التاريخ الشفوي والنّكبة الفلسطينيّة 75عاماً في مواجهة الزيف الصهيونيّ

28 مايو 2023
معرض "الرحلة الطويلة" في القدس (أحمد غرابلي/Getty)
+ الخط -

عام جديد من أعوام النّكبة الفلسطينيّة المستمرّة منذ خمسة وسبعين عاماً، قصر الجانب الفلسطينيّ لسنواتٍ طويلةٍ في التصدي للرواية الإسرائيليّة حول النّكبة، التي حلت بشعبنا ولم يقدم روايةّ واضحةّ وحقيقيةّ ومكتملةّ نظراً لانشغال الفلسطينيّين بالمقاومة والنضالات متعددة الجوانب، دون الاهتمام بمدى أهمية العمل على تفنيد الرواية المروجة والعمل على كشف زيفها، في حين عملت دولة الاحتلال جاهدةً على تدمير الأرشيف الفلسطينيّ والمكتبات، واستولت على الوثائق قبل النّكبة، وأخفت الأرشيف الخاص بهم من عام 1948 والسنوات اللاحقة.

حظي التّاريخ الشّفوي؛ النابع من الثقافة العربيّة والفلسطينيّة كتقليد شفهي كما الحكواتي، بمكانة في نفوس العامة، لتعزيز الدفاع ضد محو الثقافة والذاكرة الفلسطينيّة، وكان تناقل الرواية الفلسطينيّة عن المدن والقرى، وما حدث في سنوات التهجير القسريّ، والمذابح والحرب، بمثابة سردٍ مضادٍ للرواية الصهيونيّة الاستعماريّة والاستيطانيّة، وكنوع من المقاومة الشعبيّة والتصدي والصمود والتعبئة للأجيال اللاحقة. لكنه لم يحظ بأولويّة لدى المؤرخيّن الكلاسيكيّين ولا من القيادات الفلسطينيّة الرسميّة لعقودٍ طويلةٍ.

في السنوات الأخيرة، زاد اهتمام المؤرخين الفلسطينيّين والعالميّين بالتاريخ الشفوي وجمع الروايات الفلسطينيّة والشهادات من جيل النّكبة قبل وفاته، وأهتموا بتوسيع سجل ما بعد النّكبة التاريخي وتحليله، وعالجوا الكثير من القضايا الشائكة التي طالما سُكِتَ عنها من قبل المؤرخين التقليديّين، كمصطلح النّكبة نفسه وما رافقها من جرائم. خاصةً، بعدما أماط المؤرخون الجدد في إسرائيل اللثام عن الأرشيفات الصهيونيّة الخاصة بما فعلته العصابات اليهوديّة في سنوات الحرب ضد الفلسطينيّين. وساهم الاهتمام بإنتاج التاريخ الشفوي في انخراط الكثير من الفلسطينيّين في جميع أنحاء العالم في العمل به وعليه، لمكافحة عمليات النزوح المستمرة عن فلسطين، إلا أن القليل من تلك الأعمال والمبادرات كانت مرتبطة بالنشاط النضاليّ الفلسطينيّ على المستوى القانونيّ.

كان للتاريخ الشفوي دوراً مهماً في توثيق ملكيات وممتلكات الفلسطينيّين النازحين داخل الأراضيّ المحتلة عام 1948

التاريخ الشفوي في مواجهة الرواية الصهيونيّة

رغم محدودية عمل المؤرخين الإسرائيليّين، لكنه كان بداية لمبادرات وأنشطة فلسطينيّة وإسرائيليّة عديدة، كجمعية "زكروت"، ومبادرة "فلسطين في الذاكرة" الفلسطينيّة، التي استخدمت منهجًا حديثًا للوسائط المتعددة في التاريخ الشفوي الفلسطينيّ عام 2003 ، يضم الآن أكثر من 600 مقابلة مع ناجين من النّكبة أو أحفاد ناجين، ورسمت المقابلات بوضوح في مجال النشاط والمناصرة، من خلال قسم بعنوان " الصراع 101"، الذي يضم شهادات نزع الملكية، على اعتباره عنصراً مركزيّاً في السرد، واقترنت المقابلات بالخرائط والصور الفوتوغرافية، الّتي تقدم رواية مضادة للصهيونيّة ، مع توفير محتوى المقابلات لتعزيز رسم الخرائط المضادة، ويوفر هذا مساحة لسردٍ مضادٍ مفيدٍ خاصٍ بالمجتمعات الفلسطينيّة، التي تعيش تحت الحكم الإسرائيليّ؛ في كل من الأراضيّ المحتلة عاميّ 1948 و1967، أو للفلسطينيّين المهمشين خارج فلسطين.

