شكّل يوم 25 يوليو/ تموز الماضي في حياة التونسيين يوماً حاسماً، ومنعرجاً تاريخياً سيحدد مستقبل البلاد، وخصوصاً تجربتها الديمقراطية. ومع مرور 12 يوماً على القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، لم يعد التونسيون يختلفون كثيراً حول تصنيفها الدستوري والقانوني، فالغالبية العظمى من المتخصصين في القانون الدستوري والأحزاب أجمعت على اعتبار هذه الإجراءات انقلاباً دستورياً. وحتى أن البعض من مناصري سعيّد لم يعودوا يعترضون على التوصيف، ويقول بعضهم في النقاش على شبكات التواصل، إنه انقلاب كان منتظراً من قِبلهم ليغيّر الأوضاع التي لم يكن الدستور بشكله الحالي ليغيرها.
ويمر الوضع في تونس بحالة من الغموض الشديد. ودعا الاتحاد العام التونسي للشغل، على لسان أمينه العام نور الدين الطبوبي، سعيّد إلى توضيح الرؤية، متسائلاً "إلى أين نسير؟"، قائلاً إن توضيح الرؤية المستقبلية لتونس سيساعد الاتحاد على تحديد موقفه. وطالبت الهيئة الإدارية للاتحاد بضرورة عدم إطالة الفترة الانتقالية، وتشكيل حكومة مصغرة، بقيادة شخصية اقتصادية.
قاسم الغربي: لا المزاج الشعبي ولا الدولي والإقليمي يدفع لإجهاض التجربة الديمقراطية التونسية
وبخصوص المشهد العام، والمستقبل المفتوح على العديد من الاحتمالات، بدت بعض مواقف داعمي التجربة الديمقراطية التونسية، في الداخل والخارج، أنها تتعامل مع المشهد التونسي بكثير من السلبية، بخصوص إمكانيات صمود الديمقراطية الوليدة، على اعتبار أنها الشمعة المضيئة في المنطقة، بسبب تحالف أعدائها عليها، وبسبب فشل المنجز الاجتماعي الذي يمكن أن يدافع عنها. وذهبت قراءات متعددة إلى التعبير عن مخاوف من السقوط في الدكتاتورية.
ولكن هذه القراءات، التي تعكس آمالاً عربية وغير عربية في الديمقراطية التونسية، تُسقط من حساباتها معطيات تونسية واقعية كثيرة، وتقلل من وعي النخب التونسية، أحزاباً ومنظمات وشخصيات عبّرت عن دفاعها عن الحرية بوضوح. كما تُقلل هذه القراءات أيضاً من تحوّلات كبيرة طرأت على المجتمع التونسي نفسه، وخصوصاً أجياله الشابة، التي عاشت في أجواء الحرية عقداً كاملاً من الزمن، ولا يمكنها أن تقبل بانتزاعها، على الرغم من مناصرة جزء كبير منها لما أقدم عليه الرئيس التونسي، الذي يردد بدوره يومياً، منذ 25 يوليو، أنه لن يمس الحقوق والحريات، ولن يكون دكتاتوراً بعد هذه السن.
وتدعو أغلب الأحزاب والمنظمات التونسية إلى إنهاء المرحلة الاستثنائية وعودة عمل المؤسسات، ولا تخفي مخاوفها من انتكاس الحريات والحقوق، حتى تلك المختلفة جداً مع حركة "النهضة" والإسلاميين عموماً، وهناك مواقف رافضة لسعيّد تعلن عن نفسها بوضوح كما المواقف المؤيدة تماماً، ما يعني أن الحالة الديمقراطية لا تزال صامدة، وإن كانت تتميز برغبة كثيرين في تصفية حسابات مع "النهضة"، ولا تخفي رغبتها في تقليم أظافرها وإضعافها واستبعادها من المشهد.
