تستمر حرب الإرادات والهويات بين المحتل الإسرائيلي من جهة، وأبناء الشعب الفلسطيني وأهالي الجولان السوري من جهة أخرى، في زمنٍ باتت سمته الأساسية ازدياد وحشية المحتل وازدياد ضعف العرب وتسابقهم للتطبيع معه. فلا تمر مناسبة إلا ويعبّر السوريون من أهل الجولان المحتل عن تمسكهم بهويتهم وعدم قبولهم الهوية الإسرائيلية، على الرغم من كل المصاعب، في السفر والتنقل، التي يواجهونها بسبب هذا الأمر.
وما تمسكهم بهذه الهوية ورفض الاستيطان الإسرائيلي والنزوح عن أرضهم، والوقوف في وجه مشروعات التوربينات الهوائية التي يزرعها المحتل على أرضهم، إلا شكل من أشكال النضال ورفض المحتل. ويمكن لهذا النضال أن يتعزز ويثمر إذا ما تكامل مع نضال أبناء الشعب الفلسطيني، خصوصاً في ظل القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمعهم وتجعل هذا التكامل مؤثراً، لا سيما النضال السلمي الذي يفرض نفسه، بسبب غياب إمكانية اعتماد النضال بأشكاله العسكرية.
تعد الأراضي الفلسطينية المحتلة العمق الوحيد لأهالي هضبة الجولان، التي احتلها الإسرائيليون خلال حرب يونيو/ حزيران 1967، وكرسوا احتلالهم لها خلال حرب 1973، عندما حرر السوريون جزءاً منها، وأعاد الإسرائيليون احتلالها. لذلك فهي متنفسٌ لهم يلبي حاجة التواصل مع العالم خارج أراضيهم. ويشارك أهالي الجولان في مناسبات الفلسطينيين، وكان آخرها المشاركة في مراسم عزاء الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
كما يتعاونون مع المؤسسات الفلسطينية في أوجه كثيرة، منها مجالات العمل الإنساني وإزالة الألغام، علاوة على زيارات الوفود الفلسطينية لأرض الجولان تضامناً مع نشاطاتهم واعتصاماتهم وأشكال المقاومة التي يتبعونها. وكان لافتاً، في مايو/ أيار الماضي، زيارة وفد من أراضي 48، لخيمة اعتصام في منطقة المنفوخة، أقامها الأهالي احتجاج على مخطط المحتلين للاستيلاء على أراضيهم، بهدف تأسيس مزرعة توربينات هوائية لتوليد الكهرباء، والتي تعد جزءاً من أعمالٍ تهدف في النهاية إلى تغيير طابع منطقة الجولان.
ساهمت الحرب المستمرة في سورية من إحدى عشرة سنة، وكذلك غياب مشروع النضال الوطني الفلسطيني، والانقسام الفلسطيني المزمن الذي تكرَّس بعد فوز حماس بأغلبيةٍ في الانتخابات التشريعية، سنة 2006، في تراجع النضال والاهتمام الدولي والعربي بالقضية الفلسطينية وبقضية الجولان.
ليس أدل على هذا التراجع، سوى كلام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن لجوء بلاده إلى الأمم المتحدة من أجل نقل موضوع اعتراف الرئيس الأميركي السابق؛ دونالد ترامب؛ بضم الجولان، في مارس/ آذار 2019، وذلك بهدف منع إضفاء الشرعية على غزو الجولان، إذ قال أردوغان يومها: "لا يمكن أن نسمح بإضفاء الشرعية على غزو الجولان".
في العقدين الأخيرين؛ اعتمدت حكومات الاحتلال الإسرائيلي سياسة تغيير الواقع على الأرض، من أجل محو الهوية العربية في الأراضي الفلسطينية وهضبة الجولان، وتهويدها عبر مصادرة الأراضي وزرع المستوطنات عليها، وبناء الجدار العازل في الضفة الغربية، وكذلك إنشاء الطرق الالتفافية، من أجل تفتيت هذه المناطق وجعلها جزراً يصعب التواصل في ما بينها، ما يمنع قيام كيان فلسطيني مستقل.
الاستيطان هو أداتها الرئيسية لتنفيذ هذه السياسة، لأنها تضرب عبره عصفورين بحجر واحد؛ إذ ينفذ المستوطنون المنظمون مخططات احتلال الأراضي والتطهير العرقي والفصل العنصري، عبر الاستيلاء على الأراضي وضمها، ويقمعون أي تحرك فلسطيني أو جولاني معارض، في حين تنجو الحكومات من المحاسبة على الصعد الدولية، بحجة عدم قدرتها على إخضاع هؤلاء المستوطنين، ومنع عنفهم بحق الفلسطينيين وأهالي الجولان.
إزاء هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى عودة المشروع الوطني الفلسطيني للنهوض من جديد، على قاعدة التحرير وعودة اللاجئين، وكذلك الحاجة لمشروع نضالي وطني لأهالي الجولان، في ظل ضعف السوريين، نظاماً ومعارضةً، وعدم قدرتهم على التأثير في المجتمع الدولي، لتطبيق القرارات الأممية الخاصة به.
لذلك، ولأن معاناة أهل الجولان وأبناء الشعب الفلسطيني واحدة، بسبب سياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي، تشير المعطيات إلى وجود قدرة على توحيد النضال السلمي، الذي أقل أهدافه الحفاظ على الهوية، رداً على حرب فرض الأمر الواقع الإسرائيلية.
كان المثال الأنصع على هذه القدرة والإرادة، ما لمسناه، ولمسه العالم، من أهالي حي الشيخ جراح في القدس، الذين رفضوا النزوح عن منازلهم على الرغم من الإغراءات الكثيرة، والتهديدات المتواصلة. إن الانتصار في حرب الإرادات والهويات هو المحدد لطبيعة الصراع ومآلاته المقبلة.