شهدت العاصمة تونس، يوم السبت، تطوراً لافتاً في المشهدين السياسي والشعبي، بخروج أعداد مهمة من المواطنين الذين عبّروا عن رفضهم المساس بالدستور وضرب الديمقراطية، داعين إلى "إسقاط الانقلاب".
كما أعلنوا عن رفضهم لقرارات الرئيس قيس سعيّد، ورفعوا شعارات عديدة، كان أبرزها تغيير شعار الثورة التونسية من "شغل حرية كرامة وطنية" إلى "دستور حرية كرامة وطنية".
ورغم دعوات كثيرة، يوم الجمعة، إلى عدم تحويل المظاهرة إلى احتجاج شعبي كبير والإبقاء عليها ضمن الاحتجاج الرمزي، فإنّ الحضور يوم السبت في الشارع الرئيسي في العاصمة كان حاشداً، خصوصا أنه الأول منذ 25 يوليو/تموز الماضي، حين أعلن سعيّد عن إجراءاته الاستثنائية، وبعد الاحتجاج الرمزي منذ أيام على سجن النائب ياسين العياري.
وقال المحلل السياسي، الحبيب بوعجيلة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "رمزية نزول التونسيين للشارع هي بداية تبلور شارع مقابل انقلاب 25 يوليو وإجراءاته الاستثنائية، بعد تبلور نخبة سياسية متمثلة في بيانات الأحزاب والشخصيات الوطنية التي عبرت منذ البداية عن رفضها للانقلاب، واعتباره خروجا عن الدستور، وطالبت سريعا بالعودة للشرعية".
وأكد أنّ "الموقف النخبوي تلقّى الدعم اليوم بعمق من الشارع، من خلال مجموعة من الشباب والمواطنين الذين أصبحوا مدركين أن تونس في وضع استثنائي، وأن الشرعية مهددة، وأن العودة للدستور والالتزام به مطلب شعبي".
وتابع بوعجيلة: "ما وقع اليوم من شأنه أن يدحض الحجة التي يعتمدها الرئيس سعيّد، في اعتبار أن موقفه مدعوم من الشارع، فاليوم يمكن الحديث عن انقسام الشارع، بل عن أغلبية في الشارع، تعبّر بوضوح عن رفضها للانقلاب".
وأوضح أنّ "الشارع المقابل الداعم للانقلاب إلى حد اليوم مجرد شارع افتراضي على منصات التواصل الاجتماعي، وفي كثير من الأحيان لا نسمع جملا سياسية بقدر ما نسمع السباب والتفاعلات الفيسبوكية التي تشتم وتلعن كل من يعارض قيس سعيّد".
وتطرّق إلى "عدم وجود نخبة محترمة تساند سعيّد إلا النخب النصيرة دوما للاستبداد والديكتاتورية، ولا وجود لجماهير حقيقية على أرض الواقع، وحتى من خرجوا في 25 يوليو/تموز وفي الليل هدفهم كما لاحظنا حرق المقرات، فلم تكن هناك أطروحة سياسية متبلورة".
وأضاف بوعجيلة أنّ "رافضي الانقلاب بلوروا رؤية ومواقف واضحة، فعلى مستوى النخب صدرت بيانات واضحة من الأحزاب والمنظمات، حقوقية ومدنية واجتماعية، عبرت عن رفضها لما جرى، وطالبت بالعودة سريعا إلى الدستور، واليوم كان هناك شارع وشعب يريد إسقاط الانقلاب وينادي بالدستور والحرية والكرامة الوطنية، وسمعنا خطابا جماهيريا رافضا للانقلاب"، بحسب قوله.
وبين المحلل أن "الشعب كان في وضعية من الانتظار، بينما الرئيس قال أنا أطبق الدستور ولن أخرج عن الشرعية، وكان هناك قبول لتأويل معين للدستور رغم عدم الموافقة عليه، وتم إمهاله ليتجاوز بسرعة الوضع الاستثنائي ويعود للشرعية"، مضيفاً: "ثم بدأ الإحساس بعدم وجود التزام واضح بالدستور، وعدم تمسّك ولا احترام للشرعية، بل كانت هناك رسائل للخروج بشكل كامل عن الدستور".
