استمع إلى الملخص
- **تباينات في المواقف الغربية**: تدعم بريطانيا وفرنسا تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، بينما تتردد الولايات المتحدة في اتخاذ قرار نهائي، وترفض ألمانيا ودول أوروبية أخرى ذلك خوفاً من تصعيد الحرب.
- **خيارات الغرب ومخاطر التصعيد**: تواجه الدول الغربية معضلة في رسم سياساتها إزاء الحرب الأوكرانية، مع تحذيرات من مخاطر انهيار القوات الأوكرانية. الخيارات تشمل تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى أو تعزيز قدراتها الدفاعية، وكلاهما ينطوي على مخاطر كبيرة.
في مؤشر إلى رغبة أميركية في امتصاص الغضب الروسي، ودراسة أفضل الخيارات لدعم أوكرانيا من دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، وذلك بعد حوالي عامين ونصف العام على الحرب الأوكرانية التي بدأت في فبراير/ شباط 2022، تجنّب الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر، أول من أمس الجمعة، الحديث عن منح كييف الضوء الأخضر لاستخدام أسلحة بعيدة المدى غربية الصنع في ضرب أهداف في العمق الروسي، وهو ما يطلبه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فيما تحدثت موسكو أمس السبت عن علمها بقرار غربي اتخذ في هذا الشأن، محذرة من العواقب.
وعلى عكس توقعات سابقة بأن يشكل اللقاء الذي جمع بايدن وستارمر الجمعة في واشنطن نقطة تحول في دعم الغرب لأوكرانيا، كرّرت التصريحات العلنية للطرفين المواقف السابقة. وعلى الرغم من تأكيد بايدن تضامن الولايات المتحدة مع المملكة المتحدة في دعم أوكرانيا ضد روسيا، وتشديده خلال الاجتماع في البيت الأبيض على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن ينتصر في الحرب، وأن الشعب الأوكراني هو الذي سوف ينتصر، إلا أنه أحجم عن الإجابة عن سؤال حول رغبة كييف في الحصول على صواريخ بعيدة المدى لضرب عمق الأراضي الروسية، مكتفياً بالقول "سنناقش ذلك".
في المقابل، أشار ستارمر إلى أن "الأسابيع والأشهر المقبلة قد تكون حاسمة ومهمة في الاستمرار في دعم أوكرانيا في حرب الحرية". وفي ختام الاجتماع، أوضح أنه أجرى مناقشة واسعة النطاق عن الاستراتيجية المتّبعة في الحرب الأوكرانية مع الرئيس الأميركي، وشدّد على أن كييف تملك الحق في الدفاع عن نفسها، لكنه لم يتطرق إلى موضوع استخدام صواريخ ستورم شادو بريطانية الصنع بعيدة المدة في ضرب أهداف داخل روسيا، وخلص إلى أن إنهاء الحرب في أوكرانيا يعود لبوتين.
أشار ستارمر إلى أن الأسابيع والأشهر المقبلة قد تكون حاسمة في الاستمرار بدعم أوكرانيا
وتوالت خلال الأيام الأخيرة الماضية تقارير عدة حول الحرب الأوكرانية المتواصلة وكيفية دعم الغرب لكييف، ذهب بعضها إلى أن واشنطن ولندن على وشك منح هذا البلد الضوء الأخضر لاستخدام أسلحة بعيدة المدى واستهداف العمق الروسي بها، على أن يكون الإعلام في اجتماع بايدن وستارمر. وقالت تقارير إن وزيري الخارجية الأميركي والبريطاني، أنتوني بلينكن ودافيد لامي، اطلعا خلال زيارة لهما إلى كييف الأربعاء الماضي، على الأهداف الذي يريد الجيش الأوكراني استهدافها في العمق الروسي. وفي وقت سابق، أشارت تقارير إلى أن رئيس ديوان الرئاسة الأوكرانية أندري يرماك أطلع المسؤولين في واشنطن نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي على خطة كييف المتكاملة لتغيير الأوضاع في الحرب الأوكرانية.
