يقف رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في نقطة وسط بين طهران وواشنطن، وهو يحاول ألا يثير غضب أي منهما، في الوقت الذي تعمل كل منهما على جذبه إلى طرفها. وهذا أمر إذا حصل من شأنه أن يخلّ بالمعادلة العراقية، ويأخذ العراق بعيداً في سياسة المحاور التي لا طاقة له بها في الظرف الراهن. وتقوم حسابات الكاظمي على تحقيق قدر معقول من التوازن في ظل تجاذبات دولية وإقليمية تحيط بالعراق. ويطمح إلى أن يتمكّن من الخروج بأخف الخسائر، فلا سبيل أمامه غير ذلك إذا أراد الاستمرار في الميدان السياسي. ومن أجل تحقيق النصاب السياسي اللازم، يتّبع تكتيكاً سياسياً يقوم على ركيزتين. الأولى داخلية، وتتمثّل في احتواء "الحشد الشعبي" الذي بات قوة عسكرية وسياسية كبيرة، وهذا ما يفسر رعاية الكاظمي للاستعراض العسكري الكبير، الذي أقامه "الحشد" في مدينة ديالى في السادس والعشرين من الشهر الماضي. وإذا حصل على هذه الورقة، فإن الطريق إلى طهران تصبح سالكة من دون عقبات.
والركيزة الثانية هي كسب دعم واشنطن والبلدان العربية، وفي طليعتها السعودية، وفي حال نجح في هذا المسعى، فإنه يستطيع أن يتصرف من موقع قوة في الداخل العراقي. لكن حتى هذه اللحظة، لا يبدو أن رئيس الحكومة العراقية استطاع أن يحقق القدر الكافي من التفاهم مع الأطراف كافة، وهو يسير إلى الأمام كمن يتحرك وسط حقل ألغام شديد الخطورة. ويتعرض إلى ضغوط من قِبل واشنطن و"الحشد"، تصاعدت على نحو ملحوظ في الأشهر الأخيرة.
وتعتبر الولايات المتحدة أن الحكومة العراقية تبذل جهوداً طيبة في مكافحة التأثير السلبي لإيران، لكن "عليها القيام بالكثير لكبح جماح وكلائها في البلاد". وعليه، فإن الغارة الأميركية الأخيرة التي استهدفت معسكراً تابعاً لـ"الحشد الشعبي" على الحدود العراقية السورية، تحمل رسالة أميركية للكاظمي، الذي يتعرض لضغوط من فصائل "الحشد" من أجل إخراج القوات الأميركية من العراق، وتقول الفصائل إنها أعطت الوقت الكافي لحكومة الكاظمي لإخراج كافة القوات الأجنبية من العراق، من خلال الطرق الدبلوماسية والسياسية، لكنها أخفقت في هذا الملف، ولم يكن هناك أي تحرك فعلي تجاهه، على الرغم من إجرائها حواراً مع الولايات المتحدة الأميركية عبر ثلاث جولات، جرت في يونيو/حزيران وأغسطس/آب 2020، وفي 7 إبريل/نيسان 2021.
لا تبدو الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي العراقي الأميركي، التي تُعقد في السادس والعشرين من الشهر الحالي في واشنطن، كسابقاتها. ويرى مراقبون أن مهمة الحكومة العراقية لن تكون سهلة، بسبب تعقيدات الملفات الثنائية، والتطورات والتقاطعات الدولية والإقليمية. وبعد حسم مسألة مشاركة الكاظمي في هذه الجولة، من غير الواضح حتى الآن كيف سيتصرف في زيارته الثانية للعاصمة الأميركية خلال أقل من عام، والتي سيلتقي خلالها الرئيس الأميركي جو بايدن للمرة الأولى، بعد وصول الإدارة الأميركية الجديدة إلى البيت الأبيض. وفي حين أن نتائج زيارة الكاظمي في أغسطس من العام الماضي انتهت إلى دعم من قبل الإدارة السابقة، فإن تغيراً استجد على موقف الإدارة الحالية من الكاظمي بعد الجولة الثالثة من الحوار الاستراتيجي، فبعد أن كانت الولايات المتحدة شبه واثقة من وعوده باحتواء فصائل "الحشد الشعبي" عند حدود سياسية وميدانية تحول دون التصعيد، اختلف الأمر بعد الهجمات والهجمات المضادة بين "الحشد" والقوات الأميركية خلال الأشهر الأخيرة.
