خلافاً لما يُعتقد في النقاش الدائر حول تأسيس "الحرس الوطني" في إسرائيل، على أنّها فكرة تعود إلى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بهدف تشكيل قوّة شُرطيّة/ أمنيّة إضافيّة، تكون مهمتها الأساسيّة قمع الاحتجاجات في البلدات العربيّة في الداخل الفلسطيني خلال أحداث مشابهة لهبّة أيّار عام 2021، فإن الفكرة بدأ تنفيذها بالفعل قبل دخول بن غفير للحكومة، خلال حكومة بينت - لبيد عام 2022، أي قبل تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، في تحالفها مع أقصى اليمين المتطرف الذي يمثله بن غفير.
عودة إلى الهبّة
تعود الفكرة إلى ما خَلُصت إليه المؤسسة العسكريّة والسياسيّة في إسرائيل، إبّان وفي أعقاب هبّة الكرامة الفلسطينيّة في مايو/أيّار 2021 التي سُمّيت إسرائيلياً "حارس الأسوار"، من ضرورة تأسيس قوّة أمنيّة تتولى "الفوضى" في الجبهة الداخليّة، التي قد تعطّل أو تؤثر بعمل الجبهة الخارجيّة". لم تتوقع المؤسسة الإسرائيليّة، كما في كل هبّة وانتفاضة فلسطينيّة، أن يخرج فلسطينيو الـ48 إلى مظاهرات، وإغلاق شوارع، والشروع في مواجهات مع الشرطة الإسرائيليّة. اعتقدوا أن الأمر انتهى في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 بقتلهم 13 شاباً، وبسياسات العصا، عبر الملاحقة وتشديد الخناق على العمل السياسي، وبقوانين عنصريّة، وبسياسات الجزرة، من خلال التسهيلات والدمج الاقتصاديّة، وتحسين الظروف المعيشيّة، وخلق طبقة مستفيدة من الاستقرار الإسرائيلي.
إلّا أن الرياح لم تأتِ بما اشتهته أحلام إسرائيل في أسرلة مواطنيها الفلسطينيين، فخرج جيل جديد يهز السفينة من الداخل، يُغلق الشوارع ويواجه ويتحدى سياسات الترهيب وسياسات الاستعمار في عزل الشعب الفلسطيني في القدس وغزّة والضفة. أكثر ما يُقلق المؤسسة الإسرائيليّة في هذا الجيل، ليس حالة التضامن العابرة للتقسيمة الاستعماريّة لفلسطين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والخروج في مظاهرات منظمة من قبل حراكات شبابيّة وأحزاب تتحول لاحقاً إلى مواجهات، فهذه أمور تعاملت معها إسرائيل في السنوات السابقة، وتستطيع احتواء صداها. المقلق الحقيقي والدافع الأساسي لتشكيل "الحرس الوطني"، إغلاق شوارع رئيسيّة تمر بها قوات جيش الاحتلال خلال مواجهة عسكريّة خارجيّة، ما يعطّل ويؤخر عملها، إضافة إلى عدم الاستقرار في المدن التي تسميها إسرائيل "المدن المختلطة". وهذا ما حصل في مايو/ أيّار 2021، وهذا ما صُرّح به علانية.
أثار القرار حفيظة المعارضة الإسرائيليّة والعديد من الشخصيّات الأمنيّة، بسبب تبعية هذا الجهاز الأمني لبن غفير شخصياً
وسبب ثالث أكثر خطورة تتخوف منه المؤسسة الأمنيّة مستقبلاً، متمثل بخروج سلاح بعض المجموعات المحسوبة على الجريمة المنظمة عن السيطرة، في مثل هذه الحالات، لمواجهة الشرطة الإسرائيليّة، وهو أمر حصل نسبياً بحالات فردية خلال مايو/ أيّار 2021. شهدت بعض البلدات العربيّة والمدن الساحليّة استعمال هذا السلاح، في أعقاب تسهيل دخول جماعات المستوطنين إلى مدن فلسطين التاريخيّة، خلال مواجهات مايو/ أيّار، وكان هذا الدخول أداة ردع مبطنة استخدمتها المؤسسة الإسرائيليّة بديلاً من القناصة، التي استخدمت في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 بحق الفلسطينيين في الداخل. لوحظ بعد استعمال السلاح في عدد من المواقع مع حالة الفوضى الداخليّة، اضطرار الشرطة الإسرائيليّة إلى منع دخول المستوطنين وكبحهم، كي لا تُفقد السيطرة أكثر من ذلك. لم يكن استخدام السلاح الموجود بكثرة بين المواطنين الفلسطينيين، وبدراية أجهزة الأمن والمخابرات، أمراً مخططاً له، بل عفوياً، وردّة فعل على ما تقوم به السلطات الإسرائيليّة من قمع، وهو سلاح بأيدي عناصر الجريمة المنظمة، التي تتوانى الشرطة عن جمعه ولا تحاربه، معظمه مُهرّب من مخازن الجيش الإسرائيلي، ويحصد أرواح عشرات الفلسطينيين كل عام، في دوامة من جرائم العنف.
