الجزائر وفرنسا باتجاه القطيعة

17 ديسمبر 2024
ماكرون وتبون في إيطاليا، 13 يونيو 2024 (لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا بسبب اتهامات الجزائر لفرنسا بالتورط في زعزعة استقرار البلاد، واستدعاء السفير الفرنسي للاحتجاج على الممارسات العدائية المزعومة.
- أسباب التوتر تشمل اعترافات لمتشدد جزائري حول اتصالات مع الاستخبارات الفرنسية، واتهام الجزائر لفرنسا بالتساهل في نقل أسلحة لتنظيم انفصالي، ضمن استراتيجية جزائرية لإنهاء النفوذ الفرنسي.
- تعقدت الأزمة برفض فرنسا تسليم مسؤولين جزائريين وتغيير اتفاقيات الهجرة، مما أدى إلى خفض التمثيل الدبلوماسي، وسط توقعات بقطيعة دبلوماسية وشيكة.

دخلت العلاقة بين الجزائر وفرنسا مرحلة جديدة من التوتر بعدما وجهت الجزائر اتهامات صريحة ومباشرة إلى باريس بالتورط في ما وصفته بأعمال عدائية، وتدبير أعمال تستهدف زعزعة استقرار البلاد. ونقل هذا التوتر الأزمة بين البلدين إلى مستوى مغاير، بعد سلسلة أزمات سابقة بين البلدين بقيت في نطاق المواقف والردود السياسية والمناكفة في قضايا اقتصادية وتاريخية، كان يتم تجاوزها في كل مرة. واستدعت الخارجية الجزائرية الأسبوع الماضي السفير الفرنسي لدى الجزائر ستيفان روماتيه، لإبلاغه احتجاجاً رسمياً بشأن ما وصفتها الجزائر "الممارسات العدائية الصادرة عن الأجهزة الأمنية الفرنسية، التي صارت متكررة بشكل مقلق لم تعد السلطات الجزائرية تحتمل السكوت عنها". وتم الكشف أنه تم "توجيه تحذيرات شديدة اللهجة طُلب من السفير الفرنسي نقلها إلى سلطات بلاده، وإبلاغه أن الوقائع المثبتة خطيرة وتعززها قرائن لا تحتمل أي تشكيك، وأن على باريس أن تتوقع ردوداً قوية"، لكن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، الذي أقر بالاستدعاء، وصف الاتهامات الجزائرية، بأنها "وهمية ولا أساس لها من الصحة".

سبب تدهور العلاقات بين الجزائر وفرنسا

في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الحالي ظهر على القنوات الرسمية الجزائرية متشدد جزائري، كان قد عاد عام 2016 من الرقة في سورية، إذ كان منتمياً إلى تنظيم داعش،  وبعد عودته قضى ثلاث سنوات في السجن في الجزائر، وكشف عن اتصالات تلقاها من عملاء لجهاز الاستخبارات الفرنسية، متحدثاً عن سلسلة لقاءات معهم في مركز تابع للسفارة الفرنسية في الجزائر، من أجل إعادة تجنيده، وتكليفه بتشكيل خلايا متشددة في الجزائر، على أن يتم تزويدها بأسلحة ومتفجرات من ليبيا. وعُرض عليه في أحدها الانتقال إلى النيجر للانضمام إلى مجموعة مسلحة، مقابل مبلغ 50 ألف يورو. وتم بث هذه الاعترافات مرفقة بصور وفيديوهات التقطها جهاز المخابرات الجزائرية، لعملاء من الاستخبارات الفرنسية خلال هذه العملية.


كمال رعاش: الجزائر اتخذت قراراً بإنهاء النفوذ الفرنسي

قبل ذلك، شهدت العلاقة بين الجزائر وفرنسا مشكلة أخرى، مفادها توجيه الحكومة الجزائرية اتهامات غير مباشرة إلى باريس بالتساهل في نقل شحنة أسلحة لمصلحة تنظيم (ماك) الذي يطالب بانفصال منطقة القبائل (ذات الأغلبية من السكان الأمازيغ) عن الجزائر، والذي تصنفه السلطات الجزائرية بـ"الإرهابي". وفي الاتهام الجزائري، أن عملية النقل تمّت من خلال سفينة انطلاقاً من ميناء مارسيليا الفرنسي، وذلك "لمصلحة تنظيم إرهابي بغرض استغلالها في عمليات إرهابية محتملة وفق مشروع مدبر مسبقاً"، بحسب وزارة الدفاع الجزائرية، التي ذكرت أنه لم يتم توقيف الشحنة من قبل أجهزة أمن الميناء والجمارك الفرنسية. وبدا للجانب الجزائري أن هناك تناقضاً واضحاً بين الموقف السياسي الذي عبر عنه الرئيس إيمانويل ماكرون، في برقية تهنئة إلى نظيره الجزائري عبد المجيد تبون بعد فوزه بالرئاسة، في سبتمبر/أيلول الماضي، وصف خلالها علاقات الجزائر وفرنسا بـ"الاستثنائية في كل المجالات ولا سيّما منها المجال الأمني ومكافحة الإرهاب"، وبين الممارسات في الواقع. وهو ما دفع الرئيس الجزائري إلى شرح ذلك في وقت سابق على أساس وجود مجموعات ضغط ذات نفوذ في الحكم في فرنسا، لا تريد علاقات طبيعية متكافئة بين البلدين.