وتكشف نتائج القمة المعلنة بين بايدن وستارمر أن مواقف الولايات المتحدة لم تتغير كثيراً، وأنها أجّلت البت في هذا الموضوع الحسّاس بناء على التطورات الميدانية والسياسية التي قد تطرأ خلال الأيام المقبلة. وعلى الرغم من تأكيد بايدن أنه "لا يفكر ببوتين"، ردّاً على سؤال حول التهديدات الروسية النووية وحديث الرئيس الروسي عن حرب مباشرة مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) إذا سلّم الغرب أسلحة بعيدة المدى لأوكرانيا لضرب العمق الروسي، فقد بدا أن تهديدات بوتين انعكست على أجواء النقاشات، وأدّت إلى تأجيل البت في موضوع السماح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة طويلة المدى وربطها بالتطورات الميدانية والسياسية حتى نهاية شهر سبتمبر/أيلول الحالي.
لكن وكالة تاس الروسية للأنباء نقلت، أمس السبت، عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف قوله إن موسكو تعلم أن الغرب اتخذ قراراً بشأن ما إذا كان سيسمح لأوكرانيا بمهاجمة روسيا بصواريخ بعيدة المدى وأبلغ كييف بذلك. ولم يوضح ريابكوف طبيعة القرار الذي يشير إليه، لكنه أضاف أن عدم نجاح تحذيرات موسكو الشفهية للغرب من مغبة المزيد من التصعيد، سيجبر روسيا على التحول إلى إرسال الإشارات بطرق مختلفة.
تباينات في المواقف الغربية
استبق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي المباحثات بين بايدن وستارمر، بالتأكيد الخميس، للصحافيين، أن واشنطن لا تعتزم إعلان أي سياسة جديدة بشأن كييف واستخدامها صواريخ بعيدة المدى. وأضاف: "لا توجد تغييرات في رؤيتنا بشأن تزويد أوكرانيا بقدرات هجومية بعيدة المدى لاستخدامها داخل روسيا". وما قاله كيربي يعكس تردد واشنطن.
يشار هنا إلى أن الولايات المتحدة عدّلت في السابق قاذفات الصواريخ المتطورة "هيمارس" التي أعطتها لأوكرانيا، بحيث لا يمكن استخدامها لإطلاق صواريخ بعيدة المدى على روسيا. لكن مع ذلك، يبدو أن واشنطن باتت اليوم منفتحة على البحث عن حلّ وسط لا تكون طرفاً مباشراً فيه، حتى لا يُنظر إليها كمتسببة في التصعيد مع روسيا. وفي حين تدعم بريطانيا وفرنسا تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، وأن تكون كييف قادرة على استخدامها لضرب قواعد عسكرية داخل روسيا، ما زالت ألمانيا ترفض طلب أوكرانيا تزويدها بصواريخ "توروس"، التي يصل مداها إلى 500 كيلومتر. كذلك تُعارض دول أوروبية، مثل المجر وسلوفاكيا، تزويد أوكرانيا بالأسلحة، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى تصعيد الحرب الأوكرانية.
تتعالى التحذيرات من مخاطر انهيار القوات الأوكرانية في دونيتسك، وتحوّل هجوم كورسك إلى فخّ روسي
وأمام التردد الأميركي، وكون قرار تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة بعيدة المدى بيد الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، من غير المستبعد أن توافق واشنطن في نهاية المطاف، كحلّ وسط، على أن تزوّد لندن وباريس كييف بصواريخ بعيدة المدى من طراز "ستورم شادو"، التي تحتوي على مكونات أميركية، وأن تسمحا لها باستخدامها في استهداف العمق الروسي، ويعني ذلك عملياً موافقة أميركية ضمنية. لكن على الرغم من المخرج الذي قد تعتمده واشنطن، فإن قرار تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى، ورفع القيود على استخدامها، ينطوي بحد ذاته على مغامرة كبيرة من الغرب ككل.
قرار يحدّد مسار تطور الحرب الأوكرانية
تواجه حكومات البلدان الغربية معضلة كبيرة في رسم سياساتها المستقبلية إزاء الحرب الأوكرانية المتواصلة، في وقت وصلت فيه هذه الحرب إلى مفترق طرق، على ضوء التحذيرات من مخاطر انهيار القوات الأوكرانية في جبهة دونيتسك، وإمكانية تحول الهجوم الذي شنته القوات الأوكرانية على مقاطعة كورسك الروسية إلى فخّ لاستنزاف قوات النخبة الأوكرانية، وحديث تقارير غربية عن تسلم روسيا شحنات كبيرة من الصواريخ البالستية وطائرات دون طيار إيرانية، ستكون موسكو قادرة على استخدامها خلال أسابيع في استهداف البنية التحتية في العمق الأوكراني.
