قبل عام ونصف عام، كان رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز يخطب في مؤتمر منتدى الأعمال الجزائري الإسباني، الذي نُظّم في الجزائر بمناسبة زيارته، قائلاً إن "مدريد تعوّل على إقامة تحالفات قوية مع الجزائر، كبلد تراهن عليه في استراتيجيتها على المديين المتوسط والطويل، بالنظر لمكانته الهامة في المغرب العربي وأفريقيا".
لكن كل ذلك تغيّر بسرعة، لتتخذ العلاقات بين البلدين مساراً مغايراً، يتسم بتفاقم التوتر السياسي والاقتصادي، منذ ظهور أولى مؤشرات الفتور في العلاقات في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، مباشرة بعد قرار الجزائر وقف ضخ الغاز عبر الأنبوب العابر إلى المغرب.
تلا ذلك منعطف حاسم في مارس/ آذار الماضي، عندما قررت إسبانيا تغيير موقفها من قضية النزاع في الصحراء لمصلحة المغرب، ودعم مقترح الحكم الذاتي، وهو موقف اعتبرته الجزائر "تواطؤاً سياسياً"، وردت عليه باستدعاء سفيرها للتشاور، ولم يعد حتى الآن.
غياب كل مؤشرات التهدئة بين الجزائر وإسبانيا
منذ ذلك الوقت، حضرت كل عوامل توتر العلاقات بين مدريد والجزائر، وغابت كل مؤشرات التسوية أو التهدئة على الأقل، بينما كانت كرة ثلج الأزمة تكبر مع مرور الوقت بسبب تمسك إسبانيا بموقفها، في مقابل تمسك جزائري بتصعيد الموقف إن لم تتلقّ التوضيحات الكافية حول خلفيات هذه الخطوة.
ألغى مجلس الأمن القومي الجزائري اتفاقية الصداقة والتعاون مع إسبانيا
وأقدمت الجزائر لاحقاً على خطوات أكثر حدة في العلاقة مع مدريد، فأُوقف التعاون في مجال الهجرة غير النظامية، وامتُنِع عن استقبال المهاجرين السريين الجزائريين المقرر ترحيلهم من إسبانيا، ثم كان التهديد بمراجعة أسعار الغاز المبيع إلى مدريد، وبوقف ضخ الغاز في حال بيع إسبانيا أي كمية من الغاز الجزائري للمغرب.
لكن التصعيد الأكبر جاء مساء أمس الأول الأربعاء، الذي يُتوقع أن يؤثر باتجاه العلاقات بين البلدين نحو نقطة اللاعودة، إذ قررت الجزائر في أعقاب اجتماع مجلس الأمن القومي، برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون، إلغاء اتفاقية الصداقة والتعاون مع إسبانيا، التي كانت قد وُقِّعَت في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2002.
وأكد بيان للرئاسة الجزائرية أن "السلطات الإسبانية باشرت حملة لتبرير الموقف الذي تبنته إزاء الصحراء الغربية، والذي يتنافى مع التزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية".
واعتبرت الرئاسة الجزائرية أن "السلطات الإسبانية تعمل على تكريس سياسة الأمر الواقع الاستعماري باستعمال مبررات زائفة، وهذه السلطات نفسها تتحمل مسؤولية التحول غير المبرر لموقفها منذ تصريحات 18 مارس 2022، التي قدمت الحكومة الاسبانية الحالية من خلالها دعمها الكامل للصيغة غير القانونية وغير المشروعة للحكم الذاتي الداخلي المقترحة من قبل القوة المحتلة".
تجميد التعاون بين الجزائر وإسبانيا بالكامل
إلغاء هذه الاتفاقية يعني تجميد التعاون بين البلدين بالكامل، في المجالات الأمنية والدفاع والهجرة السرية وتدفقات الهجرة، وفي مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات والتعاون القضائي، وإلغاء كل الاجتماعات السياسية التي كانت مقررة بين المسؤولين في البلدين وتجميد أطر التعاون الاقتصادي.
