التطهير العرقي: جرائم مهدت للوطن القومي الموعود

25 يوليو 2021
بدأ التطهير العرقي من الهجرة اليهودية إلى فلسطين (Getty)
+ الخط -

بداية لم يكن من الممكن تحقيق حلم الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين دون ارتكاب جرائم التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، فالفكرة كانت ولا تزال تتطلب اقتلاع وتشريد الشعب الأصلي لتغيير هوية الأرض وتاريخ الشعب الفلسطيني بكل الوسائل، فالناحية الأخلاقية لم تكن ولن تشكل مشكلة لتكملة المشروع الصهيوني.
لكن الفرق بين بداية المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية للقضاء على الشعب الفلسطيني وتدمير قراه في عام 1948 وفي الخمسينيات، أن تلك الجرائم كانت أكثر قبولا باعتبارها جزءا من عملية فرض الحداثة على الشعوب المتخلفة من وجهة نظر الثقافة الاستعمارية التي تؤمن بسيادة وتفوق الرجل الأبيض.
فبالرغم من التمييز ضد اليهود، باعتبارهم مجموعة غريبة عن الحضارة الأوروبية ولا مكان لهم فيها، فإن المشروع الصهيوني اعتمد التفوق الأوروبي ونظرية تحديث الهمجيين، التي بررت المجازر ضد الأميركيين الأصليين في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، وفظاعات الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا، كغطاء ومبرر "حضاري" لإنشاء دولة تتطلب إلغاء الشعب الفلسطيني من التاريخ.

ففي كتابه "وطن قومي لليهود"، تحدث ثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، صراحة عن وطن يهودي في فلسطين يكون بمثابة قلعة متقدمة للحضارة الأوروبية، بل جزء منها، لتحديث وترويض "الهمجيين". هرتزل، الذي كان يهوديا متماهيا مع الهوية الأوروبية، لم يتوان في عرض الفكرة الصهيونية لمسؤولين أوروبيين، أهمهم وزير خارجية روسيا المعروف بعدائه للسامية، بأنها تمثل حلا "للمسألة اليهودية"، بخروج اليهود من أوروبا إلى وطن قومي لهم، وفي فلسطين.

فالمشروع الصهيوني لم يكن تعبيرا عن "القومية اليهودية"، غير الموجودة أصلاً، أو عن حركة تحرر وطني، بأخذ الاستعمار الأوروبي وغزو "الرجل الأبيض" للأميركيتين نموذجاً، بل كان مولوداً مسخاً لفكرة استمرار التفوق الأوروبي، فمجازر فرنسا في الجزائر وبلجيكا وفي الكونغو كانت تعتبر ضرورة لنشر الحضارة لمن برأيهم لا يتمتعون بالصفات "الإنسانية" نفسها للشعوب الأوروبية (في ما عدا الغجر واليهود وغيرهم من المجموعات التي انتقصت إنسانيتها داخل أوروبا)، وعليه، فإن ارتكاب مجازر التطهير العرقي لم يكن نشازا بل جزءا من مهمة ثقافية وحضارية للمستعمر.

لذا فلم تكن الصهيونية بحاجة إلى قوانين، التي جاءت بعد إنشاء الدولة، ولا محاولات تبرير، فمجزرة دير ياسين لم تكن مخفية بل وثقها الصليب الأحمر الدولي ومراسل نيويورك تايمز، لأنه لم تكن هناك ضجة في حينها، إذ كانت فكرة قتل "الهمجي" غير مستغربة بل يتبجح بها كبار الساسة الأوروبيين، مثل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، حين دعا إلى "تسميم القبائل الهمجية" لقمع ثورة الأكراد ضد الجيش البريطاني، مستندا إلى أسطورة "تفوق العرق الآري".