ولفت إلى أنه "من الممكن أن يكون هناك بعض من الخشية لدى بعض المتخوفين في بداية الأمر لعدم معرفتهم بكيفية تصرّف أجهزة الدولة، ولكن اليوم أثبتت قوات الأمن وأجهزة الدولة أنها على قدر من المسؤولية، باعتبارها تعاملت مع الصوت الآخر المعارض للرئيس بكل احترام، وأمّنوا هذه التظاهرة والتي كانت سلمية وواضحة ومعبرة".
وشدد بوعجيلة "على أن الشارع قدم خطاباً ورسائل واضحة لرئيس الجمهورية في مواجهة الانقلاب، وما على رئيس الجمهورية إلا أن يتفاعل معه".
بدوره، قال القيادي والنائب عن حزب "قلب تونس"، رفيق عمارة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه نزل إلى الشارع اليوم مع عدد من النواب والمستقلين للتعبير عن صوتهم.
وأضاف أن "رمزية التظاهرة هي خروج الشعب رفضا لتعليق الدستور والخروج عليه من قبل رئيس الجمهورية، ولمخالفته للفصل 80 من الدستور الذي قام بمقتضاه بتجميد عضوية النواب وتعليق عمل مجلس نواب الشعب".
وبيّن أن "هذه رسالة للرئيس للكف عن الاعتماد على مقولة تنفيذ إرادة الشعب.. ولنبين له ما يريده الشعب هل هو فعلا ضد الانقلاب أو معه"، مؤكداً أن "الشعب عبّر بوضوح اليوم أنه ضد الانقلاب وضد ممارسات الرئيس الانقلابية، ورفضاً لتغيير الدستور الذي أقسم عليه سعيّد".
وأوضح عمارة أنّ "التونسيين استفاقوا بعد فرحة البعض بإبعاد النهضة عن الحكم وتجميد مجلس النواب، واليوم بعد 55 يوما اكتشفوا أن الوعود واهية ولم يتحقق شيء، فلم تتم محاسبة الفاسدين ما عدا بعض الإيقافات والاعتداءات والتجاوزات، على غرار ما حدث مع سيف الدين مخلوف".
ولفت إلى أن "سعيّد لا يتجاوب مع أحد إلا مع نفسه.. ولكن نأمل عند مشاهدته تظاهر الشعب في شارع بورقيبة أن يتراجع عن قراراته، خصوصا الحديث باسم الشعب وباسم إرادة الشعب".
ويمثل احتجاج اليوم إشارة مهمة في موقف التونسيين من التطورات الحاصلة في بلادهم، حيث بدأ الرفض لخيارات سعيّد يعبر عن نفسه بوضوح وفي الشارع، بعد البيانات الحزبية والمجتمع المدني والمواقف السياسية. ويكسر ذلك مقولة حصرية الدعم الشعبي المطلق للرئيس سعيّد، واحتكار الإرادة الشعبية، من دون أن ينفي ذلك طبعاً استمرار تأييد جزء كبير من التونسيين للإجراءات التي اتخذها سعيّد.
وقالت الناشطة ورئيسة جمعية "نبض بلادي"، ألفة العبيدي، والتي شاركت في تظاهرة بورقيبة، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "ما حصل هو انقلاب على الدستور والشرعية، والمطلوب هو تغيير الوضع الاجتماعي وليس الدستور، ومشكل التونسيين هو مع الفقر والبطالة والتنمية والسياسيين الانتهازيين أيضا وليس مع الدستور".
ورفع محتجون شعار "السبت القادم"، ما يعني أنّ الدعوات إلى الخروج للشارع والاحتجاج ستتواصل وتتكرر، وقد تتسع خصوصاً إذا ما انضمت إليها الأحزاب والمنظمات.
