أنشأت منظمات إرهابية مارست التطهير العرقي في فلسطين دولة إسرائيل الاستيطانية، استناداً إلى دعم الدول الأوروبية، خصوصاً بريطانيا وأميركا. أي هي نتاج الحرب التي أنتجت النكبة الفلسطينية عام 1948.
قبل شهر من اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل بتاريخ 11 مايو/ أيّار 1949، ومن تسجيلها في القرار 273 (الدورة 3)، دولة محبة للسلام، ارتكبت منظمتا الآرجون وشتيرن؛ من المنظمات التي شاركت في قيام دولة إسرائيل، مجزرة دير ياسين في 9 إبريل/ نيسان 1948.
بعد اعتراف دول العالم بدولة إسرائيل؛ على أساس تعهدها احترام ميثاق الأمم المتحدة، شنّت إسرائيل، وما زالت، عدة حروب ضد جيرانها، أدت إلى مزيد من الكوارث والمعاناة لسكان المنطقة.
لم تتغير طبيعة إسرائيل ولا أهدافها منذ نشأتها، ما زالت الدولة الوحيدة التي تمارس الاحتلال العسكري المباشر، مخالفةً مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الأساسية، وقرارات المنظمة الدولية الرافضة للاستعمار.
تدرك إسرائيل؛ وفق الكثير من الكتاب والمفكرين والسياسيين، منهم إسرائيليون، أنها دولة منبوذة في محيطها، تواجه الكثير من الانتقادات حول العالم وفي المنابر الدولية، لذلك تحاول إسرائيل توظيف التطبيع لدرء تلك التوصيفات عنها، دون معالجة الأسباب التي أدت إلى تصنيفها كذلك.
تنتظم العلاقات بين الدول وفق الاتفاقيات الثنائية بينها، أو الاتفاقيات الدولية والإقليمية التي توقعها. لكل اتفاقية التزامات بينية تلتزم بها الدول الموقعة. كذلك تنطوي اتفاقيات التطبيع على التزامات قانونية وسياسية متبادلة، لكن لا ترى إسرائيل في الاتفاقيات أكثر مما يلبي حاجتها، وليس هناك ما يشير إلى عزمها تغيير طبيعتها أو سياستها الاستعمارية في فلسطين، تجاوباً؛ ولو شكلياً، مع اتفاقيات تطبيع الدول العربية الحديثة والقديمة.
من حيث المبدأ اتفاقيات التطبيع، بين الدول العربية وإسرائيل، قانونية، كونها اتفاقات ثنائية بين دول ذات سيادة تحت القانون الدولي؛ تهدف إلى إحداث نتائج قانونية معينة، لكن قانونيتها لا يبعد الشبهة عنها، ولا يخفف من عدم قانونيتها، الاتفاقيات فعل يحدث نتائج قانونية تتسم بـ:
1- مخالفة روح ونصوص ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ وأعراف القانون الدولي، الذي يعتمد الميثاق مرجعاً له.
2- مخالفة روح ونص المعاهدات والاتفاقيات التاريخية العربية، التي وقّعت عليها جميع الدول العربية في الجامعة العربية، أو ثنائياً بينها، التي ما زالت سارية وملزمة لأطرافها.
3- مخالفة الدساتير والقوانين المحلية في الدول المطبعة، مثل الدستور الإماراتي، ينص في المادة 12 "تستهدف سياسة الاتحاد الخارجية نصرة القضايا والمصالح العربية والإسلامية وتوثيق أواصر الصداقة والتعاون مع جميع الدول والشعوب، على أساس مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والأخلاق المثلى الدولية". هذه مادة محمودة وفريدة بوضوحها، لا يرد مثيلها في دساتير الدول العربية التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل.
كلمة "تستهدف" الواردة في نص المادة توحي بأن دولة الإمارات تهدف؛ بقصد وبأولوية، نصرة القضايا والمصالح العربية والإسلامية. من نافل القول، هذا الإعلان الدستوري موسوم بأسماء حكام الإمارات السبع، يحمل معه واجبات لم تعلن دولة الإمارات أنها نقصت عنها. لذلك يمكن القول إن اتفاقية تطبيع الإمارات مع إسرائيل تتناقض مع الدستور الإماراتي.
لم تتضمن اتفاقيات التطبيع أي من قرارات الأمم المتحدة بشأن الاحتلال الإسرائيلي، كما لم تصر أي من الدول المُطبعة على دعم الحقوق الفلسطينية الثابتة أو أخذ تعهد من إسرائيل على تغيير سياساتها الاستعمارية في فلسطين.
أضف إلى ما سبق، أن نصرة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية الثابتة بكل الوسائل كانت وما زالت من ثوابت سياسات الدول العربية الداخلية والخارجية، المتوافقة كلياً مع مواقف الشعب العربي عامة، وصارت جزءاً من ثقافة وممارسة الشعوب والحكومات اليومية، حتى أصبحت من إجماع الأمة. ثم توقع الحكومات العربية اتفاقيات التطبيع، معلنة أن كل ما آمن به الشعب، ورسخ في وجدانه منذ ما يزيد عن سبعة عقود، لم يعد مقدساً أو محل إجماع، بل يمكن التنازل عنه دون مقابل.
