التعذيب في الجزائر: لا قطيعة مع ممارسات العهود السابقة

05 فبراير 2021
يتعرض الموقوفون للاعتداء الذي يمسّ بكرامتهم (رياض كرامدي/فرانس برس)
+ الخط -

يعود ملف التعذيب والتعنيف والتجاوزات في حقّ الموقوفين في مقرّات الأجهزة الأمنية والاستخبارات، إلى واجهة النقاش السياسي والحقوقي في الجزائر، على خلفية إقرارات جديدة لناشطين بشأن تعرّضهم للتعذيب والمسّ بكرامتهم من قبل هذه الأجهزة. ويأتي ذلك وسط مطالبات بفتح تحقيقات في هذه القضايا، وملاحقة الأمنيين المتورطين في أعمال التعذيب النفسي والجسدي بحقّ الموقوفين، والتجاوزات الأمنية السائدة. وقبل أيام، واجه الناشط الجزائري وليد نقيش، هيئة محكمة الدار البيضاء، شرقي العاصمة الجزائر، خلال جلسة محاكمته بعد 14 شهراً من توقيفه خلال تظاهرة للحراك الطلابي، بتهمة "التحريض على حمل السلاح"، و"الانتماء إلى حركة انفصال منطقة القبائل"، و"التآمر على سلطة الدولة". وكشف نقيش عن تعرّضه للتعذيب والاعتداء الجنسي في مركز الأمن التابع للاستخبارات في العاصمة، والذي يُعرف بـ"مركز عنتر"، وهو مركز سيئ السمعة في البلاد. كما أبلغت هيئة الدفاع عن الطالب الناشط، هيئة المحكمة، بتعرّضه للعنف والاعتداء الذي يمسّ من كرامته، وطالبت في مناسبتين القضاء بالإذن بفتح تحقيق في القضية. لكن القضاء رفض الاستجابة لهذه المطالب، ما يطرح الكثير من الأسئلة حول استمرار التغطية على تلك الوقائع والتجاوزات.

أكد ناشط تعرضه للتعذيب والاعتداء الجنسي في مركز أمن للاستخبارات

وقالت المحامية نصيرة حادوش، خلال المحاكمة، إن الطالب وليد نقيش، "تقدم بشكوى رسمية لدى النيابة العامة في مجلس قضاء الجزائر العاصمة، بتاريخ 23 يوليو/تموز الماضي، وذكر بشكل صريح أنه تعرّض للتعذيب، إلا أن قاضي التحقيق لم يقم بإحالة الشكوى إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية". وأضافت حادوش أن "قاضي التحقيق رفض طلباً تقدم به دفاع المتهم، المتعلق بانتداب طبيب مختص لتحديد آثار التعذيب الذي تعرّض له، كما لم تقم النيابة العامة بأي تحقيق نزيه ومعمق في جريمة التعذيب التي يعاقب عليها بمقتضى قانون العقوبات"، حيث إنه "لا يمكن دحض ادعاء التعذيب، خصوصاً عندما تكون هناك شكوى رسمية، إلا بفتح تحقيق نزيه ومعمق، وتقديم نتائج التحقيق في ذلك".

وقبل الطالب نقيش، كان عددٌ من الناشطين قد كشفوا عن تعرّضهم للتعذيب النفسي والجسدي وتجاوزات بحقّهم في مراكز أمنية، بينهم الناشط السياسي البارز كريم طابو، والذي كان أعلن، خلال محاكمته في شهر مارس/آذار الماضي، عن تعرّضه للعنف والضرب والكلام الجارح في مخفر الاستخبارات خلال التحقيقات. وقال طابو حينها، إن ذلك حصل سعياً لمساومته بشأن الترشح للانتخابات الرئاسية السابقة التي جرت في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، واتهم الأجهزة الأمنية بتعذيبه نفسياً، عبر عزله في زنزانة لمدة 22 ساعة. ودانت هيئة دفاعه هذه الممارسات من قبل الأجهزة الأمنية.

وقبل تصريحات طابو هذه، كان موقوف في قضية فساد، يُدعى كمال شيخي، قد كشف خلال محاكمته تعرّضه للتعذيب والصعق بالكهرباء في مركز للأمن، لأجل انتزاع معلومات وإقرارات تستهدف توريط خالد تبون، نجل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، معه في القضية، في الفترة التي كان فيها الأخير مستبعداً من الحكم ومغضوباً عليه من قبل شقيق الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، السعيد بوتفليقة، والكارتل المالي حينها.

