بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن من جديد وكأنه يمسك بزمام الملف الأوكراني في لحظة دقيقة "كخبير في السياسة الخارجية"، بما أدى إلى تحقيق التفاف داخلي حوله غير مسبوق، شمل قيادات الحزب الجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب ورموز من مرجعياته الفكرية مثل جورج ويلّ، الذي يعتبر عميد الفكر الجمهوري، والذي قال إن حضور بايدن في ساحة كييف وسط حالة الحرب هي "لحظة عظيمة على كل أميركي أن يفتخر بها"، وهذه شهادة لم يكن بايدن ليحظى بها لولا الخصومة مع بوتين.
ولم يكن ليحظى الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن، اليوم الثلاثاء، في وارسو، بالرغم من علوّ نبرته تجاه موسكو بالقدر من الاهتمام الذي ناله لو لم يأتِ بعد ساعات من زيارة التسلل التي قام بها أمس الاثنين لأوكرانيا، والتي "ضرب فيها أكثر من عصفور بحجر" .
فالزيارة بتوقيتها وظروفها وعملية إخراجها انطوت على رمزية قوية تحمل رسائل حازمة في أكثر من اتجاه داخلي وأوروبي وروسي، وحتى صيني. وربما زاد من أهميتها أنه تلاها خطاب للرئيس بوتين وضعه المراقبون في خانة "البائس" أو"اليائس".
والآن، وصلت الخصومة بين واشنطن وموسكو إلى شبه قطيعة، إذ يشكل انسحاب موسكو من اتفاقية خفض الأسلحة النووي الجديدة، سابقة تترك العالم فريسة لهواجس وكوابيس الإبادة، ولو أن احتمالاتها مستبعدة.
وبإسقاط الاتفاقية، تتوقف عمليات التفتيش التي يقوم بها الجانبان على مواقع هذه الأسلحة ومرابضها. وشكّل ذلك صمام أمان منذ زمن الحرب الباردة. غياب هذا الصمام في وقت تدور فيه حرب ساخنة، ولو بالوكالة من ناحية الجانب الأميركي، يثير مخاوف جدية، خاصة أن الكرملين سبق أن لوّح بهذا السلاح في وقت سابق من حرب أوكرانيا.
وحتى الآن، بدا أن ذلك كان للتهويل، والضغط على الغرب لوقف تسليح أوكرانيا. عدم ترجمة التهديد بالرغم من مواصلة، بل مضاعفة تمكين أوكرانيا، عزز الاطمئنان في هذا الخصوص، وفتح باب تسليح أوكرانيا بصورة فعالة ميدانياً، مع إعلان المزيد من تزويد أوكرانيا بأسلحة متقدمة.
ورغم صدور إشارة اليوم عن وزارة الخارجية الروسية بأن الانسحاب من الاتفاقية النووية "يمكن العودة عنه"، لكن أجواء التشكيك السائدة تطرح علامات استفهام حول نية هذا التراجع، ولو أن الرئيس بوتين في كلمته لم يكرر ما سبق أن قاله في الماضي عن عزم موسكو على استخدام ما لديها لحماية أراضيها، ومنها ضمناً الأراضي الأوكرانية المحتلة، ويعني ضمنا السلاح النووي.
ولاح في الأفق خيط أمل ثانٍ يتمثل باحتمال أن تبادر الصين خلال زيارة رئيسها شي جين بينغ لموسكو في الأشهر القليلة القادمة، على طرح صيغة تفاوض لوقف الحرب. وجاء هذا على خلفية شبه تحذير أعلنته إدارة بايدن أواخر الأسبوع الماضي، مفاده أن لديها معلومات عن أن بكين "تفكر في تزويد موسكو بأشياء قاتلة.. يعني بأسلحة"، كما قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
وازدادت الخشية بزيارة وزير خارجية الصين لموسكو. وربط التوجس الأميركي بين ما ورد في البيان المشترك الصيني الروسي في أثناء زيارة الرئيس بوتين لبكين مثل هذه الأيام من العام الماضي عن "الصداقة اللامحدودة" التي تجمع البلدين وبين حاجة روسيا الآن إلى دعم عسكري، في ضوء "تخبّط" وضعها الميداني. والدليل استعانتها بالمسيَّرات الإيرانية.
لكن ثمة قراءة أخرى من ذوي الرؤوس الباردة تقول بأن اهتمامات الصين "اقتصادية"، وليست دعم صديق في وضع ميداني صعب، فهي من البداية حيادية في المجال الميداني، باعتراف الأميركيين، فالعلاقات التجارية مع أوروبا والولايات المتحدة تحتل "أولوية" لديها، لكن الريبة ارتفع منسوبها بعد قضية المنطاد الذي أسقطه الأميركيون، وبات الصينيون موضع تشكيك في ما يتعلق بحرب أوكرانيا والاشتباه بتوجه صيني لانتشال موسكو من ورطتها.
فهل تلعب بكين دور المنقذ من بوابة سلمية عبر علاقتها المتينة بالكرملين وحاجة هذا الأخير لمخرج؟ علماً بأن جرعة التوتر العالي الذي أضافه تسلل بايدن تحت جنح الظلام إلى كييف، ثم خطابه في وارسو وخطاب الرئيس بوتين كله عزز الاعتقاد السائد أخيراً بأنها حرب مديدة وكاسرة.
وتحولت أجواء التخوف والحذر في واشنطن في الفترة الأخيرة إلى نزوع نحو التشدد والدعوة إلى الحسم، رغم المحاذير التي تلفت إليها بعض الأوساط.