه منذ بداية النزاع
في منطقة الكلاكلة اللفة، جنوبي الخرطوم، رصدت "العربي الجديد" عدداً كبيراً من المسافرين، وأغلبهم من الأسر، يحملون حقائبهم ويفاوضون أصحاب الحافلات للحصول على أسعار مناسبة لتذاكر السفر، التي تراوح بين 5 و20 ألف جنيه (الدولار يساوي نحو 600 جنيه)، حسب بُعد المنطقة عن الخرطوم.
اكتظاظ سوق الكلاكلة بالحافلات
وأكثر المدن التي يُسافر إليها من هذه المحطة هي ود مدني والقطينة، وسنار، وكوستي وربك، إضافة إلى القرى الصغيرة، بينما قلّ السفر إلى مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، بسبب الاشتباكات هناك، والحصار الذي ضربته حولها أخيراً قوات الدعم السريع. ويكتظ سوق الكلاكلة اللفة بعشرات الحافلات منذ الصباح الباكر، والتي تحمل الركاب، وتسير عبر طرق ملتوية للابتعاد عن مناطق الاشتباكات.
ويجلس بعض المسافرين على الرصيف أو في مقاعد بائعات الشاي بانتظار امتلاء الحافلة، بينما تجد الأسر المحظوظة توصيلة مجانية إلى مدن قريبة، حيث يقوم بعض أصحاب السيارات الصغيرة الذين ينوون السفر وحدهم بأخذ أُسر معهم مجاناً، لتشكيل حماية لسياراتهم من السرقة على يد قوات الدعم السريع، والتي تستهدف المركبات الصغيرة، خصوصاً ذات الدفع الرباعي، لكنها تسمح بعبور سيارات الأسر.
أحياء في الخرطوم شبه خالية من السكان
ومع تزايد عمليات الهروب الجماعي من اشتباكات الخرطوم، أصبحت بعض الأحياء شبه خالية من السكان، بينما لا يزال البعض متمسكاً بالبقاء في منزله لأسباب بينها سوء الظروف وانعدام المال اللازم للسفر، أو بعد مناطق ذويهم وخطورة الطريق. وقد أدت المخاوف بالأسر التي تسافر بسياراتها الخاصة للقدوم إلى محطة الحافلات للسفر برفقة السيارات الأخرى.
ويقول المواطن حمد رحمة الله، لـ"العربي الجديد"، إنه غادر مع أسرته الصغيرة إلى ولاية النيل الأبيض، بينما سافر أقارب له إلى ولاية غرب كردفان، لكن سيارتهم تعرضت للسرقة على يد مسلحين في منطقة الخوي. ويضيف: هذا الحادث جعلنا نبقى حيث نحن، رغم أننا كنا ننوي الذهاب إلى ولاية غرب كردفان، حيث أهلنا هناك، إلى جانب أن أسعار التذاكر أصبحت مرتفعة جداً.
وتقول فاطمة الفكي، لـ"العربي الجديد"، إنها ستغادر وأسرتها إلى مدينة ود مدني في ولاية الجزيرة، لأن موقع منزلها خطير جداً، إذ إنه يقع قرب مقر سلاح المدرعات في الخرطوم، حيث شهدت المنطقة معارك عنيفة أخيراً.
و"سلاح المدرعات" يعد من القواعد الاستراتيجية المهمة للجيش في العاصمة الخرطوم وتحاول "قوات الدعم السريع" منذ أيام مهاجمتها. وشهد محيط القاعدة في الأيام الماضية اشتباكات عنيفة تخللها استخدام الجيش المدفعية الثقيلة لإجبار "الدعم السريع" على الابتعاد عن المنطقة العسكرية المهمة.
وتوضح الفكي أن سعر التذكرة، التي حصلوا عليها، يبلغ 8 آلاف جنيه للراكب الواحد، لكن سعرها ارتفع الآن إلى 15 ألفاً، مبينة أنهم إذا لم يجدوا المكان هناك مناسباً سيسافرون إلى مدينة القطينة، التي يقال إن الإيجارات أقل فيها.
وتقول نسيبة حامد، التي تصطحب ابنتيها معها، إنها ستذهب إلى مدينة كوستي، حيث منزل أسرتها الكبيرة، موضحة أن سعر التذكرة إلى هناك يبلغ 20 ألف جنيه، لكنه قد ينخفض إلى 15 ألفاً حسب عدد الركاب. وتضيف أنها ستبقى هناك حتى انتهاء الحرب، رغم أنها لن تشعر بالارتياح بعد ترك منزلها وفقدانها وظيفتها.
وبحسب أرقام مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإنه بشكل عام نزح نحو 2.5 مليون شخص داخل السودان وخارجه منذ بداية النزاع في 15 إبريل الماضي. ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة في 20 يونيو/ حزيران الماضي، فإن هناك ما يقرب من مليوني شخص في الولايات الشمالية وغرب دارفور ونهر النيل والنيل الأبيض.
وحسب المكتب، فقد فر غالبية النازحين من منازلهم في ولاية الخرطوم (1.3 مليون شخص)، تليها ولاية غرب دارفور (303000)، وجنوب دارفور (143000)، ووسط دارفور (97000)، وشمال دارفور (70000).
عاطف كمبال: الخرطوم بعد أن كانت تستقبل النازحين داخلياً، باتت الآن مصدرة لهم
وبالإضافة إلى النازحين، عبر أكثر من 520 ألف شخص، بما في ذلك اللاجئون وطالبو اللجوء والعائدون إلى دول الجوار، بما في ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وذلك حتى 18 يونيو الماضي.
الخرطوم تختبر النزوح
ويقول الباحث المختص بقضايا النزوح عاطف كمبال، لـ"العربي الجديد"، إن الخرطوم بعد أن كانت تستقبل النازحين داخلياً، باتت الآن مصدرة لهم منذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع، مبيناً أن الخرطوم تختبر، لأول مرة، النزوح كمدينة وبهذه الكثافة.
ويضيف كمبال أن النازحين حالياً في الداخل نزلوا مع أسر مستضيفة بصورة مستمرة حتى انتهاء الحرب، أو مؤقتة، وذلك بهدف الانتقال إلى مناطق أخرى. ويؤكد أن هذه الاستضافة تظل من الحلول المؤقتة، ولا يمكن التعويل عليها، ولا بد من تدخل رسمي للحكومة، بعيداً عن الاعتماد على المنظمات، وهو غير موجود حالياً.
ويشير إلى أنه إذا طال أمد الحرب واستمر الاعتداء على عمال الإغاثة وعرقلة عمل المنظمات، فسيكون ذلك كارثياً على النازحين ويصعب حياتهم أكثر، ويقلل من فرص الإغاثة وإنقاذ الأرواح، ما يعني أن معاناة النازحين ستتفاقم بصورة أكبر، خصوصاً أن الوقت لا يزال مبكراً لإنشاء المعسكرات، لأن التدفق مستمر للنازحين نحو مدن البلاد المختلفة.