وشهد اليوم أيضاً خروج العشرات من أنصار سعيّد، وهو ما يثير مخاوف من إمكانية حدوث صدامات أو مواجهات، برغم أن الأمن فرّق بين الفريقين.
بدوره، قال النائب المستقلّ، عياض اللومي، الذي كان من بين المتظاهرين، في تصريح لـ"العربي الجديد": "أعتقد أن الوقفة اليوم كانت شعبية ونوعية بأتم معنى الكلمة من حيث خصوصيتها، فهي مظاهرة مواطنية عفوية لا علاقة للأحزاب ولا للكتل البرلمانية بها، تمت الدعوة لها في وقت قياسي".
وأشار إلى أنه قد شارك فيها عدد من الحقوقيين والناشطين في المجالات: السياسي والمدني والاجتماعي، وجامعيون وبعض النواب.
وشدد على أنّ "الشعارات المرفوعة شعارات وطنية لا وجود لأي شعار حزبي بينها، ولم يرفع سوى علم تونس، كما أن الحضور كان مميزا دون تحشيد ولا تأطير".
ولفت اللومي إلى أن "التونسيين عبروا عن رأيهم الرافض للانقلاب بمنتهى السلمية، ولم تحدث إشكالات ولا مناوشات لا مع الوحدات الأمنية ولا مع أنصار قيس سعيّد الذين كانوا في حدود بضعة أنفار"، مضيفا أن "المظاهرات القادمة إذا تم تأطيرها ستكون بمئات الآلاف ضد الانقلاب".
واعتبر اللومي "أن الرئيس لا يمتلك معلومات دقيقة حول ما يحدث"، مؤكداً أنه "ضد الانقلاب على المؤسسات الشرعية بما فيها رئيس الجمهورية." وقال: "أشعر بأن جهة ما تريد أن تحكم من وراء هذا الرئيس"، مضيفاً: "الجهات تحجب عن الرئيس المعلومات حيث نزل إلى شارع بورقيبة الأسبوع الماضي ويبدو أنه لم يتم إبلاغه بأن مواطناً أحرق نفسه صباحاً. ولكن هل يتم إعلامه بكل ما يحدث لأنه لا علاقة لكلامه بما يحدث على أرض الواقع؟".
وشدد على أن لديه "شعوراً بأنّ الرئيس سعيّد معزول وأن هناك انقلاباً عليه"، مشيراً إلى أن "هناك خروقات جسيمة وسيتحمل مسؤوليتها وحده، وتحيلنا تصريحاته على تناقضات كبيرة فهو يتحدث عن احترام الحريات والواقع مخالف تماما على غرار تقييد السفر إلا لمن لهم قضايا وأحكام وبإذن قضائي".
ولفت المتحدث ذاته إلى أنّ "هناك احتمالين إما أنه لا يتم إبلاغ الرئيس بالحقائق أو أنه يتملص من المسؤولية وشخصيا أعتبر أن الرئيس محمول على النزاهة.. الحقيقة لا ندري إن كان علم بكل ما يحدث". وحذر من أنّ "المحقق في كل هذا أن البلاد على هاوية الإفلاس ونحو الانهيار المالي ونحو المجهول"، مضيفاً: "رسالتنا للشعب التونسي وليس للرئيس، ونحن نتفاعل مع الشعب الذي يجب أن يستوعب سلبيات النظام الشمولي والديكتاتورية وأنه لا يمكن حل المشاكل عبر تجميع السلطات".
وتابع اللومي قائلاً: "الرئيس لا نخاطبه عبر الشارع بل أرسلنا له رسالة رسمية من قبل 70 نائبا عبر الطرق الرسمية ونتمنى أن يتفاعل معها"، مؤكداً أن "هناك استفاقة شعبية وكل يوم يفهم الشعب أنه مهما كان الوضع قبل 25 يوليو/ تموز فإن الحل لا يكون بالانقلاب والوضع سيكون أسوأ بكثير مما كان عليه".
