الجيش الأوروبي الموحد: فرصة ضائعة

04 أكتوبر 2021
ستكون في الغالب القوة الرئيسية للجيش الأوروبي بيد الفرنسيين (جان بيار مولر/فرانس برس)
+ الخط -

أسباب عديدة أطلقت، من جديد، النقاش الأوروبي، على أعلى المستويات، حول سياسة الدفاع الأوروبي الموحدة، وضرورة تطويرها من أجل "الاستقلال الذاتي" عن الولايات المتحدة، على حد تعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يعد أحد القادة الأوروبيين الداعين لقيام سياسة دفاع أوروبية فعّالة.

أول من طرح قضية تشكيل جيش أوروبي موحد هما ميتران وكول في ثمانينيات القرن الماضي

وأول الأسباب التي حركت النقاش هو الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، نهاية أغسطس/آب الماضي، والذي خلق حالة ارتباك بسبب الخوف على حياة عشرات الآلاف من الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية خلال العقدين الأخيرين. ولم يملك الأوروبيون الشجاعة والإمكانات للبقاء على الأرض، بعد أن بدأت القوات الأميركية بالانسحاب التدريجي، لأنها كانت تؤمّن الإسناد الجوي لكل القوات الأجنبية العاملة في أفغانستان. والسبب الثاني هو التحالف الثلاثي الأميركي البريطاني الأسترالي، الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، منتصف الشهر الماضي، والذي استبعد أي دور لأوروبا في منطقتي المحيط الهادئ والهندي، على الرغم من أن بعض دولها تحتفظ بوجود عسكري هناك، مثل فرنسا التي تنشر قرابة 8 آلاف جندي. ومن ناحية أخرى، فإن التحالف أصابها في الصميم بسبب فسخ أستراليا عقد الغواصات الذي وقّعته معها عام 2016 بقيمة 65 مليار دولار، والتعاقد مع الولايات المتحدة على صفقة غواصات نووية، ما خلق أزمة حادة بين باريس من جهة، وواشنطن ولندن من جهة أخرى.

وتحت تأثير صدمة الانسحاب من أفغانستان وسيطرة حركة "طالبان" على الحكم، تحرك المفوض الأعلى للسياسة والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ودعا، في 2 سبتمبر/أيلول الماضي، إلى اجتماع عُقد في سلوفينيا لوزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي، بشأن إنشاء قوة الرد السريع الأوروبية. وقال: "لقد أظهرت أفغانستان أن تأخرنا في الاستقلال الذاتي الاستراتيجي تترتب عليه تكلفة، وأن السبيل الوحيد للمضي قدماً هو توحيد قواتنا، وتعزيز، ليس فقط قدراتنا، ولكن أيضاً إرادتنا في العمل". وانتهى ذلك الاجتماع، على أمل الحصول على الضوء الأخضر من الدول الأعضاء في اجتماع دفاعي جديد، يعقد في 16 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، من أجل تشكيل قوة أوروبية قوامها 5000 فرد.

أول من طرح قضية تشكيل جيش أوروبي موحد، هما الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، والمستشار الألماني الأسبق هلموت كول في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وذلك من ضمن سلسلة المشاريع التي اتفق عليها الزعيمان وفرضاها على أوروبا، بوصف باريس وبرلين تشكلان قيادة القاطرة الأوروبية، كونهما أكبر قوتين اقتصاديتين وسياسيتين في الاتحاد الأوروبي. ولكن ميتران وكول لم يتفرغا من أجل تطوير الفكرة، وانصرفا إلى شؤون تعزيز الاتحاد الأوروبي، خصوصاً اتفاقية ماستريخت والعملة الأوروبية الموحدة. ولذلك بقيت المسألة عند تشكيل "الفيلق الأوروبي" من ألف جندي يتمركزون في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، ويشكلون النواة لقوة أوروبية موحدة تكون المنطلق لمشروع الدفاع الأوروبي الموحد.

