تتجه الأنظار اليوم الثلاثاء نحو نيويورك لافتتاح أعمال الجمعية العامة رفيعة المستوى، والتي تستمر حتى الإثنين المقبل. بعض القادة سيحضرون بشكل شخصي، ومنهم رؤساء أميركا جو بايدن، والبرازيل جايير بولسونارو، وتركيا رجب طيب أردوغان، وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، وملك الأردن عبد الله الثاني، ورؤساء حكومات بريطانيا بوريس جونسون، والهند ناريندرا مودي، وإسرائيل نفتالي بينت. وبعضهم الآخر سيرسل وزراء خارجية، أو يتحدث أمام الجمعية عن بعد.
من المتوقع أن يركز بايدن على الدور الذي تؤديه الصين إقليمياً، وما تراه أميركا دوراً سلبياً يخلخل النظام الدولي
بعض الدبلوماسيين في نيويورك توقعوا أن تثير كلمة بولسونارو بعض اللغط بسبب آرائه الشعبوية ومعارضته التلقيح ضد فيروس كورونا. وسيكون أول المتحدثين، قبل الرئيس الأميركي، لأسباب تاريخية، إذ تتحدث البرازيل كأول دولة في الاجتماعات رفيعة المستوى منذ عام 1955، لأنها تطوعت قبل ذلك العام بالحديث كأول دولة عندما لم ترغب أي من الدول بذلك. بعد ذلك مباشرة سيتحدث بايدن، الذي من المتوقع أن يركز على ثلاثة محاور: كورونا والمناخ وحقوق الإنسان، بحسب ما أشارت إليه المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد. ومن المتوقع أن يركز على الدور الذي تؤديه الصين إقليمياً، وما تراه أميركا دوراً سلبياً يخلخل النظام الدولي.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فكان من المفترض أن يتحدث في اليوم الأول لاجتماعات الجمعية عبر رسالة مسجلة مسبقاً، لكن مصادر دبلوماسية فرنسية في نيويورك أشارت إلى أنه لن يتحدث أمام الجمعية العامة، كما كان معلناً سابقاً، وأن وزير خارجيته جان إيف لودريان، الذي حضر شخصياً إلى نيويورك، هو الذي سيلقي كلمة فرنسا أمامها في وقت لاحق من الأسبوع الحالي. يأتي ذلك في ظل توترات بين فرنسا من جهة، وبريطانيا وأميركا وأستراليا من جهة ثانية، بسبب مبادرة جديدة للأمن القومي، حملت اسم "أوكوس"، والتي ألغت بموجبها كانبيرا صفقة الغواصات مع باريس.
عموماً، ستكون قضايا المناخ والتصدي لجائحة كورونا على سلم الأولويات، ليس في إحاطات القادة أمام الجمعية العامة فحسب، بل في عدد من القمم رفيعة المستوى التي ستعقد على هامش أعمالها، من بينها ما يخص المناخ والطاقة والغذاء وكورونا وأهداف التنمية المستدامة. ناهيك عن الاجتماعات الأخرى حول أفغانستان واليمن وسورية وليبيا والملف الإيراني وغيرها.
قادة العالم يواجهون تحديات لم يسبق لها مثيل منذ عقود، وعليهم أن يظهروا جدية أكبر في ترجمة تعهداتهم ووعودهم لأفعال، وخاصة في ما يخص المناخ وكورونا. وهذا ما أكده الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في أكثر من مناسبة، قبل بدء أعمال الجمعية، ومن المتوقع أن يركز عليه في إحاطته أمامها. وهو دعا، في مقابلة مع وكالة "أسوشييتد برس" نشرت أمس الإثنين، الصين والولايات المتحدة إلى إصلاح علاقتهما "المتوقفة تماماً" قبل أن تمتد المشكلات بين الدولتين إلى بقية الكرة الأرضية. وأعلن غوتيريس أنه ينبغي على القوتين الاقتصاديتين الرئيسيتين في العالم أن تتعاونا بشأن المناخ، وأن تتفاوضا بعزيمة أكبر حول التجارة والتكنولوجيا، حتى في ظل الانقسامات السياسية المستمرة حول حقوق الإنسان والاقتصاد والأمن عبر الإنترنت والسيادة في بحر الصين الجنوبي. وقال: "للأسف، نعيش اليوم في ظل مواجهات فقط". وأضاف: "نحن بحاجة إلى إعادة توطيد علاقة فاعلة بين القوتين"، واصفاً ذلك بأنه "ضروري للتعامل مع مشاكل التطعيم وتغير المناخ، والعديد من التحديات العالمية الأخرى التي لا يمكن حلها من دون علاقات بناءة داخل المجتمع الدولي، وعلى الأخص بين القوى العظمى".