وتكثفت المواقف الرافضة والمعارضة لسعيّد مع قرار تمديده للحالة الاستثنائية إلى إشعار آخر، ما أثار حفيظة المنظمات الحقوقية والأحزاب، حتى تلك التي كانت مترددة في البداية أو مساندة ولو نسبيا لقراراته.
ومع تعميم منع السفر ووضع العشرات تحت الإقامة الجبرية، وأمام حالة الانسداد السياسي بتعطيل البرلمان وعدم تعيين حكومة جديدة تواجه بسرعة ملفات مستعجلة أهمها موازنة البلاد، نفد صبر كثيرين بعد 55 يوماً منذ أمسك سعيّد بكل السلطات.
وبدأت أصوات كثيرة تخرج عن صمتها وتتوجس من حالة الفراغ التي تشهدها البلاد، خصوصا وأن سعيّد غير مستعجل في تشكيل الحكومة ويؤكد أن الدولة تعمل بشكل عادي، ويلمح تارة إلى إمكانية تعديل الدستور وأخرى إلى احترامه، بينما تزايدت المخاوف من أن يقدم على تعديلات جوهرية للنظام السياسي من خلال الاستفتاء من دون إشراك الأحزاب والمنظمات.
ومن أبرز هذه المواقف وأكثرها تأثيراً، مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل وأمينه العام، نور الدين الطبوبي، الذي أكد بوضوح على ضرورة إشراك المنظمة النقابية في تصورات المرحلة القادمة وعدم تجاوزها.
وكان بيان المنظمة منذ يومين في غاية الوضوح عندما جدد التأكيد على أن الاتحاد "دعّم هذه الخطوة واعتبرها فرصة تاريخية واستجابة لتطلّعات التونسيات والتونسيين، وتجاوزا لعشرية غلب عليها الفشل والحيف وتفشّي الفساد والإرهاب والاغتيالات السياسية". وطالب، في الوقت نفسه، "بتحديد مدّة الفترة الاستثنائية وضبط مراحل المسار المقبل، مع وجوب توفير ضمانات حول الحريات والحقوق وفي مقدّمتها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".
وأوضح بيان المنظمة أنه "بعد مرور أكثر من شهر ونصف على الإجراءات الاستثنائية، ونظرا لغموض الوضع العام في البلاد، وحرصا على الدور التاريخي الوطني والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل، وإيماناً منه بضرورة ألا نفوّت على البلاد فرصة أخرى للتغيير الحقيقي، فإنّ المكتب التنفيذي يطالب بالتسريع في تشكيل حكومة مصغّرة تتولّى مجابهة الملفّات الاقتصادية والاجتماعية والصحّية، وتضمن استمرارية الدولة وتنفيذ تعهّداتها وتوفّر مناخات ملائمة لتجاوز الأزمة، وتمثّل الدولة التونسية في كلّ المحافل الدولية، ويعتبر أنّ أيّ تأخير في ذلك لن يفضيَ إلا إلى تعميق الأزمة وإلى تفكيك الدولة وتهديد كيانها".
وأكد الاتحاد أيضاً على "وجوب تحديد نهاية الفترة الاستثنائية وتحديد معالم الإجراءات الضرورية اللاحقة، للخروج من الأزمة السياسية ومن حالة الشلل العام الذي أصاب أغلب أجهزة الدولة، وذلك وفق رؤية تشاورية وتشاركية من شأنها أن تسهم لاحقاً في مناقشة رؤية سياسية بديلة، ووضع تصوّر وطني لنظام حكم يلقى مشروعية شعبية وسياسية".
وشدّد على "وجوب احترام مبدأ الحوار الاجتماعي الذي تميّزت به تونس لعقود"، و"على وجوب احترام المكاسب التي جاءت بها ثورة الحرّية والكرامة وتضمّنها الدستور من حريات وحقوق، ومنها حرّية الإعلام وحرّية التنقل وحقّ الدّفاع والحقّ في الاحتجاج والحقّ في المحاكمة العادلة وضمان استقلالية القضاء وعدم إقحام القضاء العسكري في القضايا المدنية".