لم يتغير شيء في غطرسة وطبيعة إسرائيل وممارساتها اليومية ضد الشعب العربي في فلسطين وخارجها، إذ يخالف استعمارها جميع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، التي أكدت حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف؛ حقه في العودة وتقرير المصير وإنشاء دولته المستقلة.
مع ذلك لم تتضمن اتفاقيات التطبيع أي من قرارات الأمم المتحدة بشأن الاحتلال الإسرائيلي، كما لم تصر أي من الدول المُطبعة على مواقفها من الاحتلال الإسرائيلي، ومن دعم الحقوق الفلسطينية الثابتة؛ غير القابلة للتصرف، أو حتى إلزام؛ أو أخذ تعهد من إسرائيل على تغيير سياساتها الاستعمارية في فلسطين.
في المادة الثالثة من معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل؛ وادي عربة، في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1994، اعترف الأردن بحدود إسرائيل الآمنة على حدود الانتداب.
حتى احتلالها عام 1967، كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية، كما لم يعدل الأردن دستور عام 1952، كي يقر فصل الضفة الغربية عن الأردن بعد احتلالها، كذلك لم يرد في متن اتفاقية وادي عربة سوى كلمات قليلة عامة تشير إلى "دون المساس بوضع" تلك الأراضي، التي تعتبرها إسرائيل "مناطق متنازع عليها" وتقوم بضمها فعلياً عبر الاستيطان وتطبيق القانون المدني الإسرائيلي على المستوطنات اليهودية.
ما زال موقف الأردن الرسمي يكرّر التزامه بالشرعية الدولية فيما يخص الحقوق الفلسطينية، ويتمسك بالولاية الهاشمية على المقدسات في القدس، دون ممارستها فعلياً، إذ لم يذكرها الأردن أو يصر على احترامها في الاتفاقية، ولم يثبت مطالبه بحقوق المواطنين الأردنيين المادية والمعنوية في فلسطين، حين سنحت له الفرصة في المفاوضات الثنائية مع إسرائيل.
اتفاقية وادي عربة لا تتضمن أي تسوية بخصوص مسائل اللاجئين والنازحين، رغم اقتراح عدة وسائل فضفاضة من أجل نقاشها. معظم هؤلاء اللاجئين أو النازحين هم مواطنون أردنيون يقيمون في الأردن منذ النكبة أو النكسة، مع ذلك؛ لم يتمسك الأردن في نص الاتفاقية بحقوق مواطنيه في العودة والتعويض، حتى بما يخص حقوقهم التي تحفظها وتثبتها القرارات الدولية والقانون الدولي.
تخالف اتفاقيات التطبيع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، فهي تعترف بالاحتلال ولا تقاومه كما هو مطلوب من كل الدول الأعضاء
لا تقل الاتفاقية المصرية - الإسرائيلية خطورة في هذا الشأن؛ إذ رسمت الحدود بين الدولتين على أساس حدود فلسطين الانتدابية، تعتبر نصوص الاتفاقية الخاصة بترسيم الحدود اعترافاً باحتلال إسرائيل غزة. أضف إلى ذلك تجاهلها تسوية حقوق اللاجئين الفلسطينيين داخل الأراضي المصرية، كما حفظتها لهم القرارات الدولية. كذلك تذهب الاتفاقية إلى مخالفة المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنع عقد اتفاقيات دولية تخالف الميثاق.
من كل ذلك يمكن اعتبار اتفاقيات التطبيع غير قانونية وفق القانون المحلي والدولي، كونها:
أولاً: لا يحق لأي حكومة التنازل عن جزء من أراضي الدولة أو حقوق مواطني تلك الدولة؛ كما في الحالتين الأردنية والمصرية. كما تخالف اتفاقيات التطبيع دساتير وقوانين الدول الموقعة عليها، عبر تنازلها عن أراضٍ وحقوق مواطني تلك الدول المادية والمعنوية دون مقابل. رغم استعادة سيناء، لم تمارس مصر سيادتها عليها، بسبب القيود التي فرضتها عليها الاتفاقية، التي تلزم مصر بالحصول على إذن إسرائيلي من أجل ممارسة سلطاتها المدنية في سيناء.
ثانياً: تخالف اتفاقيات التطبيع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، فهي تعترف بالاحتلال ولا تقاومه كما هو مطلوب من كل الدول الأعضاء. لم تمنع اتفاقيات التطبيع إسرائيل من الاستمرار في ممارساتها العدوانية داخل الأراضي المحتلة عام 1967.
هذا يدعم الرأي القائل إن الاتفاقيات تشجع الاحتلال وتدعمه على حساب الحقوق الفلسطينية، في مخالفة صريحة لقرار الأمم المتحدة 3236، في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1974، الذي يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل، وفق مقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، ويناشد "جميع الدول والمنظمات الدولية أن تدعم الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه وفقاً للميثاق.