ومع افتقار أوكرانيا إلى ما يكفي من أسلحة الدفاع الجوي، يمكن أن تفرض روسيا استمرار الحرب في مسارها الحالي لفترة طويلة، كحرب استنزاف، تتخللها معارك هجومية من وضعية الدفاع، أثبتت فاعليتها منذ فشل الهجوم الأوكراني المعاكس في صيف 2023، بتمكين القوات الروسية من تحقيق تقدّم على جبهتي دونيتسك وخاركيف، وهو أمر سيفرض تغييراً في المعادلات، على الرغم من بطء التقدم والكلفة البشرية الباهظة. على ضوء ما سبق، واستبعاد فرص الوصول إلى تسوية مقبولة للحرب الأوكرانية بعد عامين ونصف العام، تجد الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، كلاهما ينطوي على مخاطر ومحاذير كبيرة.
الخيار الأول اتخاذ قرار بتزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، ومنحها الإذن بمهاجمة أهداف داخل روسيا، ضمن تقدير أن هذا الأمر من شأنه أن يغيّر مسار الحرب الأوكرانية بطابعها الراهن، والتي بدأت ترجح كفتها نسبياً بشكل تدريجي لصالح روسيا، على الرغم من وجود إخفاقات روسية، أبرزها توغل القوات الأوكرانية في كورسك واحتفاظها بقرابة ألف كيلومتر مربع منذ 6 أغسطس الماضي.
الدول الغربية سلّمت أوكرانيا معظم مخزوناتها من الأسلحة بعيدة المدى
ومن وجهة نظر كييف وواشنطن ولندن وباريس قد يكون اللجوء إلى هذا الخيار حاسماً في تغيير مسار الحرب إذا تمكنت القوات الأوكرانية من ضرب القواعد العسكرية والوصول إلى مستودعات الأسلحة والمطارات وطرق الإمداد في العمق الروسي، لأن ذلك سيجعل من الصعب على روسيا مواصلة الهجوم المكثف على أهداف داخل أوكرانيا، وإمداد القوات الروسية على الجبهات. وهذا بدوره سيقلّل من إصرار موسكو على مواصلة الحرب، ويزيد في الوقت نفسه من فرص إجراء مفاوضات سلام تتمتع فيها أوكرانيا بموقف قوي مثل روسيا. إلا أن الجميع يقرّ بضرورة عدم استبعاد المخاطر المحتملة، التي قد تحددها طبيعة ودرجة الرد الروسي.
الخيار الثاني امتناع الدول الغربية عن اتخاذ تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، أو السماح لها باستخدامها في العمق الروسي، مقابل التركيز على تعزيز القدرات الدفاعية الأوكرانية، خصوصاً الجوية منها. وبحسب البيانات المفتوحة، فإن الدول الغربية سلّمت أوكرانيا معظم مخزوناتها من الأسلحة بعيدة المدى مثل صواريخ ستورم شادو وسكالب - النسخة الفرنسية منها، كما أن الجيش الأميركي بات يحتفظ فقط بالكميات اللازمة للدفاع عن البلد من صواريخ أتاكمز، ولا يملك احتياطات لتلبية طلب الحلفاء في حال الحاجة الملحّة. ونظراً لاستنزاف المخزون العسكري الغربي خلال العامين الماضيين، فإن إمكانية تلبية احتياجات أوكرانيا بالسرعة اللازمة مسألة صعبة، في ظلّ القدرة الإنتاجية بمصانع الأسلحة الغربية.
ومنذ تسلم أوكرانيا صواريخ ستورم شادو وهايمارس وأتاكمز في العامين الماضيين، اضطرت روسيا إلى نقل تمركز قواتها، وطائراتها إلى مسافات تتجاوز 200 كيلومتر عن الجبهة. ومع نجاح ضربات الطائرات المسيّرة الأوكرانية في الوصول إلى مسافات بعيدة في عمق روسيا تجاوزت 1800 كيلومتر، وتطوير أنواع جديدة من المسيرات مثل "باليانيتسيا" وهي طائرة - صاروخ بعيدة المدى طوّرتها أوكرانيا بدعم غربي لتدمير القدرة الهجومية لروسيا، فإن الصواريخ بعيدة المدى غير ضرورية في المعارك الحالية.
