يطرح تراجع النظام المصري عن تطبيق تعديلات قانون الشهر العقاري الجديدة التي صدرت في سبتمبر/ أيلول الماضي، أسئلة عدة عن مدى اهتمام السلطة الحاكمة وأجهزتها بالرضا الشعبي والقبول المجتمعي، بعد نحو سبع سنوات من عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ربما يستمر إلى ما بعد 2030. كما تطرح أسئلة بالتوازي حول مدى تراجع شعبيته في الشارع المصري، إلى الحدّ الذي يكلّفه للمرة الأولى تقديم تنازلات في صورة تشريعية، تصل إلى مستوى تأجيل تطبيق قانون أصدره هو قبل أقل من ستة أشهر، في ظلّ تحكم كامل في وسائل الإعلام، وانعدام في حركة القوى السياسية، وإحكام للقبضة الأمنية على المجال العام.
وقالت مصادر حكومية، لـ"العربي الجديد"، إن تدخل السيسي، مساء الاثنين الماضي، بإعلان توجيهه بإرجاء تطبيق تعديلات قانون الشهر العقاري الجديد، لعامين على الأقل، بعدما كانت الحكومة قد قدمت مقترحاً بإرجائه حتى نهاية العام، "كان مشهداً متوقعاً، بناء على توصية دائرة السيسي ورغبته هو نفسه في رفع شعبيته، كما فعل من قبل مرات عدة، خصوصاً في مجال التعليم في فترة كورونا".
وجّه السيسي بإرجاء تطبيق تعديلات قانون الشهر العقاري الجديد، لعامين على الأقل
وخلال 48 ساعة فقط، قدّم حزب الأغلبية البرلمانية، "مستقبل وطن"، التابع للنظام، مقترحات تشريعية عدة، وافقت عليها اللجنة التشريعية في مجلس النواب، وسط دعاية إعلامية تزعم استجابة السيسي والحزب لنبض الجماهير. وكان آخر مظاهر التراجع الاتفاق، أول من أمس الثلاثاء، على تأجيل تطبيق القانون حتى نهاية يونيو/ حزيران 2023، وإلغاء النص الذي كان يحظر على الشهر العقاري وشركات الكهرباء والمياه ووحدات الإدارة المحلية وغيرها من الجهات شهر العقار أو تقديم الخدمة إلى العقار محل التصرف، ما لم يقدم صاحب الشأن ما يفيد بسداد ضريبة التصرفات العقارية على هذا العقار. وتضمنت توجيهات السيسي لوزارة المالية إلغاء ضريبة التصرفات العقارية تماماً خلال عامين، وفرض رسم مقطوع وثابت يتغير نسبياً بحسب العقار ذاته، بدلاً من فرض نسبة 2.5 في المائة من ثمن عقد البيع.
والواقع أن هذا التراجع بشكل عام، هو الثاني الذي يُقدم عليه السيسي في أقل من عام. لكن التراجع الأول لم يكن في صورة تعديل أو تعطيل تشريعي، وحدث في سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي توحيد سعر التصالح في مخالفات البناء للمتر في المناطق الريفية بالحدّ الأدنى المقرر في القانون، وهو 50 جنيهاً (3 دولارات) للمتر الواحد، واقتطاع 25 في المائة من قيمة التصالح إذا طلب المواطن إتمامه دون تقسيط. ثم منحت الحكومة المحافظين سلطة التخفيض، ومدّ فترة التحصيل، في محاولة لتقليل حدة الاضطراب الجماهيري والغضب الشعبي بين المصريين، خصوصاً في الأقاليم والمناطق الريفية والفقيرة بسبب إصرار النظام على تحصيل أكبر قدر ممكن من المبالغ المالية من طلبات التصالح في المخالفات.
