الحرب تقسّم أحياء الخرطوم: تطبيع مع الحياة تحت القصف

10 يونيو 2023
تبدو الحياة شبه طبيعية في بعض أجزاء العاصمة (فرانس برس)
+ الخط -

تُقدّم العاصمة السودانية الخرطوم صورة واضحة عن تداعيات الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ومحاولة المدنيين تطبيع حياتهم تحت القصف والاشتباكات شبه اليومية. فمنذ اندلاع القتال في 15 إبريل/نيسان الماضي، توزعت السيطرة بين الطرفين على مواقع مدنية وعسكرية في مدن العاصمة الثلاث، الخرطوم وبحري وأم درمان، ليتقاسما السيطرة على المنطقة الواحدة، وهو ما فرض على الأهالي العيش في قلق وترقب مستمر خوفاً من وصول القتال إلى منازلهم.

وتختلف الصورة من منطقة إلى أخرى في العاصمة السودانية، فبعضها بات شبه خالٍ من السكان جراء الاشتباكات العنيفة فيها والقصف الذي لا يتوقف، في حين تبدو الحركة شبه طبيعية في مناطق أخرى.

جولة في مناطق الصراع

"العربي الجديد" جالت بين منطقتين، يسيطر على الأولى الجيش السوداني، بينما تتحكم في الأخرى قوات الدعم السريع. بدأت الرحلة من منطقة الشجرة جنوب مدينة الخرطوم والتي تضم قيادة سلاح المدرعات، أحد أهم أفرع الجيش السوداني، حيث التواجد العسكري المكثف للجيش، والذي أغلق بعض الطرق بالحواجز الإسمنتية والحاويات التي تتمركز خلفها مجموعة من الدبابات وسيارات الدفع الرباعي مثبت عليها مدافع الدوشكا، وتم دفن بعض السيارات في الأرض حتى مستوى المدفع.

يضج سوق الكلاكلة اللفة بالباعة والمتسوقين وتبدو الحركة طبيعية فيه

بعد خروج الحافلة من المنطقة تبدأ اتّباع خط سير مختلف عن الخط السابق قبل الحرب، وتتوجه إلى منطقة الكلاكلة، حتى الوصول إلى المحطة الأخيرة وهي سوق الكلاكلة اللفة. واللافت في السوق اختلاف الوضع تماماً، إذ يضج بالباعة والمتسوقين والسيارات وحافلات المواصلات والسفريات إلى بعض الولايات القريبة، مع ظهور عناصر شرطة المرور غير الموجودين في أي منطقة أخرى.

وتبدو الحياة في سوق اللفة عادية باستثناء إغلاق بعض المحال القليلة، وكل شيء متوفر فيه، من الخضروات واللحوم إلى محال الحلاقة والبقالة، وحتى محال الذهب والمجوهرات تفتح أبوابها. ويتمركز في ناصية السوق عناصر من قوات الاحتياطي المركزي التابعة لوزارة الداخلية، مدججين بالأسلحة ويحملون بنادق "جي 3" مثل التي يحملها بكثرة عناصر الدعم السريع، على خلاف بنادق كلاشنكوف التي تستخدمها الشرطة.

من سوق اللفة تتواصل رحلة "العربي الجديد" جنوباً على متن الحافلة المتجهة إلى منطقة طيبة الحسناب، الواقعة في محلية جبل أولياء، حيث محطة الحافلة الأخيرة في سوق الجبل. تمتلئ الحافلة بالركاب الذين يحملون حقائب السفر وأكياس السلع الغذائية، وبمجرد الخروج من سوق اللفة بنحو كيلومتر واحد تظهر على جانب الطريق غرفة صغيرة زرقاء اللون تابعة للشرطة، فتتوقف الحافلة ويصعد على متنها شرطي ويطلب من أشخاص محددين إبراز هوياتهم، قبل أن يسمح للحافلة بالعبور.

تستمر الرحلة من هذه النقطة، حيث لا وجود للشرطة أو الجيش حتى معسكر قوات الاحتياطي المركزي في منطقة الشقيلاب، وهناك تسلك الحافلات طريقاً آخر عند الاقتراب منه بسبب إغلاق الطريق، وتعبر داخل حي سكني قبل أن تعود مجدداً إلى الطريق العام عند محطة الأقمار الصناعية، التي تعرضت للتدمير والحرق جراء الاشتباكات التي تدور حولها. واعتباراً من هذه النقطة يختلف كل شيء.

بعد تجاوز محطة الأقمار الصناعية تبدأ في الظهور سيارات الدعم السريع ذات الدفع الرباعي، ملطخة بالطين وعليها مدافع الدوشكا والمدافع المضادة للطائرات. وتشتهر هذه السيارات التي تسمى في السودان باسم "تاتشر" بأنها رمز للحرب، لانتشارها واستخدامها الكبير في الصراعات والحروب. وعلى جانب الطريق يتوزع عناصر الدعم السريع في محال بيع الشاي القليلة العاملة والمتاجر يشحنون هواتفهم ويحتسون القهوة.