ويرى المحلل السياسي قاسم الغربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "لا سبيل لهدم التجربة التونسية، فلا المزاج الشعبي ولا الدولي والإقليمي يدفع لإجهاض التجربة الديمقراطية التونسية". ويضيف: "لا مخاوف على الديمقراطية التونسية، التي تعرف تعثرات أو انتكاسات وربما تشهد ارتدادات، ولكنها لن تقود إلى ضربها وسقوطها. وأعتقد أن هذا الحديث مبالغ فيه، وربما تعود قوة الدولة وتسترجع نفوذها، أما ضرب الديمقراطية فلا أعتقد أنه ممكن". ويعتبر الغربي أن "الأحزاب والمنظمات التونسية محصنة ضد الدكتاتورية، على الرغم من الخلافات الكبيرة بينها. فمثلاً الخلاف العميق بين التيار الديمقراطي وحركة النهضة لم يمنع التيار من اتخاذ مسافة من إجراءات سعيّد"، مشيراً إلى أن "هناك جانباً آخر يتعلق بالتونسيين أنفسهم، فالمواطنون لا يعنيهم كثيراً المنجز السياسي بقدر المنجز الاجتماعي، ويرون في الخطاب الذي يقدمه سعيّد خطاباً ملتصقاً بهمومهم". لكنه يستدرك بأن "المتمسكين بالمنجز الاجتماعي والاقتصادي كأولوية مستفيدون أيضاً من الديمقراطية، وسيدافعون عنها، لأنه من دونها لن يستطيعوا المطالبة بالإصلاحات". وفي ما يتعلق بمستقبل المشهد في تونس، يرى الغربي أن "ما حدث يوم 25 يوليو، وما تلاه من أحداث، هدفه إعادة تشكيل المشهد السياسي في تونس عن طريق تقليص دور الإسلاميين في المشهد، وليس استئصالهم كما حدث في سنوات التسعينيات على يد نظام زين العابدين بن علي، وإبعادهم عن التأثير على الحكم".
خالد شوكات: لا يمكن الحديث عن إعادة ترتيب البيت في سياق ديمقراطي مع تبني نزعة إقصائية
من جهته، يحذر الوزير الأسبق خالد شوكات من سيناريو إقصاء الإسلاميين، معتبراً، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الديمقراطية لا تقوم على الإقصاء، وأي ديمقراطية تتبنى نزعة إقصائية فهي خارج سياق الديمقراطية". ويضيف أن "الفضاء الديمقراطي يستوعب الجميع، الذين يؤمنون بالعمل السلمي المدني، وحتى أولئك الذين يعارضون الديمقراطية، ولكنهم يتشبثون بأدوات سلمية في التعبير عن أفكارهم، فالديمقراطية تستوعبهم، وهذه ميزتها". ويعتبر أنه "لا يمكن الحديث عن إعادة ترتيب البيت في سياق ديمقراطي مع تبني نزعة إقصائية"، مضيفاً أن "الإرادة الشعبية يعبّر عنها أساساً بطريقة موضوعية، أي عن طريق الصناديق، لأن الفكر الإنساني لم يخترع بعد وسيلة أخرى غير صندوق الاقتراع للتعبير عن هذه الإرادة، وهو الذي يعطي للتيارات والأحزاب أحجامهما، وهو الذي يوليهم الحكم وينزع عنهم الحكم أيضاً".
وحول ما تعبّر عنه قيادات في "النهضة" من استعدادها للانسحاب من الحكومة المنتظرة، يقول شوكات إن "النهضة إذا تنازلت عن حق لها في إطار اتفاق سياسي أو حتى مغالبة سياسية فهذا شأنها، لأن المفاهيم والمبادئ التي عرفتها الأنظمة الديمقراطية شيء والاتفاقات السياسية شيء آخر، وهناك أحزاب تربح الانتخابات، وتأتي في المرتبة الأولى، ولكنها لا تتمكن من تشكيل حكومة فتجد نفسها في المعارضة، وكل هذا مقبول سياسياً، أما الإقصاء بالمغالبة فمرفوض ولا علاقة له بالفكرة الديمقراطية".
وتؤكد مواقف قيادات في "النهضة" أنها عادت تقريباً إلى مربع 2013، عندما قبلت الانسحاب من الحكم بعد اغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهي تدعو اليوم بوضوح إلى تشكيل حكومة لا تكون طرفاً فيها وفي مشاوراتها، ولكنها تتشبث بحد أدنى من الاستقرار البرلماني الذي لا يخرجها نهائياً من المشهد، وتوجّه بذلك رسائل واضحة إلى الداخل والخارج. ولكن المراهنين على سقوط التجربة نهائياً يخطئون في حسابات كثيرة، من بينها توازنات المشهد التونسي، وانعكاساته على المشهد الإقليمي المتوتر أصلاً، فدول إقليمية لن تسمح بمزيد من التوترات التي ستقود إلى هز المنطقة بأكملها، بعدما بدأت الأوضاع تستقر نسبياً في الجزائر ثم في ليبيا.