في السياق، قال المحلل السياسي كمال رعاش في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إن هذه المآلات في العلاقة بين الجزائر وفرنسا "هي نتيجة لقرار استراتيجي اتخذ في الجزائر منذ بداية عام 2020، يقضي بإنهاء النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي الفرنسي في الجزائر، والقطع مع مرحلة مداهنة لهذا النفوذ، إذ باتت السلطة الجزائرية تعتقد أن المؤسسة الرسمية الفرنسية تعتمد سياسات ومواقف إزاء الجزائر، لا تنطلق من نقاط مصالح مشتركة واحترام متبادل. وقد برز هذا التحول من الجانب الجزائري في أكثر من مظهر وقرارات وخيارات ذات أبعاد مختلفة، سياسية واقتصادية وثقافية".

وأشار رعاش إلى أن "تتبّع سلم الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا يحيل إلى سلسلة محطات بدأت منذ قرار الجزائر إلغاء زيارة الرئيس الجزائري، كانت مقررة في الثاني من يناير/كانون الثاني 2023 إلى باريس، تلتها حملات إعلامية حادة متبادلة بين البلدين، بالتزامن مع بروز تشنج سياسي كبير لرموز اليمين الفرنسي ضد الجزائر، وفاقم قرار الجزائر إزالة اللغة الفرنسية من المعاملات الإدارية الرسمية، واستبعادها من الوثائق والمراسلات، واستبدالها باللغة الإنكليزية في مناهج التعليم، غضب اليمين الفرنسي".

وضمن مسارات الأزمة نفسها، كان رفض باريس، بمناسبة زيارة وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان إلى الجزائر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، تسليم مسؤولين سابقين، مثل وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب وقائد الدرك الوطني السابق غالي بلقصير، وناشطين جزائريين مطلوبين للقضاء الجزائري في قضايا فساد وتخريب. وتلت ذلك محاولة باريس الضغط لتغيير اتفاقية عام 1968، التي تنظم الهجرة بين البلدين، ثم أزمة تعطل لجنة المشتركة للذاكرة، بسبب تمسك الجانب الجزائري بمطالب استعادة الأرشيف الأصلي وقضايا أخرى، وصولاً إلى أزمة يوليو/تموز الماضي، عندما قررت الجزائر سحب سفيرها سعيد موسي من باريس وخفض تمثيلها الدبلوماسي في باريس، على خلفية تغيير الأخيرة موقفها لمخطط الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب في منطقة الصحراء. وتبع ذلك قرار استبعاد القمح الفرنسي من أي عملية شراء جزائري، ثم قرار وقف التوطين المصرفي والتوريد من فرنسا، فيما كان ذلك يجري في ظل تضييق الجزائر لحضور الشركات الفرنسية في سوق العمل والإنشاءات والصفقات في الجزائر.


توفيق بوقاعدة: الخلافات تُنبئ بقطيعة دبلوماسية وشيكة

تعقّد الأزمة بين الجزائر وفرنسا

بعد ستة أشهر لم يعد السفير الجزائري إلى باريس، وهو ما كان يعزز مؤشرات تعقد الأزمة. في مطلع شهر سبتمبر الماضي، جرت آخر محاولة من ماكرون لإصلاح العلاقات مع الجزائر، وسعى إلى البحث عن تسوية للأزمة التي اندلعت منذ إلغاء زيارة تبون إلى باريس، حين أوفد مستشارته الخاصة المكلفة بشمال أفريقيا والشرق الأوسط، آن كلير لوجندر إلى الجزائر، للقاء تبون، بعد يومين فقط من إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في السابع من سبتمبر الماضي، لكن الزيارة لم تفك عقدة العلاقات بين البلدين، بقدر ما اتجهت الأزمة الى مزيد من التعقيد.

لا تظهر في الأفق أية ملامح لعودة العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى وضعها الطبيعي. وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، توفيق بوقاعدة، في تصريح لـ"العربي الجديد": "في تصوري، إن العلاقات الجزائرية الفرنسية في ظل اتساع هوة الخلافات في مختلف المستويات والجهات، وصلت إلى مرحلة تنبئ بقطيعة دبلوماسية وشيكة، ما لم تحدث إعادة تقييم للموقف الفرنسي وتعديله بما يسمح بإعادة هيكلة جديدة للعلاقات الجزائرية الفرنسية. فقد تجاوزت أدوات إدارة العلاقات المتشنجة بين البلدين الوسائل السياسية والدبلوماسية والحملات الإعلامية إلى الأدوات الأمنية، في إدارة التوتر مع السعي الفرنسي لخلق بؤر توتر داخل الجزائر وفي محيطها الإقليمي". لفت بوقاعدة إلى أن "هذا المستوى غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين باريس والجزائر، ويفسر طبيعة العلاقات التي وصلت إلى مرحلة كسر العظام بين الطرفين، واستخدام كل الوسائل لإنفاذ الرؤية التي يتبناها اليمين المتطرف لمعالم وشكل العلاقة التي يريدونها من الجزائر. ومن جهة أخرى، فإن موقف الجزائر الرافض لهذا النمط من العلاقات يدفعها إلى الوقوف في وجه هذه التوجهات بشكل حازم وواضح، على عكس التوترات التي عرفها البلدان في المراحل السابقة".