ثالثاً: تخالف الاتفاقيات قرارات لجنة الحقوق الفلسطينية، التابعة للأمم المتحدة، التي تؤكد سنوياً؛ منذ القرار 1514 لعام 1960 والقرار 3236 لعام 1974، على الحقوق الفلسطينية غير قابلة للتصرف، وأهمها حق تقرير المصير وفق ميثاق الأمم المتحدة.
أكدت الأمم المتحدة هذا المبدأ مراراً، حتى أصبح من المبادئ الثابتة وعرفاً ملزماً في القانون الدولي. بالتالي لا يجوز لأي اتفاق ثنائي الانتقاص أو التنازل أو التناقض مع حقوق الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، أو يغير من واجبات إسرائيل "القوة القائمة المحتلة" تجاه الشعب الفلسطيني.
يجب ذكر اتفاقية أوسلو هنا؛ وما تلاها، الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل منذ عام 1993، إذ تندرج ضمن اتفاقيات تطبيع، ولا تقل خطورة عن اتفاقيات التطبيع الموقعة بين الدول العربية وإسرائيل. لا يتسع المجال الآن من أجل التطرق لهذه الاتفاقية بالتفصيل، لكن لا بد من ذكر بعض المسائل في غاية الأهمية:
أولاً: لم يحصل الفلسطينيون على أي حقوق في الأراضي المحتلة عام 1967 مقابل الاعتراف بدولة إسرائيل.
ثانياً: اتفاقية المبادئ عام 1993 تسجل على أنها اتفاقية "للحكم الذاتي"، ذلك يفتح المجال لتفسيرها بأنها تحبط مطالب الشعب الفلسطيني الشرعية، حق تقرير المصير المثبتة والمدعمة بقرارات الأمم المتحدة المذكورة.
ثالثاً: استمرت الاتفاقية حتى اليوم رغم كونها مؤقته لمدة 5 سنوات، هذا يضر فعلياً بالقضية الفلسطينية عامةً ويقلل فرص حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة.
في جانب آخر، تفرض اتفاقيات التطبيع على الطرفين عدم السماح أو المشاركة في نشاطات ضد ايهما وتلزمهما بعدم السماح ببث الدعاية المعادية لأحدهما، واتخاذ جميع الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات، وذلك من قِبل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما، (المادة 11، معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية). منع أي أنشطة إرهابية أو عدائية ضد بعضهم بعضاً، (المادة الرابعة من الاتفاقية الإماراتية - الإسرائيلية).
هذا تحريض صريح من الدول الموقعة من أجل ملاحقة ومعاقبة الفلسطينيين أفراداً وجماعات، كذلك مناصري القضية الفلسطينية، ومنتقدي إسرائيل في العالم. تترجم هذه الالتزامات في ممارسات متزايدة تُقيد الحريات، وتقمع الاحتجاجات ضد اتفاقيات التطبيع، في الدول المطبعة مع إسرائيل وفي الأراضي المحتلة.
هناك ممارسات مماثلة بين إسرائيل وبعض الدول الأوروبية أيضاً، تجرم وتمنع نشاطات المنظمات الأهلية المناهضة للاحتلال، مثل حركة المقاطعة (BDS)، وجمعيات مناهضة التطبيع في الدول العربية والغربية، ما يمثل خطراً على حرية التعبير والنشر والتجمع وحرية النشاط السياسي في تلك الدول.
يتضح مما سبق أن اتفاقيات التطبيع لم تعمل على كبح الاجراءات التعسفية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ولا تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، كما تزعم الأنظمة التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، بل شرعت الاتفاقيات واعترفت بالاحتلال ونتائجه على الأراضي الفلسطينية.
الأدهى من ذلك تصاعد ممارسات إسرائيل العدوانية مع كل توسع في دائرة التطبيع العربي، إذ منذ اتفاقيات التطبيع، ازدادت الاقتحامات العسكرية داخل المدن الفلسطينية، وتصاعدت وتيرة الاعتداءات على الفلسطينيين، لا سيما في القدس وأحيائها ومقدساتها، التي تتعرض لأوسع عملية تهويد منذ عقود.
كذلك ازدادت مشاريع الاستيطان وتغول المستوطنين على الفلسطينيين وأراضيهم وممتلكاتهم، فضلاً عن الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة على قطاع غزة، من دون أن يقابل ذلك بأي احتجاج، ولو لفظياً أو شكلياً، من قبل الدول المطبعة! إذاً اتفاقيات التطبيع ليست انتصاراً للحق الفلسطيني؛ كما تزعم دول التطبيع، وليست انتصاراً للعدالة الدولية، التي نصت عليها النصوص والمواثيق الدولية، إنما مكافأة لإسرائيل، وتثبت لكيانها وشرعية وجودها.