خلال فترة الحراك الشعبي في الجزائر عام 2019، برز تيار يُرافع من أجل الانتقال من الشارع إلى المشاركة في المؤسسات. وعلى أساس ذلك اقتنعت أحزاب سياسية وكتل شبابية كانت في قلب الحراك، بالمشاركة في الانتخابات النيابية والمحلية، بهدف الإسهام في صياغة القرار والخيارات، والتعبير عن التطلعات الشعبية التي عبّر عنها الشارع، على أمل أن يتجه ذلك إلى التغيير المتدرج.
في الواقع، فإن الرومانسية السياسية الحالمة في الجزائر، أشبه بكومة ثلج، تذوب سريعاً وتتكشف معها الخيبة. لم تجر الأمور على النحو المراد، والمؤسسات النيابية والتمثيلية التي ولدت بعد الحراك، أبعد ما تكون عن نقاش الخيارات، فما بالك بصياغتها حتى، وهذا معنى آخر للخيبة السياسية المتفاقمة في البلاد.
أما "المشاركة في صناعة القرار"، فليست سوى شعار طوباوي بعيد التلمس في الجزائر، من حيث إن السلطة القائمة على شؤون الحكم، لا تزال أحادية التفكير، تتمركز "مؤسسة واحدة" في صلب عقيدتها السياسية ولا تؤمن بالحاجة إلى "المؤسسات".
كذلك انكشف واقع الأداء النيابي والمؤسسة البرلمانية سريعاً، ليكون أسوأ مما كان عليه قبل الحراك، فما زال البرلمان غرفة لتسجيل القوانين التي تقدمها الحكومة، وتمريرها أحياناً من دون تغيير نقطة أو فاصلة. وحتى في الحالات القليلة التي نجح فيها النواب في تمرير تعديلات جوهرية، يعيد البرلمان نفسه الأمور، بضغط من الحكومة، إلى نصابها ويحدث التراجع، ولو بطريقة متجاوزة عرفاً وقانوناً، كما حدث مع المادة 22 من قانون الإعلام (تخص اعتماد الصحافة الأجنبية) في إبريل/ نيسان الماضي.
في رصيد البرلمان الحالي، مجموع 90 قانوناً صادق عليها منذ تنصيبه في يوليو/ تموز 2021، كلها قدمتها الحكومة، على الرغم من أنها جهاز تنفيذي مهمته ليست التشريع بالأساس. وهذا في الحقيقة وضع غريب وغير مفهوم تعيش إزاءه الجزائر حالة من التطبيع السياسي المزمن، كون الحكومة هي التي تصوغ القوانين وتقترحها، بل يمكنها منع النواب من مناقشتها في صلب بعض القوانين، كما حدث مع قانون الاستثمار قبل عام.
وتطلب الحكومة نقاشاً محدوداً في البرلمان يقتصر على مداخلات خمسة رؤساء كتل فحسب، أربع منها موالية للسلطة، وتمر القوانين كشربة ماء في حلق البرلمان.
وفي غضون عامين ونيف، لم يطرح البرلمان الجزائري مقترح قانون واحدا من تلقاء ذاته التشريعية، يهم الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، أو في مجالات اختصاصاته الدستورية، بل اعترض داخلياً وأحبط بطلب من الحكومة وبأمرها، مبادرات تشريعية قدم فيها النواب مقترحات قوانين 36 مرة. وبالمعنى السياسي فإن القاعدة الدستورية انقلبت، وباتت الحكومة هي التي تراقب البرلمان ونوابه، بدلاً من أن يراقب البرلمان الحكومة والوزراء.
لا يؤدي البرلمان الحالي في الجزائر دوره كمؤسسة على النحو الذي يتساوق مع سقف من تطلعات الجزائريين في حراك 2019. ومن الخطورة السياسية أن يتم تحييد كل مؤسسات الاعتراض، البرلمان والأحزاب والإعلام المستقل، وهو ليس طريقاً آمناً.