وأعادت الحرب في يوغسلافيا التي كانت مستعرة بقوة على أبواب أوروبا في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، إحياء المشروع بقوة من قبل الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير. وصدر عنهما بيان مشترك جاء فيه: "يجب أن يتمتع الاتحاد الأوروبي بالقدرة على القيام بأعمال مستقلة، بدعم من قوات عسكرية ذات مصداقية". هذا النص كرره ماكرون كلمة كلمة، عدة مرات، في الأسبوعين الماضيين، لأن النداء الفرنسي البريطاني حرك القارة العجوز. واستجاب الاتحاد الأوروبي في العام 1999، وقرر إنشاء فرقة عسكرية من 50 ألفاً إلى 60 ألف جندي، يمكن نشرها في غضون ستين يوماً. وبعيداً عن الأهداف المعلنة، انتهى هذا المشروع في 2007، بتشكيل "مجموعتين تكتيكيتين" تضم كل منهما 1500 فرد من جميع الدول الأعضاء. والسبب الأساسي هو افتقار أوروبا إلى الإرادة السياسية، وظل هذا المشروع من دون تفعيل لمدة 10 سنوات.

تعزيز الدفاع الأوروبي لا يتعلق فقط بإنفاق المزيد، ولكن أيضاً الإنفاق بشكل أكثر كفاءة

ويمكن الوقوف عند جملة من العوائق، أولها اتفاقية لشبونة التي تم التوصل إليها في أكتوبر/تشرين الأول 2007، وتعد بمثابة الدستور الأوروبي الموحد، وهي تنص على سياسة دفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي، ولكنها تعطي الأولوية لسياسة الدفاع الوطني، وتترك للدول اختيار الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو البقاء على الحياد. ولعب عدد من القادة الأطلسيين الجدد، مثل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أزنار دوراً في تثبيت هذا النص في الاتفاقية، لأنهما يعارضان فكرة "الاستقلال الذاتي"، ويتبنيان بشدة فكرة تولي حلف شمال الأطلسي السياسة الدفاعية الأوروبية.

ثانياً، العلاقة والالتزامات مع "الأطلسي". ففي قمة الحلف، في 2014، التي انعقدت في ويلز (بريطانيا)، تعهدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي بإنفاق 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024. ودعا البرلمان الأوروبي الدول الأعضاء إلى الوفاء بهذه الالتزامات. ووفقاً لتقديرات الأطلسي لعام 2019، تنفق خمس دول فقط (اليونان وإستونيا ولاتفيا وبولندا وليتوانيا) أكثر من 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. ومع ذلك، فإن تعزيز الدفاع الأوروبي لا يتعلق فقط بإنفاق المزيد، ولكن أيضاً الإنفاق بشكل أكثر كفاءة. وفي هذا الوقت تعد الدول الأعضاء مجتمعة ثاني أكبر مشترٍ لمعدات الدفاع في العالم بعد الولايات المتحدة. ومع ذلك، يتم إهدار ما يقدر بنحو 26.4 مليار يورو كل عام، بسبب الازدواجية في استخدام أوروبا أنظمة دفاع أكثر بست مرات من الولايات المتحدة. وفي هذا المجال يمكن للاتحاد الأوروبي أن يوفر الكثير، إذا نجح في بناء سياسة تعاون فعلية بين الدول الأعضاء. وهناك أيضاً قضية مهمة، وهي أن كل جيش أوروبي لديه تدريب ومعدات ومعايير مختلفة، وهذا بالطبع يتطلب تغييره لغرض إنشاء جيش واحد في الاتحاد الأوروبي. وهي مسألة تستغرق وقتاً طويلاً، ومكلفة، وقد تواجه مقاومة.