في هذه المنطقة يظهر عنصران من الدعم السريع ويطلبان من سائق الحافلة التوقف، ويصعدان معه للوصول إلى بوابة التفتيش التالية. عند البوابة تتوقف على جانب الطريق شاحنات وسيارات صغيرة تخضع للتفتيش، وبعد نظرة سريعة إلى وجوه الركاب والسؤال عما تحتويه بعض الحقائب يُسمح للحافلة بالمواصلة، وتمر بثلاث نقاط تفتيش أخرى قبل دخول منطقة طيبة. هذه المنطقة تكمن أهميتها في أنها تضم أحد أكبر المعسكرات التابعة لقوات الدعم السريع وأكثرها مقاومة، وهو معسكر قريب من قاعدة ود النجومي الجوية المخصصة للطائرات المروحية في منطقة جبل أولياء حيث يتمركز الجيش.

محاولة التطبيع مع الحرب

المواطن عبد الباقي محمد، من سكان طيبة والذي يعمل وسيطاً عقارياً، يقول لـ"العربي الجديد" إنهم تأقلموا مع الوضع واعتادوا على التعايش مع السيطرة التي تفرضها قوات الدعم السريع، والتي تشتبك باستمرار مع الجيش السوداني. ويضيف: "نتعامل معهم كأمر واقع، وعلى الرغم من رحيل الكثير من سكان المنطقة لكن ما يزال البعض موجوداً"، متابعاً "تقلقنا فقط الاشتباكات والقصف الذي تتعرض له المنطقة بين الحين والآخر بالمدافع والطائرات بسبب وجود معسكر الدعم السريع الضخم".

أما المواطنة حواء إسماعيل التي تسكن حي الحاج يوسف في مدينة بحري، فتقول لـ"العربي الجديد" إن منطقتهم مترامية الأطراف تتقاسمها قوات الجيش والدعم السريع، مضيفة أن الجيش يتمركز حالياً في منطقة الطريق الدائري الحاج يوسف ومحطة 24، بينما تتواجد قوات الدعم السريع في المحطة 13 ومنطقة "سوق ستة". وتتابع: "الناس هنا يترقبون اشتباكاً في أي لحظة، وهناك حالة من القلق والتوتر في أوساط المدنيين، خصوصاً بعد ظهور عصابات مسلحة تجوب الأحياء ليلاً مع إطلاق نار مكثف مجهول المصدر".

حواء إسماعيل: الناس يترقبون اشتباكاً في أي لحظة، ونعيش في حالة من القلق والتوتر

وتضيف إسماعيل: "نذهب إلى السوق والمتاجر القريبة لشراء حاجيات المنزل لأيام عديدة حتى لا نخرج يومياً، بسبب خوفنا من العصابات أكثر من الحرب نفسها، وحالياً لا يعمل في المنزل سوى شقيقي في صيانة الهواتف ويذهب ويعود كل يوم بصعوبة وخطورة".

ويبدأ تقسيم السيطرة بين الجيش والدعم السريع ابتداء من القيادة العامة ومطار الخرطوم حيث دارت أعنف الاشتباكات، وبعدها الوزارات والمؤسسات الحكومية التي يتقاسمها الطرفان ومعظمها يقع بالقرب من القصر الجمهوري على ضفة النيل الأزرق، علماً أن القصر سيطرت عليه لأيام قوات الدعم السريع، قبل أن يعود الجيش إليه.

في الأحياء السكنية تقع مناطق عسكرية من بينها سلاح المدرعات في منطقة الشجرة جنوب الخرطوم، وسلاح الإشارة في بحري، وسلاح المهندسين ومطار وادي سيدنا العسكري في أم درمان. وما تزال الاشتباكات تدور داخل وحول هذه المناطق لفرض السيطرة عليها، ومعظمها حالياً تحت سيطرة الجيش.

تعرضت معسكرات الدعم السريع للقصف من سلاح الجو التابع للجيش ودُمر بعضها

أما معسكرات الدعم السريع فتتوزع في مناطق متعددة، من بينها أحياء طيبة الحسناب ومنطقة جنوب الحزام في جنوب الخرطوم، ومعسكر كافوري في بحري. وتعرضت معسكرات الدعم السريع للقصف من سلاح الجو التابع للجيش ودُمر بعضها. ويضاف إلى تلك المراكز مقر الاستراتيجية العسكرية في شارع الغابة في الخرطوم الذي يتصارع عليه الطرفان ويقع قرب منطقة التقاء النيلين.

أمير ادم، الذي يسكن مدينة أم درمان، يقول إنهم يعيشون في رعب يومي بسبب التواجد العسكري والاشتباكات المستمرة. ويضيف في تصريح لـ"العربي الجديد": "نبدأ يومنا بشراء بعض ما نحتاجه إذا استطعنا، ثم نغلق أبوابنا علينا، لكننا نعاني من انعدام الدواء، وأحتاج إلى  أدوية مهمة لم أستطع الحصول عليها". ويوضح أنه يعيش وأسرته الصغيرة في منطقة تسيطر عليها الدعم السريع، فيما تعيش أسرته الكبيرة في منطقة خاضعة للجيش والحياة فيها أفضل قليلاً، على الرغم من مغادرة الكثير من السكان منازلهم.

المساهمون