وسريعاً، بدأ مفعول إلغاء الاتفاقية يأخذ حيّزاً في التداعيات، عبر خطوة أخرى من الجزائر، بفرض قرار مقاطعة اقتصادية على إسبانيا، عبر منع عمليات التوريد والتصدير من إسبانيا وإليها، بعد قرار الجمعية المهنية للبنوك والمؤسسات المالية (كارتل البنوك الحكومية في الجزائر)، تعليق ومنع كل عمليات توطين بنكي (تغطية مالية) لإجراء عملية تصدير، أو توريد منتجات وسلع من إسبانيا، وهو نوع من الحظر الاقتصادي الذي تتوجه إليه الجزائر في الوقت الحالي إزاء مدريد.
وفي السياق، يبرز سؤال عمّا إذا كانت الجزائر قد تذهب إلى خطوات أخرى على الصعيد السياسي، سواء بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وهو واقع من خلال رفضها إعادة سفيرها إلى مدريد، أو تجميد العلاقات الدبلوماسية، وهو ما يتوقف على ردود الفعل الإسبانية.
وقال دبلوماسي جزائري، تحدث لـ"العربي الجديد"، طالباً عدم ذكر اسمه، إن "كل شيء وارد، فالجزائر الآن في موقع قوة وتدافع عن مصالحها الاستراتيجية، وستفعل ما تقتضيه ذلك".
وأضاف أن "قطع العلاقات عادة يكون آخر الخطوات في العلاقات بين الدول، بينما الجزائر ما زالت لديها أدوات ضغط ومفاوضة أخرى يمكن استخدامها قبل الخطوة الأخيرة".
إسبانيا ستدافع بقوة عن مصالحها
في المقابل، ردت مدريد على لسان وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس، الذي أكد، أمس الخميس، أن الحكومة الإسبانية "ستدافع بقوة" عن مصالحها الوطنية في ضوء قرار الجزائر إلغاء اتفاقية الصداقة والتعاون مع إسبانيا.
وقال: "نحن نحلل نطاق ذلك الإجراء وعواقبه على الصعيدين الوطني والأوروبي بطريقة هادئة وبنّاءة، ولكن أيضاً بحزم في الدفاع عن إسبانيا ومصالح المواطنين الإسبان والشركات الإسبانية". وأضاف أن إسبانيا تراقب تدفقات الغاز من الجزائر، أكبر مورد لها، التي لم تتأثر في الوقت الحالي بالخلاف الدبلوماسي بين البلدين.
وأعلنت وزيرة الطاقة الإسبانية، تيريزا ريبيرا، في مقابلة مع إذاعة "أوندا سيرو" الإسبانية، أنها واثقة من أن شركة الغاز الجزائرية المملوكة للدولة "سوناطراك" ستحترم عقودها التجارية لتوريد الغاز الطبيعي إلى إسبانيا، على الرغم من الخلاف الدبلوماسي. وقالت: "لا نعتقد أنه يمكن مخالفة (العقود) بشكل أحادي بقرار من الحكومة الجزائرية".
يقود ذلك إلى نقاش في السيناريوهات المحتملة لمآلات هذا التوتر السياسي بين البلدين، وانعكاساته على أكثر الملفات حساسية في العلاقة بينهما والممتدة إلى أوروبا، وهو الغاز.
وإذا كانت الجزائر ملتزمة حتى الآن الوفاء بالتزاماتها المتعاقد عليها مع مدريد حول إمدادات الغاز، فإنّ من غير الوارد أن تتخذ الجزائر خطوة في اتجاه إجبار إسبانيا على دفع كلفة أكثر وزيادة الأسعار في سياق الضغط، بينما تتلافى الجزائر قطع الغاز نهائياً، لكون هذا النوع من القرارات قد ينقل الصدام السياسي والاقتصادي من كونه جزائرياً إسبانياً، ليصبح جزائرياً أوروبياً.
غير أن هناك بعض الآراء تعتبر أنه إذا قررت الجزائر الذهاب إلى نقطة أبعد، تخصّ وقف علاقاتها مع مدريد، فإن توقيف ضخ الغاز يصبح أمراً آلياً، خصوصاً أن الجزائر تحضّرت مسبقاً لهذا السيناريو، عبر التزامها تأمين حاجيات أوروبا من الغاز عبر إيطاليا، بعد اتفاق زيادة الإمدادات الموقع في 11 إبريل/نيسان الماضي.