لم يكن تشرشل يدعو إلى تطهير عرقي، لكن مفهوم تفوق مجموعة على أخرى وتقويض إنسانيتها يصب في صلب عنصرية المشروع الصهيوني، بل أصبح جزءا منها، لأن الحداثة تتطلب تطويع الآخر المتوحش، فاقتلاع شعب يصبح ممارسة عملية في نشر الحضارة، ولذا كانت عمليات التطهير العرقي فجة في تعبيرها ومساحة تطبيقها ولا تطلب كثيرا من المدة الزمنية. التطهير العرقي اتخذ أشكالا وحشية، إن كان بالمجازر وترويع السكان أو تدمير مدن وقرى وتهجير سكانها إلى مناطق أخرى لتغيير الخريطة السكانية والجغرافية وتاريخ الشعب الفلسطيني، وانتزاع الإنسان الفلسطيني من ثقافته وأرضه، وعزله حتى عام 1967، وإخضاعه للحكم العسكري وعزله عن محيطه الفلسطيني والإسلامي.

لكن منذ بداية تأسيس الدولة الصهيونية، بدأت بإرساء سياسات التطهير العرقي المخفية. فرفض وإنكار حق العودة للشعب الفلسطيني والتعويض كما نص عليه القرار 194، هو أهم أركان التطهير العرقي الخفي للشعب الفلسطيني، وسيبقى أهم سلاح تستعمله إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، تعززه بقوانين تحت مسميات "أملاك الغائبين" التي تتيح للدولة الاستيلاء على أراضي وبيوت الفلسطينيين المهجرين، والذي استمرت في تطبيقه بعد احتلال ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية عام 1967، إضافة إلى سن قوانين عديدة تجعل عمليات التطهير العرقي تبدو أقل فجاجة ودموية لكنها مماثلة لها في قساوتها لإنهاء حقوق الشعب الفلسطيني.

جزء كبير من المعضلة أن العالم، وإن أدان الاحتلال وممارساته باعتبارها مخالفة للقانون الدولي، عمليا يخضع لنتائجها بفضل دعم واشنطن اللامحدود للدولة الصهيونية، إذ إن ذلك يسهل استمرار التطهير العرقي، ليس بمعنى قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، بل بحرمانهم من أراضيهم وحقولهم ومائهم لدفعهم إلى الهجرة أو إلى الانتقال إلى مدن وقرى أخرى تقع ضمن المخطط الصهيوني لإنشاء كتلة سكانية من المدن والقرى على شكل بانتوستانات، تتيح للمستوطنات البقاء والازدهار والتمدد والاستمرار في تهويد القدس.

فبعد حرب عام 1967، أصبحت المستوطنات وبناؤها وتوسعها هي الأداة الأهم والأكثر فعالية للتطهير العرقي، إذ تضمن تقليص الرقعة التي يقيم عليها الفلسطينيون، أو التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، حتى لو كانت السلطة لا سيادة لها، لكن تقليص مساحة صلاحياتها يؤسس لترسيم حدود المستعمرات ومساحتها، تمهيدا لما يسمى الوضع النهائي الذي تريد فرضه على الفلسطينيين والعالم.

مفهوم المستوطنة أو المستعمرة لا يعتمد على مصادرة الأراضي ونقل كتل سكانية جديدة من المهاجرين اليهود إلى إسرائيل، لتغيير الطابع الديمغرافي للأراضي الفلسطينية، بل يتجاوزه إلى جعل المستوطنين أداة لترهيب الفلسطينيين والاعتداء عليهم، واقتلاع أشجارهم وحرق محاصيلهم، والاستيلاء على مياههم وآبارهم بدعم كامل من الجيش الإسرائيلي.

