قبل شهر ونيّف من انطلاق الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأميركي، المفترض أن يختار بموجبها مرشحه للانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تلقى الرئيس الديمقراطي جو بايدن ضربة معنوية، إثر موافقة مجلس النواب الأميركي، مساء أمس الأربعاء، على فتح التحقيق رسمياً لعزل بايدن، وذلك على خلفية أنشطة ابنه هانتر التجارية الدولية المثيرة للجدل.
وتعني هذه الخطوة أن مسألة عزل بايدن ستواجه مساراً قضائياً في الكونغرس، في موازاة مسار قضائي في عدة محاكم فيدرالية للرئيس السابق الجمهوري، دونالد ترامب، بما يجعل من المعركة الانتخابية أمام أقوى مرشحين في حزبيهما، منافسة بين رئيسين، سابق وحالي، تعرّض أحدهما، ويتعرّض الآخر للتحقيق بشأن العزل من البيت الأبيض. وهي المرة الأولى في التاريخ الأميركي، منذ الرئيس الأول جورج واشنطن (1789 ـ 1797)، يخضع رئيسان متتاليان للتحقيق بعزلهما.
اصطفاف جمهوري واسع لعزل بايدن
مساء أمس الأربعاء، وافق مجلس النواب الأميركي على فتح تحقيق رسمي يهدف إلى عزل بايدن بأغلبية 221 نائباً جمهورياً مقابل 212 نائباً ديمقراطياً. وذكرت شبكة "سي أن أن" الإخبارية أن جميع نواب الحزب الجمهوري صوتوا لإضفاء الطابع الرسمي على التحقيق. واعتبر سيد البيت الأبيض، في أول تعليق رسمي، أن التحقيق "حيلة سياسية لا أساس لها". وأضاف بايدن في بيان أنه "بدلاً من العمل على تحسين حياة الأميركيين، فإن أولويتهم (الجمهوريون) مهاجمتي بأكاذيب".
غير أن حظوظ نجاح هذا التحقيق شبه منعدمة، رغم أنه يشتّت جهود بايدن في سعيه للفوز بولاية رئاسية. ولكن حتى مع احتشاد غالبية الجمهوريين في مجلس النواب حول التصويت لفتح التحقيق، أوضحت قيادة الحزب الجمهوري أن إضفاء الطابع الرسمي على التحقيق لا يعني أن عزل بايدن أمر لا مفر منه، حتى مع تزايد الضغوط داخل الحزب.
ويتهم الجمهوريون الذين يحظون بغالبية مقاعد مجلس النواب منذ مطلع العام الحالي، إثر الانتخابات النصفية للكونغرس التي أُجريت في نوفمبر 2022؛ بايدن باستغلال نفوذه عندما كان نائباً للرئيس باراك أوباما (2009-2017) عبر السماح لابنه بالقيام بأنشطة تجارية مشكوك فيها في الصين وأوكرانيا. وقال رئيس لجنة التحقيق في مجلس النواب الجمهوري، جيمس كومر إن "جو بايدن كذب مراراً وتكراراً على الشعب الأميركي".
وصف بايدن التحقيق بأنه "حيلة سياسية لا أساس لها"
ولا يتهم قرار التحقيق في المساءلة بايدن بأي مخالفات، بل يأذن لثلاث لجان يقودها الجمهوريون بمواصلة تحقيقاتها وتقديم التماس إلى المحكمة للحصول على مواد لتقديمها إلى هيئة محلفين. ويأذن القرار بإصدار مذكرات استدعاء ويوافق، بأثر رجعي، على العديد من مذكرات الاستدعاء التي أُصدِرَت بالفعل، ويسمح أيضاً بتعيين محقق للمساعدة في التحقيق.
وحول مجريات هذه التطورات، قال رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون، أمس الأربعاء، إنه "حان الوقت لتقديم الإجابات للشعب الأميركي"، موضحاً في تصريحات بعد التصويت: "لن نحكم مسبقاً على نتيجة هذا، لأننا لا نستطيع ذلك، إنها ليست حسابات سياسية، نحن نتبع القانون، وسأتمسك بذلك".
وكشف جونسون، الذي اتهم بايدن بالفساد، أن المشرعين يركزون بشكل خاص على التحقيق في أربعة مجالات: ملايين الدولارات التي تلقاها هانتر بايدن وجيمس بايدن (شقيق الرئيس) من صفقات تجارية في الخارج، وإدلاء الرئيس بايدن بتصريحات كاذبة أو مضللة حول عمل ابنه، والتطرق إلى اللقاءات التي أجراها الرئيس مع شركاء ابنه التجاريين أو الأحاديث التي جمعته بهم، فضلاً عن السؤال عن مبلغ 240 ألف دولار تلقاه الرئيس من أفراد عائلته كتعويض عن القروض.
ويحاول الجمهوريون إجبار اثنين من محققي الضرائب على الإدلاء بشهادتهما حول سبب عدم اتهام هانتر بايدن بارتكاب جنايات في وقت سابق، مرتبطة بالتهرب الضريبي. مع العلم أن إدارة بايدن سمحت لرؤساء إدارات الضرائب بالإدلاء بشهاداتهم، لكنها رفضت بعض مطالب الجمهوريين، مشيرة إلى عدم موافقة مجلس النواب بكامل هيئته على التحقيق.