بدوره، يروي الناشط الجزائري، وعضو الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان، أحمد منصري، لـ"العربي الجديد"، قصة تعرّضه للتعذيب داخل مركز للأمن في ولاية تيارت، غربي الجزائر. ويقول منصري: "تعرضت للضرب والتعنيف القاسي، وحصلت بعدها على وثائق طبية تثبت ذلك، لكنني أخفقت في ملاحقة الأمنيين المتورطين"، مؤكداً حماية السلطة لهؤلاء. ويرى الناشط أنه "كلّما تحدثت عن التعذيب، سيجعلك ذلك عرضة لملاحقات قضائية أخرى، بحيث تتم متابعة كل منشوراتي، وتحويل كلّ ما أمكن منها إلى قضية لإرهاقي، بما فيها منشورات تتحدث عن قضايا فساد في قطاع الجامعات".

لعقود طويلة، ظلّ النقاش حول الملف محدوداً في الجزائر

وفي فيديو بثّه الناشط المعروف في الحراك الشعبي، إبراهيم الدواجي، أعلن الأخير تعرّضه للتهديد بالاغتصاب، وجرى تعذيبه نفسياً. وذكر الدواجي أن أحد المحققين معه، هدّده بإدخال عصا في مؤخرته، في حال لم ينصع للتعاون معهم. كما أعلنت هيئة الدفاع عن الناشط إبراهيم لعلامي، في وقت سابق، تعرّضه للتعنيف بعد اعتقاله، حيث ظهر في المحاكمة وعلى يده جبر وضمادات.

ويعتبر الناشطون في الحركة الحقوقية في الجزائر، أن هناك استمراراً لهذا النوع من الممارسات في مراكز الأمن ومخافر الاستخبارات، مؤكدين وجود حالات كثيرة من قضايا التعذيب والتجاوزات العنيفة في حقّ الموقوفين. ويقول المحامي والناشط الحقوقي عبد الرحمن صالح، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك معنى واسعاً للتعذيب، إذ لا نقصد به فقط التعذيب الجسدي، بل إن التعريف القانوني والحقوقي للتعذيب ينطوي أيضاً على كل أنواع التعذيب النفسي والضغوط والتهديدات المعنوية والتحرش الجنسي". ويوضح صالح أنه "ينظر دائماً إلى التجاوزات على أنها ممارسات فردية لا ترقى لوصفها بطرق استنطاق عنيفة ممنهجة، لكنها دائماً تتم داخل مقرات رسمية". ويرى أنه "في حال وصول اتهام بالتعذيب إلى القضاء والتعامل معه بشكل جدي، فإنه غالباً يتم إنزال عقوبات قاسية ضد المتهمين به، إلا أنه يلاحظ أن قليلاً من الشكاوى هي التي يتم التعامل معها بشكل جدي". ويضيف المحامي والناشط الحقوقي أن "التعامل بهذه الطريقة مع قضايا التعذيب، يعود إلى إحاطة الأجهزة الأمنية بهالة من القداسة. وبالنسبة للعموم، فإن عمل الأجهزة الأمنية أيضاً هو عمل نبيل. وبحسب البعض، فإن أي حديث عن وجود تعذيب، أمر غير صحيح، إضافة إلى بعض الضغوط التي تمارس على الضحايا لمنعهم من تقديم شكاوى ضد الأمنيين وتجاوزاتهم". لكن صالح يشير، في الوقت ذاته، إلى أن توارد حالات التعذيب في مخافر الاستخبارات "يفرض التفكير في وضع وتشريع قانون ينظم عمل واختصاصات وصلاحيات وحدود ومهام هذا الجهاز، لمنعه من ارتكاب التجاوزات من جهة، وتوفير حماية قانونية وتشريعية للجهاز نفسه وعناصره في المقام الأول ضد أي ضغوط أو استغلال أو تدخل في عمله من الطرف الأقوى في كل مرحلة سياسية، مثلما حدث خلال السنوات الأخيرة من حكم بوتفليقة".