دعا الكاظمي إلى تجنيب العراق أن يكون ساحة للصراعات الإقليمية من جهة، والدولية من جهة أخرى
وفي تصريح ذي دلالة للكاظمي من بروكسل بعد قمة حلف شمال الأطلسي في منتصف الشهر الماضي، دعا إلى تجنيب العراق أن "يكون ساحة للصراعات الإقليمية من جهة، والدولية من جهة أخرى، وأن أمن العراق يتأثر بأمن المنطقة، كما أن أمن المنطقة لا يتحقق إلا بالالتزام بالقرارات الدولية التي تدعو جميع أطراف النزاع التقليدي إلى التقيّد بالشرعية الدولية". وأثار الكاظمي هذه النقاط في الوقت الذي بات فيه العراق ساحة مواجهة أميركية إيرانية، وتوجيه رسائل بين الطرفين وأطراف أخرى. وذهب الكاظمي أبعد من ذلك حين تحدث قبل ما يقل عن ثلاثة أسابيع من الجولة الرابعة عن ضرورة إنهاء وجود القوات الأجنبية وليس مجرد جدولة انسحابها، على الرغم من أن واشنطن وبغداد اتفقتا على هذه المسألة في الجولة الثالثة في إبريل الماضي، وهناك تفاهم على إنهاء وجود القوات القتالية الأميركية (500 جندي)، وحصر مهام الوحدات المتبقية (نحو 3200 عنصر) على تدريب القوات العراقية. ولكن الثقة بالكاظمي اهتزت في واشنطن، حسب مصادر دبلومسية عراقية، وهناك مراجعة لكافة التفاهمات السابقة. ومن هنا تم توجيه ضربات لفصائل من "الحشد"، كان من أبرزها قصف مواقع "كتائب سيد الشهداء" في السابع والعشرين من الشهر الماضي داخل الأراضي العراقية، وعلى الحدود السورية العراقية.
إزاء ذلك هناك سؤال هام، حول التداعيات المترتبة على انسحاب القوات الأميركية من العراق، في حال أسفرت الجولة الرابعة من الحوار عن اتفاق بصددها؟
هذه المسألة مطروحة منذ زمن طويل يعود إلى عام 2008، ولكنها تأخرت بسبب التطورات التي حصلت في الأعوام الأخيرة. وباتت قضية داخلية منذ أن صوّت عليها 170 نائباً في البرلمان العراقي (329 نائباً)، بعد مقتل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس "الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020. وإذ يتم تصويرها على أنها طلب عراقي بحت، فإنها كانت إحدى أولويات الإدارة الأميركية السابقة، وجرى إدراجها على جدول أعمال الاجتماع بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والكاظمي في أغسطس الماضي، وقال قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال كينيث ماكنزي إن "دور القوات الأميركية في العراق محصور بالتدريب وبالعمليات المضادة للإرهاب بالاشتراك مع القوات العراقية الخاصة".
وخلافاً للبنتاغون، بدا ترامب مستعجلاً لسحب الكثير من القوات في الخارج قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وكان عازماً في هذا السياق على إجراء خفض سريع للقوات الأميركية في العراق "الذي لا يحتاج الآن لدعم عسكري مباشر على الأرض/ وأن مستوى المساعدة يتوقف على طبيعة المتغيرات والتهديدات"، حسب الكاظمي الذي تحدث عن حصول التوافق على الخفض العسكري الأميركي.
خشية أميركية واضحة من استغلال إيران الفراغ الذي ستخلّفه القوات الأميركية
واليوم هناك خشية أميركية واضحة من استغلال إيران الفراغ الذي ستخلّفه القوات الأميركية، وجرت حوارات غير معلنة بين واشنطن وأنقرة وأربيل من أجل مواجهة الوضع الجديد، وقطع الطريق على إيران. وشارك الكاظمي في جانب منها، وحسب مصدر قيادي كردي قريب من قيادة إقليم كردستان، فإن الكاظمي يبحث عن دعم في الانتخابات البرلمانية في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ومصدر خشية الأطراف الاقليمية هو الحصة التي ستحصل عليها الأطراف المحسوبة على إيران في البرلمان العراقي ومؤسسات الدولة العراقية. وتشير تقديرات بعض الخبراء المتابعين للشأن العراقي إلى أن طهران تطمح للسيطرة على قراري الحكومة والبرلمان، كما كان عليه الأمر في فترة رئاسة الوزارة من قبل نوري المالكي (2006-2014). وفي الحالة الكردية يبدو القلق مضاعفاً لأن اخراج القوات الأميركية من العراق يتضمّن إخراجها من إقليم كردستان العراق. ويرى الجانب الكردي الذي يشارك في الجولة الرابعة بوفد كبير، أن ذلك سوف يؤدي إلى تقوية شوكة الأطراف الموالية لإيران على حساب المكونات الأخرى، السنّة والأكراد. ومن الواضح أن هذه الاعتبارات تؤشر إلى أن الانسحاب النهائي للقوات الأميركية من العراق، يمكن أن يعقّد الوضع بشكل خطير في عدد من المناطق الرئيسية في البلاد، فضلاً عن تفاقم الوضع في سورية بشكل خطير.
إلى ذلك يستعد العراق لإجراء الانتخابات العامة في موعدها المقرر (أكتوبر/تشرين الأول)، وسط ضغوط تمارسها أطراف في "الحشد الشعبي" من أجل تأجيلها، كي تستكمل الاستعدادات للإمساك بمفاصل السلطة في العراق، وذلك في مواجهة انتفاضة شعبية متواصلة منذ أكثر من عام، للتعبير عن الغضب إزاء استمرار الوجود الإيراني، وهو أمر يربطه الشعب العراقي باستمرار الاضطرابات وتدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد. ويُظهر الاستياء الساحق في أوساط العراقيين، كيف أن حملة بسط النفوذ التي تشنّها إيران في المنطقة تواجه ردود فعل ساخطة واسعة النطاق. وفي هذا الوقت، لن يساهم خروج القوات الأميركية سوى في ترسيخ قبضة إيران على العراق، ومفاقمة حدة الأزمة الاقتصادية الحالية، وزيادة الضغوط الخارجية والداخلية، وتدهور الوضع الأمني.