وعلى الرغم من التراجع الحكومي في ذلك الوقت، فإن تظاهرات القرى والنجوع (القرى الريفية الصغيرة) في الجيزة والصعيد، في الـ20 من سبتمبر الماضي، وفي خلفيتها ملف التصالح وهدم المباني المخالفة، إلى جانب قرار السيسي بوقف البناء معظم فترات العام الماضي، برهنت على تراجع شعبية السيسي واندلاع الخطورة من مناطق تستبعد التقارير الأمنية والاستخبارية أن تشهد أي توتر شعبي. وجاء ذلك قياساً بأي حراك كان يحدث حتى العام 2019، عندما كانت تتركز التظاهرات في المناطق الحضرية، وخصوصاً في وسط العاصمة القاهرة، والإسكندرية والسويس والمحلة ودمياط ومدن الصعيد الكبرى. وهذه المناطق كانت الأجهزة قد اعتادت خروج المواطنين بها في أي حراك شعبي، ولذلك يبقى التركيز الاستباقي للأجهزة الأمنية منصباً على تقييد حركة المواطنين وتخويفهم فيها، متعمدة بثّ رسائل الإرهاب المعتادة. وتقوم هذه الرسائل على حملات التفتيش واستيقاف الشباب العشريني والثلاثيني في محطات القطارات ومترو الأنفاق ومداخل ومخارج المدن في المواصلات العامة، وتفتيش المارة في الميادين الكبرى، بالإضافة إلى ممارسة تدابير تضع المواطنين تحت قهر نفسي، كتصوير البطاقات الشخصية وفحص الهويات وتفتيش أجهزة المحمول والحواسيب.
هذا على الصعيد الحركي المرتبط بالتظاهرات. لكن قياس شعبية النظام يخضع حالياً لاعتبارات وأدوات أخرى، على رأسها مراقبة مواقع ووسائل التواصل الاجتماعي. ولذلك كان التأثر ضخماً هذه المرة داخل أجهزة النظام، وتحديداً الأمن الوطني والشهر العقاري، من هول الغضب الشعبي وتصاعد الاتهامات الجماهيرية للنظام بالجباية وإخفاء الحقائق وعدم الشفافية، وانقلاب حملة التحفيز الحكومية لتسجيل العقارات بصورة كارثية إلى حملة تخويف واجهت تحدياً كبيراً من الرأي العام. وجاء ذلك تزامناً مع استغلال دوائر عدة من داخل النظام هذا الأمر لمصالحها الخاصة ومصالح امتدادات لها في مجتمع الأعمال.
ففرض التسجيل العقاري من خلال الأحكام القضائية، واستمرار العمل بضريبة التصرفات العقارية المقدرة بنسبة 2.5 في المائة من قيمة البيع، كان من شأنهما التأثير بشكل سلبي مباشر على السوق العقارية والإقبال على الوحدات السكنية، لصالح إنعاش سوق العقارات التابع للدولة وأجهزتها التابعة لوزارتي الإسكان والسياحة والمدن الجديدة، وكذلك السوق العقارية الخاصة بالمستثمرين الكبار المشاركين للدولة في مشاريع العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها.
مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، أظهرت هول الغضب الشعبي وتصاعد الاتهامات للنظام بالجباية وإخفاء الحقائق
كما أن التعديلات الجديدة، وإن كانت تضرّ بصورة أكبر بمُلّاك العقارات والمقاولين من الفئات المتوسطة الذين لا يملكون رخصاً للاستثمار العقاري والتجاري، ومن ثم يكونون خاضعين لسداد ضريبة التصرفات العقارية، فهي أيضاً تضّر بمن يسددون ضريبة الأرباح الصناعية والتجارية. وهذه الضريبة تطبق على المقاولين الكبار من أصحاب المشروعات السكنية الضخمة، لأن مصاريف التسجيل ستكون كبيرة ومنفرة للمواطنين المقبلين على الشراء.
وعلى الرغم من أن السيسي ووزيري العدل والمالية، عمر مروان ومحمد معيط، كانوا خلف صدور التعديلات في الصيف الماضي بهدف السيطرة على السوق العقارية بإخضاع جميع فئات البائعين للضريبة من جهة والتحكم في حركة البيع ومراقبتها بشكل كامل من جهة أخرى، فإن الرفض الشعبي للتعديلات طرح العديد من احتمالات التلاعب التي قد تحرم الدولة من الفوائد المرجوة. ومن ضمن هذه الاحتمالات، اصطناع المنازعات القضائية وإرهاق المحاكم بإجراءات غير اعتيادية في ملايين الدعاوى بهدف التسجيل، وتقديم عقود غير حقيقية لدفع ضرائب ورسوم أقل. ومن شأن ذلك أن يضرب مساعي السيسي لتطبيق الشمول المالي في مقتل، ويكرس واقع الاقتصاد الموازي غير المدار، كما أنه سيعيد المواطنين إلى التعامل المدني دون اللجوء للمصارف والشهر العقاري والضرائب وغيرها من الجهات الرسمية.
وفوق هذه الاعتبارات، فإن خشية الأجهزة الأمنية من انهيار ما تبقى من شعبية النظام، جعلها تصّر على إدخال تعديلات تسهيلية على النظام الجديد للتسجيل، سواء بإرجائه أو بإلغاء الربط بينه وبين مدّ المرافق والتعامل على العقار.