التحقيق في تمويل الحملات الانتخابية التونسية: انتقام بسيف القضاء؟

29 يوليو 2021
شارع الحبيب بورقيبة مقفلاً بالعوائق أمس الأول (Getty)
+ الخط -

أثار فتح تحقيقات في ملفات قضائية تتعلق بشبهات فساد، مالية وانتخابية، في تونس، أمس الأربعاء، أسئلة كثيرة حول خلفياتها وأهدافها وتوقيتها، ومخاوف جدية من أن يكون هذا الأمر مقدمة لحملة انتقام سياسي عبر القضاء، قد تُدخل البلاد في مرحلة جديدة لا أحد يعرف تداعياتها، خصوصاً أن هذا الأمر قد يؤدي إلى إلغاء كامل نتائج انتخابات عام 2019، وبالتالي الإطاحة بالبرلمان، فيما حذرت حركة "النهضة" من أنه سيكون لها رد إذا كان فتح الملفات القضائية في إطار انتقامي.
في هذه الأثناء، عقد الرئيس التونسي قيس سعيّد، أمس الأربعاء، اجتماعاً لأعضاء المجلس الأعلى للجيوش وقيادات أمنية عليا، وذلك بعد ساعات من قرار الرئاسة إنهاء مهمات عدد من المسؤولين في ديوان رئيس الحكومة هشام المشيشي. وكان سعيد أعلن، الأحد الماضي، أنّه سيتولى صلاحيات قضائية، بهدف ضمان عدم اختفاء ما وصفه بأدلة متراكمة على "جرائم ضد تونس". وأدى هذا الأمر إلى إعراب "منظمة البوصلة" التونسية عن تخوفها من تركيز السلطات بيد رئيس الجمهورية وخاصة رئاسة النيابة العمومية، فيما شددت "جمعية القضاة التونسيين" (المستقلة)، قبل ساعات من فتح التحقيقات في الفساد، على "ضرورة استقلال النيابة العمومية والنأي بها وبالقضاء عموماً عن كل توظيف سياسي". وطالبت، في بيان، "سعيد بضرورة التسريع في إنهاء العمل بالتدابير الاستثنائية، والإفصاح عن آليات استئناف المسار الديمقراطي الحامي للحقوق والحريات وللسير العادي لمؤسسات الدولة".

قد تدوم التحقيقات أشهرا ما يمنع مبدئياً الآن حل البرلمان
 

وقال المتحدث باسم القطب القضائي المالي (هيئة قضائية مختصة)، محسن الدالي، إن "القطب القضائي تعهّد بملف التمويلات الأجنبية للأحزاب وشخصيات سياسية، في ما يتعلق بالحصول على أموال أثناء الحملة الانتخابية التشريعية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2019". وأكد الدالي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن التعهد بالملف تم "استناداً لتقرير دائرة المحاسبات وقضية عدلية تقدم بها حزب التيار الديمقراطي، وتشمل اعتماد أحزاب على لوبيات ضغط من أجل المساعدة على الفوز في الانتخابات، وهي أساساً قلب تونس وحركة النهضة وجمعية عيش تونسي"، مشيراً إلى أن مجموعات الضغط تعمل في أميركا. وأوضح أن "القطب القضائي المالي سيصدر استنابات عدلية لمراسلة الدول الأجنبية التي تم منها صرف الأموال لفائدة الأشخاص، أو الكيانات السياسية، من أجل اعتمادها في قضايا الملفات المطروحة". وحول الشخصيات السياسية المشمولة بالقرار، أعلن الدالي أنه "لا يمكن الكشف عنها في الوقت الحالي، غير أن البحث متواصل على مصادر التمويل الخارجي وطرق تحويلها إلى تونس".
وكان الدالي أكد، في تصريح لإذاعة "موزاييك"، أنّ المحقق الأولي أنهى الأبحاث في ملف ''محركات الخطوط التونسية، وأحاله أخيراً على النيابة العمومية بالقطب القضائي". وأشار كذلك إلى فتح تحقيق في شبهات فساد داخل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، موضحاً أنّ "قرار فتح البحث التحقيقي في هذه القضية تمّ بين يومي 10 و12 يوليو/تموز الحالي. وتتعلّق الشبهات بتجاوزات في الانتدابات والتصرف في موارد الهيئة". وأعلن أنّ "القطب القضائي الاقتصادي والمالي فتح بحثاً تحقيقياً في ملف هيئة الحقيقة والكرامة والبنك الفرنسي التونسي". وشدد، في كل تصريحاته الصحافية، على أن هذه التحقيقات انطلقت منذ فترة، وسبقت يوم 25 يوليو الحالي.