ثالثاً، اختلاف النظر إلى التهديدات والمخاطر. بريطانيا حين كانت عضواً في الاتحاد الأوروبي قبل "بريكست"، دعمت الفكرة من منظور أنها يمكن أن تساعد في إلحاق أوروبا بالولايات المتحدة، وتخفيف العبء الدفاعي عنها، بينما تبني دول البلطيق وبولونيا، سياساتها الدفاعية على أساس أن روسيا هي التهديد الدائم، ولذلك تجاوزت تخصيص نسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. في حين أن ألمانيا لا ترى تهديدات جدية تواجه أوروبا، ولذلك لم تتجاوز مصاريفها الدفاعية نسبة 1.53 في المائة. وتبقى فرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة التي تستمر في الحفاظ على جيش كبير مدرب جيداً، وقوة جوية كبيرة، وحاملات طائرات. ولذلك تتعاطى مع المسألة من زاوية اعتماد أوروبا على ذاتها، وذلك اقتداء بالجنرال شارل ديغول الذي طرد القواعد الأميركية وسحب فرنسا من حلف شمال الأطلسي عام 1966، وبقيت خارجه 43 عاماً حتى أعادها ساركوزي في 2009.

سيتعين على مؤيدي تشكيل قوة أوروبية مسلحة مستقلة عن الولايات المتحدة، إقناع حلفاء واشنطن المخلصين داخل الاتحاد

رابعاً، سيتعين على مؤيدي تشكيل قوة أوروبية مسلحة، تعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، إقناع حلفاء واشنطن المخلصين داخل الاتحاد الأوروبي. وسيكون من الصعب إقناع بعض الدول الأعضاء بأن الدفاع الأوروبي يمكن أن يكون فعالاً للغاية. ولذلك من المرجح استمرار الوضع الحالي، إذ تهدف سياسة الأمن والدفاع الأوروبية المشتركة إلى تعزيز دور الاتحاد الأوروبي في إدارة الأزمات الدولية، بطريقة تكميلية ومنسقة مع "الأطلسي". وتمنح هذه السياسة الاتحاد الأوروبي إمكانية استخدام الوسائل العسكرية والمدنية للرد على الأزمات الدولية. ونظراً لعدم وجود جيش مستقل يتبع للاتحاد الأوروبي، فإن القدرات المدنية والعسكرية التي يمكنه حشدها، تضعها تحت تصرفه الدول الأعضاء عند إطلاق مهمة من قبل القمة الأوروبية. وتعمل سياسة الأمن والدفاع كإطار عمل لتحديد هذه القدرات وتنسيقها واستخدامها بشكل مستقل. ويمكن للدول الأعضاء تنفيذ عدد من العمليات الأمنية والدفاعية المشتركة، تشمل إجراءات نزع السلاح، والبعثات الإنسانية والإجلاء، وبعثات المشورة والمساعدة العسكرية، وبعثات منع النزاعات وحفظ السلام، ومهام القوة القتالية لإدارة الأزمات، بما في ذلك مهام صنع السلام، وعمليات تحقيق الاستقرار في نهاية النزاعات.

وإذا أريد لأوروبا أن تكون قادرة على المنافسة على الصعيد العالمي، فسيتعين عليها توحيد جهودها. في الواقع، تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2025، ستصبح الصين الدولة الثانية في العالم من حيث الإنفاق الدفاعي بعد الولايات المتحدة. وإذا تم تشكيل جيش أوروبي، فستكون قوته في الغالب في أيدي الفرنسيين، مدعومين بإسبانيا وإيطاليا. ومن حيث الجوهر، قد تجد باريس نفسها مضطرة لتحمل عبء الدفاع عن القارة، وهو وضع مشابه تجد الولايات المتحدة نفسها فيه من خلال حساب غالبية قوة "الأطلسي"، وهذا ما كان يشكو منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وفي الختام لن يكون هناك إمكانية لإنشاء جيش أوروبي موحد، قبل أن تكون هناك دولة أوروبية فوق وطنية.