ومع أن الجمهوريين اجتهدوا لإثبات أن الرئيس قد أثرى من خلال تعاملات ابنه التجارية، إلا أن العديد من الوثائق التي قدموها حتى الآن كشفت عكس ذلك، إذ إن بايدن أقرض المال لابنه وشقيقه عندما كانا في حاجة، ودفعا له لاحقاً.
وسبق للجنة الرقابة في مجلس النواب أن صادرت وثائق أظهرت أن إحدى شركات هانتر بايدن قدمت ثلاث دفعات بقيمة 1380 دولاراً إلى الرئيس بايدن في عام 2018 عندما لم يكن في منصبه. وقال الجمهوريون إن المدفوعات دليل على الفساد. في المقابل، أشارت وثائق أخرى إلى أن المبلغ المذكور كان ديناً ردّه هانتر لوالده، لكونه ساعده في شراء شاحنة "فورد".
وقبل التصويت في مجلس النواب، عقد هانتر مؤتمراً صحافياً خارج مبنى "كابيتول هيل"، مقر الكونغرس، شدّد فيه على أن "والدي لم يكن ضالعاً مالياً أبداً في شؤوني". وعلى الرغم من إقراره بارتكاب "أخطاء" في مسيرته، إلا أن هانتر اتهم "أنصار ترامب" بمحاولة "إيذاء" والده، مشيراً إلى أنه لهذا السبب رفض المشاركة في جلسة استماع مغلقة عقدها الجمهوريون الذين استدعوه للمثول أمام الكونغرس أمس الأربعاء. وأوضح أنه يخشى أن "يختار الجمهوريون أجزاءً من شهادته في محاولة لتشويهها". بدوره، دعم الرئيس علناً نجله هانتر، وأكد مراراً أنه "فخور" به.
وفُتح بالفعل تحقيق لعزل بايدن في الصيف، لكن الجمهوريين يعتقدون أن من شأن تحقيق رسمي منحهم صلاحيات إضافية، وبالتالي إمكانات جديدة لتجريم الزعيم الديمقراطي. وفي 12 سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلن رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي، فتح تحقيق رسمي لعزل بايدن، في مزاعم "سوء استخدام السلطة" و"الفساد". وقال إن "بايدن استخدم منصبه عندما كان نائباً للرئيس (في إدارة باراك أوباما) لتنسيق شؤون أعمال ابنه هانتر ودوره في شركة الطاقة الأوكرانية بوريسما".
هانتر بايدن: والدي لم يكن ضالعاً مالياً أبداً في شؤوني
وجاء فتح التحقيق رسمياً في مجلس النواب الأميركي، بعد أيام على اقتراب خضوع هانتر بايدن لمحاكمات في ولاية ديلاوير بتهم تتعلق بالسلاح، وأخرى في ولاية كاليفورنيا بتهم ضريبية.
انقسام الآراء حول عزل بايدن
في المقابل، أظهر استطلاع للرأي نشرته كلية "ماريست"، أول من أمس الثلاثاء، أن الأميركيين منقسمون قي التحقيق بشأن عزل بايدن. وكرر الاستطلاع نتائج استطلاع سابق أجرته وكالة "أسوشييتد برس" بالتعاون مع مركز "نورك" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وجاء فيه أن 39% من الأميركيين لا يوافقون على التحقيق مع بايدن، بينما أيّده 33%. كذلك أظهر استطلاع لشبكة "سي أن أن" في أكتوبر أيضاً، أن 57% من المستطلعين قالوا إنه لا ينبغي عزل بايدن.
وينصّ الدستور الأميركي على أنه يمكن للكونغرس عزل الرئيس بتهم "الخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والمخالفات الكبرى". ويُنفَّذ الإجراء على مرحلتين. وفي ختام التحقيق، يصوت مجلس النواب بغالبية بسيطة على مواد لائحة الاتهام التي تفصّل الوقائع المنسوبة إلى الرئيس. وإذا أُقرَّت لائحة الاتهام هذه، يتولى مجلس الشيوخ المحاكمة. لكن حتى إن حصل ذلك، فإنّ من المرجح جداً تبرئة بايدن، إذ يحظى حزبه بغالبية المقاعد في هذه الغرفة العليا للكونغرس. ولم يسبق عزل أي رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، فيما أُطلقت إجراءات عزل ضد ثلاثة رؤساء، هم أندرو جونسون في عام 1868، وبيل كلينتون في عام 1998، ودونالد ترامب، لمرتين، في عامي 2019 و2021. لكنهم بُرئوا جميعاً في النهاية. أما ريتشارد نيكسون، ففضّل الاستقالة عام 1974 لتجنّب عزله من قبل الكونغرس بسبب فضيحة "ووترغيت"، التي قرر فيها الجمهوري نيكسون التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت في واشنطن، قبل افتضاح أمره.