وكانت محكمة المحاسبات أكدت، في تقريرها في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وجود خروقات متعددة في تمويل الأحزاب خلال الحملات الانتخابية، ووجهت اتهامات لأحزاب وشخصيات مرشحة كثيرة. ويطرح موضوع فتح التحقيقات المتعلق بالانتخابات أسئلة كثيرة، خصوصاً وأنه يتوجه إلى نواب وأحزاب أصبحوا جزءا فعلياً من البرلمان.
وأكد أستاذ القانون الدستوري رابح الخرايفي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "يترتب على التعهد الرسمي من قبل القضاء بملف التمويل الأجنبي لأحزاب النهضة وقلب تونس وعيش تونسي وغيرهم، ممن تثبت عليهم جريمة التمويل الخارجي حسب الفصل 163 من القانون الانتخابي، إسقاط عضوية النواب، وبالتالي إلغاء كامل نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2019. وبإبطال كامل النتائج، يصبح المجلس التشريعي في حكم المعدوم، مع اعتماد الأعمال التي أنجزها خلال الفترة الماضية، باعتبارها أعمالا قانونية". وأضاف أنه "يتم آلياً، بثبوت الجرائم، إحالة ملفات الأحزاب المدانة قضائياً على القاضي العدلي طبقاً لمرسوم الأحزاب لحلها تماماً".
وينص الفصل 80 من القانون الانتخابي على منع تمويل الحملة بمصادر أجنبية، بما فيها الحكومات والأفراد والذوات المعنوية. وإذا ثبت لدى محكمة المحاسبات حصول جريمة التمويل الأجنبي للحملة الانتخابية فإنها تحكم، حسب ما ينص عليه الفصل 163، على المترشح أو القائمة بإلزامها بدفع غرامة مالية تتراوح بين عشرة أضعاف وخمسين ضعفاً لمقدار قيمة التمويل الأجنبي. ويفقد أعضاء القائمة المتمتّعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم في مجلس نواب الشعب، ويعاقب المترشح لرئاسة الجمهورية، المتمتّع بالتمويل الأجنبي، بالسجن لمدة خمس سنوات. ويترتب على فقدان العضوية بموجب حكم قضائي باتّ شغور في مقعد أو أكثر، بإسقاط عضوية القائمة أو النواب الذين ثبت عليهم ذلك، وإجراء انتخابات جزئية ومبكرة. ولكن هذه التحقيقات قد تدوم فترة قد تصل إلى أشهر، بما يمنع مبدئياً الآن حل البرلمان وإلغاء نتائج الانتخابات قضائياً. وتفيد تقارير محكمة المحاسبات أن هناك أحزاباً وشخصيات أخرى، غير "النهضة" و"قلب تونس"، تحوم حولها شبهات التمويل الخارجي للانتخابات، بما أفصح عنه التقرير ذاته.