لكن ولفترة طويلة حاولت إسرائيل تصوير بناء المستوطنات كعملية إحياء سكنية وتوسيعها، ساعدها على ذلك متواطئون في الإعلام الغربي، لعل أهمهم توماس فريدمان، الكاتب في نيويورك تايمز، الذي كان من أول الذين أعلنوا عن حلف الأردن الاستراتيجي مع أميركا و"وأد الفتنة"، ومن أوائل الذين استعملوا تعبير "الأحياء السكانية" لإلغاء صفة عنف الاحتلال، لخلق انطباع أن معارضة المستوطنات هي شكل من أشكال التمييز ضد اليهود والعداء للسامية. واستعانت إسرائيل، كما دائما، بوجود تهديد وجودي ممن تسميهم بالإرهابيين من "القوميين الفلسطينيين"، إضافة إلى داعش الذي ليس له انتشار في فلسطين، و"الخطر الإيراني"، وبكل ما يساهم في تسويق كذبة "الدولة الديمقراطية المحاصرة في منطقة عدائية وعداونية"، أي من العالم العربي.

جزء لا يقل أهمية في الاستراتيجية الصهيونية لممارسة التطهير العرقي هو المتطلبات الأمنية، التي أصبحت ذريعة لكل إجراءات التطهير العرقي، من بناء الجدار العنصري، وسحب هويات المقدسيين، ورفض لم شمل العائلات الفلسطينية، إلى مصادرة الأراضي الفلسطينية وسحب الأهالي من بيوتهم بالضرب تحت تهديد السلاح لتجريفها. فالمتطلبات الأمنية التي لا يحاسبها أحد في العالم عليها، هي أداة سهلة لخطف الفلسطينيين والحكم عليهم بالمؤبدات والتعذيب، لكنها بهذا الإخضاع وأحيانا التهجير، تستقوي بالولايات المتحدة التي تمنع أي محاولة لتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة على إسرائيل، التي تحرم كل هذه الممارسات دون استثناء.

لكن لن نرى الآن عمليات تطهير عرقي واضحة مثل مجزرة دير ياسين أو مسيرة الموت في اللد والرملة، التي اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي دايان في مذكراته بارتكابها، خاصة أن هناك إعلاما مباشرا لم يكن موجودا وانتقلنا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي أبدع الفلسطينيون في استخدامها لتوثيق محاولات تهجيرهم وقتلهم، كما شاهدنا في حي الشيخ جراح وسلوان وحتى خلال العدوان الإسرائيلي على غزة. هنا يجب الإشارة إلى أن إسرائيل تستعمل صور جرائمها لبث الرعب بين الفلسطينيين متعللة برواية "حرب متكافئة"، وحقها "في الدفاع عن النفس"، التي تسمح لها واشنطن والدول الأوروبية باستخدامها.

في الضفة الغربية والقدس الوضع يختلف قليلا، لاختلاف الطموحات الإسرائيلية هناك، فقد حاولت تصوير كل هذه القضايا، بعد إبداع وشجاعة وبلاغة الفلسطينيين في البث عبر وسائل التواصل الاجتماعي المرئية لمواجهة محاولة تهجيرهم، بأنها مسألة خلاف بين مالك ومستأجر أو مقيم غير شرعي في بيوت القدس العريقة بهدف تهويد المدينة، لكن نجاح الفلسطينيين على تويتر وإنستغرام وفيسبوك فرض على الصحف والقنوات الغربية عرض رواية الفلسطينيين بشكل غير مسبوق في فضح العنصرية وعمليات التطهير العرقي الصهيونية.

المعركة مستمرة وإسرائيل ستستمر في ابتكار وسائل خفية وظاهرة لتغطية حقيقة مشروعها، لكن الهبة الفلسطينية في مقاومة وكشف عمليات التطهير العرقي فتحت فصلا جديدا ومواجهة إعلامية تفوّق الفلسطينيون فيها حتى هذه اللحظة. لكن المشروع الصهيوني أيضا دخل في مرحلة متقدمة ولا يمكن وضع كل المسؤولية على المواجهة البطولية على الأرض والإعلامية على أهميتها دون تشكيل قيادة برنامج تحرر وطني، إذ إن إسرائيل ماضية في تنفيذ ابتلاعها للوطن الفلسطيني.