قد تتخذ الجزائر خطوة في اتجاه إجبار إسبانيا على دفع كلفة أكثر للغاز
ويذهب أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة أم البواقي شرقي الجزائر، مراد كواشي في هذا الاتجاه. وقال، في تصريح لـ"العربي الجديد": "سنمرّ وفقاً لهذه التطورات السياسية، إلى مرحلة توتر على صعيد العلاقات الاقتصادية، وهنا سيكون الاقتصاد الإسباني هو المتضرر الأكبر".
وأضاف: "المتوقع الآن أن تعمد الجزائر إلى إقرار مراجعة لأسعار الغاز المبيع إلى إسبانيا، وإخضاعها لأسعار الأسواق الدولية، وهذا لا يلغي السيناريو الأسوأ، وهو قطع إمدادات الغاز، وخصوصاً في ظل أزمة الطاقة العالمية".
وتابع كواشي: "يمكن أن تخسر إسبانيا مموناً موثوقاً مثل الجزائر، التي تزودها بـ40 في المائة من حاجاتها، وسيكون عليها البحث عن مصادر تموين أخرى أكثر كلفة. أيضاً فإن إسبانيا خسرت السوق الجزائرية كسوق واعدة".
مقابل ذلك، يقول محللون سياسيون إن الخطوات التي تتخذها الجزائر في العلاقة مع إسبانيا، في شكل قرارات سياسية وعقاب اقتصادي، تؤشر على تضخم في الأنا السياسية لدى السلطة الجزائرية، مرده إلى حالة من الاستقرار الداخلي، والتعافي النسبي للاقتصاد المحلي، وتوفّر البلاد على احتياطي صرف مقبول، خصوصاً مع الارتفاع اللافت لعائدات النفط. يضاف إلى ذلك عامل بارز، وهو خلوّ رصيد الجزائر من أي ديون أجنبية.
كل ذلك يعطي القرار السياسي الداخلي للبلاد، استقلالية كبيرة، وهامشاً أكبر في المناورة مع الشركاء، والتموضع في نقطة قوة لممارسة الضغوط بدلاً من تلقيها.
خطوات الجزائر باتجاه إسبانيا والمغرب مدروسة
من جهة ثانية، تبدو الخطوات الجزائرية إزاء إسبانيا كما المغرب، مدروسة لجهة التوقيت السياسي، وتغيير الحجارة على خريطة العلاقات الجزائرية مع الخارج، إذ إنها تأتي بعد ضمان الجزائر تركيز علاقات نوعية مع تركيا والصين وروسيا، وبالأساس علاقات متميّزة مع إيطاليا، كشريك موثوق به في الضفة الشمالية للمتوسط، ومنحها الأولوية في العلاقات المتوسطية، واتخاذ روما كمدخل إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن ذلك لا يمنع بروز مخاوف لدى مراقبين من ردة فعل أوروبية إزاء الجزائر، بحكم قواعد التضامن السياسي التي تحكم العلاقات بين دول الاتحاد.
وفي هذا السياق، أكد المحلل وأستاذ العلوم السياسية مصطفى بخوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "بين الموقف من إسبانيا والموقف من ايطاليا، تبعث الجزائر برسالة مفادها أنها الشريك الموثوق به الذي لا يمكن تجاوزه في الضفة الجنوبية للمتوسط من جهة، والفاعل الذي لا يقبل بسياسة فرض الأمر الواقع ولا بمنطق ليّ الذراع من جهة ثانية".
لكنه شدد على أهمية الحذر من "أننا أمام معادلة أطرافها غير متكافئة، فمن جهة نجد تكتلاً محكوماً بمنطق التضامن بين دوله في شمال المتوسط، ودولة في بيئة مضطربة حدودها كلها مشتعلة في جنوب المتوسط".
وأضاف أن "إسبانيا عضو في تكتل سياسي واقتصادي محكوم بمنطق التضامن بين أعضائه، خصوصاً في القضايا المتعلقة بالأمن الأوروبي المشترك، الذي يحتل فيه أمن الطاقة مكانة محورية، بينما الجزائر تعيش في بيئة مضطربة، بل ربما معادية حتى، خصوصاً بعد الاختراق الذي حققه مشروع الكيان الصهيوني باختراق المنطقة عبر تطبيع المغرب، وربما قريباً موريتانيا".