"النهضة": هناك أحزاب لديها تمويلات من مصادر مجهولة
 

وقالت القيادية في حركة "النهضة" سناء المرسني إنه "بالنسبة لخبر فتح بحث تحقيقي من طرف القطب القضائي المالي حول تمويل الحملة الانتخابية لسنة 2019 ضد حركة النهضة وقلب تونس وعيش تونسي في ما يسمى عقود لوبيات الضغط، فإنه وجب توضيح أن الشكاية التي على أساسها تم فتح بحث تعود إلى 14 يوليو، وتقدم بها حزب التيار الديمقراطي، ولا توجد أي علاقة مع قرارات رئيس الجمهورية". وأضافت المرسني، على حسابها في "فيسبوك"، أن هذا "التحقيق في هذا الملف يعد أفضل شيء حدث حتى يتم غلقه تماماً، ويتوقف من يستعملون ويستغلون ملف التمويل"، مؤكدة أنها "على ثقة في القضاء ونزاهته، ومن المستحيل أن يخضع للضغط والتعليمات". وبينت المرسني أنه في غمرة الحديث عن تقرير دائرة المحاسبات "فقد قدم ملاحظات في مسألة التمويل الأجنبي للمرشحين للانتخابات الرئاسية، وبيّن أن ثمة مرشحين لديهم عدد كبير من الصفحات التي يتم إدارتها من خارج تونس، وغير معروف مصدر تمويلها، وعلى رأس القائمة الرئيس (سعيد) بـ30 صفحة تدار من عدة أماكن في العالم. وطبعاً بالرجوع للفصل 80 من قانون الانتخابات والاستفتاء يعتبر تمويلاً أجنبياً يأخذ شكل الدعاية في الصفحات الإلكترونية، والعقوبات حددها الفصل 163 من القانون. وبالتالي، فإنه من المهم التدقيق في كل الملاحظات التي تضمنها التقرير، لأن لا أحد على رأسه ريشة".
وشددت المرسني على أن "حركة النهضة كانت الحزب الوحيد الذي قدم تقاريره المالية في علاقة بالانتخابات في آجالها القانونية، عكس بقية الأحزاب والائتلافات الانتخابية، والحركة مستعدة لتقديم كل الوثائق الضرورية للقضاء". ولفتت إلى أن "هناك أحزاباً لديها تمويلات لبعض قوائمها من مصادر مجهولة، منها حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس وغيرها. نرغب في أن يتم تدقيق شفاف فيها باعتبارها جرائم انتخابية". وبعد أن اعتبرت أن سعيد "قدم خطاباً مطمئناً ونحن نقدّر ذلك ونعتبره رسالة إيجابية"، فإنها دعت في المقابل إلى "التهدئة وتحييد المؤسسات الأمنية".
من جهته، أكد المستشار الخاص لرئيس حركة "النهضة"، سامي الطريقي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الإجراء الذي اتخذته النيابة العمومية، والذي ينص على فتح ملفات تمويل بعض الأحزاب مفتوح منذ فترة، ولكن يؤمل ألا تكون إعادة إثارته في إطار تصفية حسابات"، معتبراً أن الاتجاه نحو القضاء هو الأسلم، والحركة ستكون سعيدة بذلك حتى يأخذ القضاء مجراه. وأضاف "لكن لو كانت هذه الخطوة في إطار إجراءات انتقامية، وبغاية امتصاص الغضب الشعبي، خاصة وأن البعض يسعى لفبركة الشائعات واستغلال الوضع والجائحة الصحية لاتهام النهضة، فسيكون للنهضة رد على الأحداث".
وبين أن "هذا الإجراء هو في إطار النظر العادي للملفات، ولكن ربما التوقيت يدفع إلى الظن أنه في إطار تصفية حسابات، ولكن هناك قانون في تونس وهو الفيصل". واعتبر أن "هناك من يحاول خلق رأي عام على أساس أن النهضة طبقة تنهب وهناك فساد، وذلك للانتقام من المنظومة السابقة". وكان أعلن، في تصريح للتلفزيون "العربي"، أن "هناك محاولة لاستغلال الأزمة السياسية في تونس لإقصاء حركة النهضة". وأعلن "استعدادهم للحوار مع الرئيس في كل ما يطرحه من مبادرات، وبقية الأطراف، لإيجاد حلول للأزمة من داخل المنظومة الديمقراطية، بشرط تراجع الرئيس عن قرار تجميد البرلمان".