معركة على الردع
تدرك المؤسسة الإسرائيليّة أن معركة الردع لم تعد تتعلق بـ"الأعداء" الخارجيين فقط، بل أيضاً بمواطنيها الفلسطينيين، ممن قد يلحقون ضرراً داخلياً خلال أي مواجهة خارجيّة. وعلى هذا الأساس بدأ تأسيس جهاز "الحرس الوطني" قبل عشرة أشهر، ليكون تحت قيادة قائد حرس الحدود الإسرائيلي لمواجهة "حوادث العنف المدني في مختلف مراكز البلاد، وسيُكلَّف حراسة الطرق، وتأمين المناطق المفتوحة، ومساعدة القوات النظاميّة في المدن المعنية والحماية من الجريمة"، بحسب ما عُرِّفَت مهامه في حينه. يترأس الحرس اليوم نائب المفوض مئير إلياهو، ويتبعه قائد اللواء التكتيكي يارون دهان، وقائد شعبة الأمن الداخلي الملازم أول شلومي يوسف، ويُعمَل على إضافة مئات المقاتلين إلى صفوفه بوحدات مختلفة.
بن غفير في السلطة وصفقة الاحتجاجات
بعد وصوله إلى الحكومة الإسرائيليّة وزيراً للأمن الداخلي، صرّح إيتمار بن غفير في أكثر من مناسبة عن رغبته بإقامة "الحرس الوطني" دون أن يأخذ ذلك اهتماماً واسعاً، لكثرة الضجة والتصريحات الداخليّة التي كان يحدثها ضمن الخريطة السياسيّة، في ظل خلافات تصيب المجتمع الإسرائيلي والانقسامات العميقة. كان وصوله إلى السلطة حلماً يحققه في قمع الفلسطينيين مباشرةً من خلال إشرافه على وزارة الأمن، فهو في السابق كان يزاحم على اقتحامات المسجد الأقصى، أمّا اليوم فيشرف على إفراغه بالعنف من أجل تسهيل دخول المستوطنين.
حركة احتجاج المعارضة الإسرائيليّة على خطة اليمين في تغيير نظام القضاء الإسرائيلي قلبت المعادلة، بعدما تحولت خطة تغيير القضاء في إسرائيل إلى قضيّة أمنيّة داخليّة ودوليّة، فرضت فيها الاحتجاجات على رئيس الحكومة التراجع لحظياً، الأمر الذي قبل به بن غفير مقابل صفقة الحصول على إقامة الحرس الوطني ليكون تابعاً له. أثار القرار حفيظة المعارضة الإسرائيليّة والعديد من الشخصيّات الأمنيّة، بسبب تبعية هذا الجهاز الأمني لبن غفير شخصياً. تأتي التخوفات من أكثر من منطلق، منها ما هو متعلق بالانقسامات الداخليّة، ومنها ما هو متعلق بشخصيّة بن غفير القادمة من الكاهانيّة، الكارهة ليس فقط للعرب، بل لما يسمى اليسار الإسرائيلي، وفي أن يستخدم الحرس الوطني ضد المعارضة. تخوفات داخليّة مصحوبة بتخوفات يهوديّة خارجيّة من الصورة الجديدة التي ترتسم عن إسرائيل البعيدة عن "قيم الليبراليّة الغربيّة"، التي روُجت عنها وعملوا لأجلها على مدار عقود.
رُصدت مبالغ كبيرة بمليارات الشواكل لإقامة هذا الحرس، وما زالت النقاشات الإسرائيليّة الداخليّة مستمرة حول تبعية هذا الجهاز، وليس حول طبيعته العدوانيّة، فلا يوجد خلاف مبدأي بين المعارضة واليمين على إقامة حرس وطني، النقاش هو حول تبعيته لجهاز الشرطة والأمن، أم استقلاليته تحت تبعية بن غفير. أمّا قمع الفلسطيني، فهو أمر متفق عليه في أقطاب الخريطة السياسيّة الإسرائيليّة.