ستكون قضايا المناخ والتصدي لجائحة كورونا على سلم أولويات القادة
وكرر غوتيريس ما كان قد حذر منه قادة العالم قبل عامين من خطر انقسام العالم إلى قسمين، في ظل قيام الولايات المتحدة والصين بإنشاء شبكات اتصالات وعملات وقواعد تجارية ومالية منافسة، وفي ظل "استراتيجياتهما الجيوسياسية والعسكرية الصفرية". وأضاف أن وجود استراتيجيتين جيوسياسية وعسكرية في مواجهة سيتسبب في "مخاطر" تقسم العالم، مشدداً على ضرورة إصلاح هذه العلاقة في وقت قريب. وأضاف: "ينبغي أن نتجنب حرباً باردة مهما كلف الأمر"، معتبرا أن تلك الحرب ستكون مختلفة عن السابقة ويحتمل أن تكون "أشد خطورة وأكثر صعوبة في التعامل معها".
وإلى جانب كورونا والمناخ، فإن المجتمع الدولي فشل كذلك في حل أي من الأزمات المشتعلة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. بل إنها تفاقمت، وزادت معها الأزمات الإنسانية وأعداد اللاجئين، والذين يعانون من الجوع، وآخرون على حافة المجاعة أو يواجهون نقصاً شديداً في الأمن الغذائي، من اليمن إلى أفغانستان وإقليم تيغراي الإثيوبي وغيرها. هذه التحديات لا يمكن مجابهتها بشكل منفرد وتحتاج إلى إرادة دولية جدية، وتعاون وتعددية من أجل مواجهتها، وهذا ما سيحاول المسؤولون في الأمم المتحدة العمل عليه، بالإضافة إلى حشد الجهود للحصول على تعهدات دولية من أجله. وتشكل اجتماعات الجمعية العامة فرصة لعقد اللقاءات الثنائية، والتواصل مع أكبر عدد ممكن من القادة في وقت قصير ورقعة صغيرة جغرافياً.
لم تعد الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة ونظامها الحالي، الذي أُسّس إبان الحرب العالمية الثانية وميزان القوة آنذاك، قادرة على مجابهة التحديات وحلها أو التوسط فيها بشكل فعال، وكما يجب. وعلى الرغم من وجود عدد من الأدوات بين يديها لإدارة الصراعات، بما فيها الوساطة وعمليات حفظ السلام وفرض قرارات ملزمة عن طريق مجلس الأمن، وعمليات المساعدات الإنسانية، إلا أن هذه الأدوات غير مستثمرة بالمستوى المطلوب ولأسباب عديدة، لعل أبرزها الاستقطاب الحاد داخل مجلس الأمن، وخاصة بين الدول الخمس دائمة العضوية. فبقيت النزاعات المختلفة، من سورية إلى اليمن وليبيا وفلسطين وميانمار وأفغانستان وإثيوبيا، والقائمة طويلة، من دون حل، بل إن بعضها استشرى.
بقي الدور الرئيسي والفعال للأمم المتحدة تقديم المساعدات الإنسانية
واهتزت هيبة الأمم المتحدة بشكل أكبر في ظل أمين عام يخشى، في الغالب، من اتخاذ مواقف سياسية جريئة وانتقاد الدول ذات النفوذ. وهو يركز على الدور الإنساني في الكثير من الأحيان، ويدعي أنه يمارس ضغوطاً دبلوماسية خلف أبواب مغلقة بدلاً من إثارة الضجيج الإعلامي. ولكن هذا الادعاء لم يثبت نجاعته خلال سنوات غوتيريس الأربع وقيادته للمؤسسة الدولية. ولعل حظه كان قليلاً عندما صادفت عملية تسلمه قيادة الأمم المتحدة مع تولي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لرئاسته، والذي عرف بهجومه الشديد على التعددية الدولية وعلى الأمم المتحدة ومؤسساتها. وبقي الدور الرئيسي والفعال في الكثير من الأحيان للأمم المتحدة هو تقديم المساعدات الإنسانية، ومحاولة التخفيف من أعباء وويلات تبعات العنف والحروب والقتل، من دون أن تتمكن في الغالب من تحجيمها أو معالجة جذور الأزمة، أو الحيلولة دون نشوبها، في الكثير من الأحيان، على الرغم من الإنذارات العديدة التي قد تصدر عن مؤسساتها.
لكن وعلى الرغم من التحديات آنفة الذكر فإن وجود إدارة أميركية جديدة تؤكد، على الأقل في خطاباتها وجزء من ممارساتها، على التعاون الدولي والتعددية يُبرز فرصة من أجل أن يعيد غوتيريس تموضع المؤسسة الدولية مستقبلاً، وإعطاءها دوراً ريادياً، وربما أكثر مركزية سياسياً لمواجهة التحديات الدولية. ليس في ما يخص النزاعات وحلها فحسب، ولكن لتحقيق أمور أساسية، كأهداف التنمية المستدامة التي أصبح العالم بعد جائحة كورونا بعيداً عنها.