تشمل التجاوزات، التعذيب الجسدي وكل أنواع التعذيب النفسي والضغوط والتهديدات

ودفعت قضية تعذيب الطالب وليد نقيش، بالملف إلى واجهة النقاش السياسي أيضاً، بعدما تبنته أحزاب سياسية. وقال المتحدث باسم "جبهة القوى الاشتراكية"، كبرى أحزاب المعارضة في الجزائر، جمال بالول، إنه يتعين فتح تحقيق في استمرار ممارسة التعذيب في الجزائر. وأضاف أنه "بعد التصريحات التي أدلى بها الطالب وليد نقيش أثناء محاكمته، يجب التجند من أجل مساءلة ومحاكمة المسؤولين والمتورطين في ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية المهينة والماسّة بكرامة الإنسان، التي تعرّض لها الطالب أمام الضبطية القضائية". ولفت بالول إلى أنه "يتعين على النيابة العامة فتح تحقيق، وتحريك الدعوى العمومية ضد المتورطين في هذه الأفعال التي يعاقب عليها القانون وتمنعها المواثيق الدولية"، خصوصاً أن الدستور الجزائري يضمن "حرمة الإنسان، وحظر جميع أشكال العنف الجسدي والمعنوي والاعتداء على الكرامة والتعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة". كما شدّد على أن الجزائر طرف مصادق على اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، عبر مرسوم رئاسي صدر في مايو/أيار 1989.

وتفرض المادة 12 من الاتفاقية، على الدولة، قيام سلطاتها المختصة بإجراء تحقيق سريع ونزيه كلّما وجدت أسباباً معقولة تدعو إلى الاعتقاد بأن فعلاً من أعمال التعذيب قد ارتكب. كما تشدد المادة 13 من الاتفاقية ذاتها، على أن تضمن الدولة لأي فرد يدّعي بأنه قد تعرّض للتعذيب، الحق في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها المختصة التي يجب أن تنظر فيها على وجه السرعة وبنزاهة، واتخاد الخطوات اللازمة لضمان حماية مقدم الشكوى والشهود من كافة أنواع المعاملة السيئة أو التخويف. كما ينص الإعلان الدولي للحماية من التعذيب على أنه "لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي، مثل حالة الحرب أو التهديد بالحرب أو عدم الاستقرار السياسي الداخلي، أو أي حالة طوارئ أخرى، لتبرير التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة".

ولعقود طويلة، ظلّ النقاش حول ملف التعذيب والتجاوزات في المقار الأمنية في الجزائر محدوداً، لاعتبارات سياسية وقانونية، لكن ذلك لم يمنع الهيئات الحقوقية والناشطين من طرح الملف للنقاش مع كل فرصة ممكنة. وبعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، أصدرت "الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان" تقريراً عن حالات تعذيب وتجاوزات تعرّض لها الشباب الموقوف خلال التظاهرات في مقار الأمن والثكنات. واستعرض كتاب "الكراس الأسود لأكتوبر" الذي أصدرته الرابطة بعد سنوات من ذلك التاريخ، عدداً من الروايات والحالات، ولم تنف السلطات ممثلة في وزير الدفاع حينها، خالد نزار، في تصريحاته ومذكراته التي نشرها، اللجوء إلى ممارسة التعذيب، مقراً بحدوث تجاوزات، لكنه حاول تفسيرها بكونها أفعالا معزولة ولم تكن عملا ممنهجاً من قبل أجهزة الدولة.

وخلال فترة الأزمة الأمنية (تسعينيات القرن الماضي)، أُطلقت يد الأجهزة لممارسة التجاوزات، ولم تكن الظروف السياسية تسمح بوجود أي مقاومة للتعذيب والتجاوزات الفظيعة التي حدثت خلال تلك الفترة. وقد نشرت الكثير من القصص التي تحدث فيها ضحايا التعذيب عن طرق بشعة استخدمت ضدّهم في المقار الأمنية، تحت مبرر مكافحة الإرهاب. هذه الممارسات تحدثت عنها المنظمات الدولية بشكل خاص، وناشطون حقوقيون في الجزائر، ويمكن ملاحظة أن أحد أبرز الأسئلة التي وجهت للرئيس السابق بوتفليقة مباشرة بعد خروجه من مكتب التصويت خلال الاستفتاء حول قانون الوئام المدني في سبتمبر/أيلول 1999، كانت حول وجود مقار تحت الأرض للاستخبارات يمارس فيها التعذيب، وهو سؤال رد عليه بوتفليقة بغضب حاد، واتهم الصحافي الذي طرحه بالعمل لصالح جهة ما، مؤكداً حينها أن السجون الجزائرية مفتوحة لكل المنظمات الدولية، بما فيها منظمة العفو الدولية.


 

المساهمون