ويذهب فريق من الخبراء إلى أنه من الأفضل للولايات المتحدة والغرب التركيز على تقوية الدفاعات الأوكرانية، ومن ضمنها الدفاعات الجوية لإحباط الهجمات الروسية المتكررة على البنى التحتية الحيوية والعسكرية في عمق أوكرانيا. وتبدو هذه المهمة ملحّة وعاجلة في ظل تقارير عن حصول روسيا على صواريخ إيرانية جديدة قصيرة المدى يمكن استخدامها لضرب الأهداف القريبة بدلاً من استهلاك الصواريخ الاستراتيجية الروسية التي بدأت تنفد ولا تستطيع روسيا تعويضها بسرعة، ويجب عدم إهمال الدعم الكوري الشمالي المتوقع بعد زيارة رئيس مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو بيونغ يانغ، ولقائه الرئيس كيم جونغ أون هذا الأسبوع.
تهديدات بوتين ونداءات زيلينسكي
من الواضح أن صدى كلمات بوتين كان أقوى من نداءات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المتكررة منذ اقتحام الحدود في خاركيف في مايو/ أيار الماضي، لاستخدام هذه الأسلحة في عمق روسيا. ومعلوم أن بوتين حذّر في تصريح للتلفزيون الروسي، يوم الخميس الماضي، من أنه "إذا سُمح لأوكرانيا بضرب الأراضي الروسية بصواريخ بعيدة المدى غربية الصنع، سيغيّر ذلك طبيعة النزاع على نحو كبير. وسيعني انخراط بلدان ناتو والولايات المتحدة والبلدان الأوروبية في حرب مع روسيا"، ملوحاً بأنه "سوف نتخذ التدابير المناسبة لمواجهة التهديدات".
يسعى الغرب لتثبيت وقائع على الأرض قبل احتمال عودة ترامب للبيت الأبيض
من منظور سياسي، ستقرأ موسكو تردد الغرب في منح كييف الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة بعيدة المدى على أنه جاء بعد التهديد بتعديل العقيدة النووية وتغيير قواعد اللعبة. وهنا تكمن المعضلة في الحسابات الأميركية والغربية، التي تضع راهناً في مقدمة أهدافها محاولة تثبيت وقائع على الأرض من شأنها أن تعزز موقف أوكرانيا، تحسباً لاحتمال فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بولاية جديدة في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّرة في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
في المقابل، على الرغم من التحذيرات القوية التي صدرت عن موسكو، إلا أن تصريحات بوتين الأخيرة اتسمت بالغموض بشأن التدابير التي يمكن اتخاذها، كما كان لافتاً أنه لم يهدد باستخدام الأسلحة النووية. رغم ذلك، فإن الغضب الروسي كان واضحاً في تصريحات جميع المسؤولين، وبدا أن التركيز انصبّ على تأجيل القرار الغربي لأطول مدة ممكنة يمكن أثناءها أن يحسم الجيش الروسي الأوضاع في دونيتسك ولوغانسك، تمهيداً للجلوس على طاولة المفاوضات بأوراق قوة إضافية. ويجب عدم إهمال السياق العام لتحذيرات بوتين، ففي 4 سبتمبر الحالي، حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، واشنطن، من العبث بالخطوط الحمراء التي حدّدتها موسكو. وفي غمرة النقاشات الحالية، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن روسيا ستغير عقيدتها النووية على خلفية التحديات والتهديدات التي تثيرها الدول الغربية. وشدّد بيسكوف على أن موسكو تأخذ في الاعتبار احتمال استخدام كييف أسلحة بعيدة المدى زودتها بها واشنطن لشنّ هجمات داخل العمق الروسي.
يبقى السؤال: هل يجرؤ الغرب على تحدي تهديدات بوتين؟ وفي المقابل، ما الذي يستطيع بوتين أن يفعله إذا قرّرت واشنطن ولندن تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى، ومنحتها حرية استخدامها؟ من المؤكد أن هذه الخطوة تضع الحرب الأوكرانية على مفترق طرق، وليس من المبالغة القول إنها قد تعيد تحديد مسارها، في لعبة على حافة الهاوية.