كانت مبادرة "أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطينيّ" في الجامعة الأميركيّة في لبنان الأكبر من نوعها، من خلال جمع الشهادات الحية الفلسطينيّة وتحليلها، وتوثيق كل ما يخص المسألة الفلسطينيّة، ليس على مستوى النّكبة كحدث فقط، بل تخطاه ليشمل الرواية الفلسطينيّة عن الحياة في فلسطين قبل 1948؛ الانتداب البريطاني والمقاومة الفلسطينيّة والعربيّة، الحرب والتطهير العرقي والهروب والنّفي. انطلقت المبادرة من كتاب "أصوات النّكبة: تاريخٌ حيٌّ لفلسطين" للباحثة البريطانيّةــ الأميركيّة ديانا ألان، أستاذة الأنثروبولوجيا في كندا، مع الناشط الفلسطينيّ محمود زيدان عام 2002، لتأسيس "أرشيف النّكبة"، الذي بات يحتوي على ألف تسجيل بالصوت والصورة لفلسطينيّين هُجّروا من 135 قرية في اثني عشر مخيما في لبنان.

طورت جامعة بيرزيت أحد البرامج الأولى في العالم العربيّ لتدريس التاريخ الشفوي، كما أسست الجامعة الإسلاميّة في غزّة مركز التاريخ الشفوي في عام 1998، لجمع الروايات الشفوية من النّكبة والنّكسة.  ثم مشروع متحف النّكبة الواقع في حرم جامعة بيرزيت في مايو/أيّار 2016، الذي يعد مؤسسة رئيسيّة للتاريخ الشفوي، لا يقتصر دوره على الاهتمام بتسجيل شهادات جيل النّكبة المتقدّم في السن فحسب، بل يخلق منبر للمجتمعات النازحة وملكيتها للمعرفة في مواجهة توسع أرشيف الدولة الإسرائيليّة الاستعماريّ والاستيطانيّ، في مساحات حفظ المعرفة والإنتاج، حيث تُمحَى الروايات الفلسطينيّة أو تستغل.

لا يعني ذلك أن المؤرخين الفلسطينيّين السابقين أهملوا التاريخ الشفوي كلّيّاً، بل كانت هناك أعمال رائدة في التدوين مع الناجين من النّكبة عام 1948، وكانت دراسة نافذ نزال عام 1978 من بواكير تلك الأعمال، التي حملت عنوان "الهجرة الفلسطينيّة من الجليل"، ثم جاء عمل الكاتبة والباحثة روزماري صايغ المعنون "الفلاحون الفلسطينيّون: من الاقتلاع إلى الثورة" عام 1979، مرجعاً مهماً في دراسات التاريخ الفلسطينيّ. كانت روزماري صايغ، من خلال عملها في مخيمات اللاجئين في لبنان في الثمانينيات، من أوائل من وثّق التاريخ الشفوي الفلسطينيّ توثيقاً منهجيّاً. وفي عام 1983، كذلك عمل سلمان أبو ستّة؛ المؤرخ الفلسطينيّ، عام 2003 "أطلس فلسطين 1917- 1966"، معتمداً على التاريخ الشفوي إلى جانب التاريخ الرسميّ. أيضاً؛ مساهمة روشيل ديفيس، مديرة مركز الدراسات العربيّة المعاصرة في "جامعة جورج تاون"، من خلال كتاب "تاريخ القرى الفلسطينيّة: جغرافية الشتات" عام 2011.

إضافةً إلى كتب مهمة لمؤرخين فلسطينيّين، تعد مصادر رئيسة استخدمت فيها الروايات الشفوية للتاريخ الفلسطينيّ، مثل كتاب روزماري إم أسبر "تحت غطاء الحرب: الطرد الصهيونيّ للفلسطينيّين" عام 2008، وكتاب للباحثة فاطمة قاسم "المرأة الفلسطينيّة: تاريخ روائي وذاكرة جنسانيّة." عام 2011، وكتاب "نازحون في الوطن: العرق والجنس بين الفلسطينيّين في إسرائيل" تحرير رودا آن كنعانة وإيزيس نصير ألباني عام 2010، وكتاب للباحثة دينا مطر بعنوان "ماذا يعني أن تكون فلسطينيّاً: قصص الشعب الفلسطينيّ" عام 2011، والتي فتحت آفاقاً جديدةً مع الاستمرار في توثيق النّكبة ما يعرف بالكارثة، تهجير العرب الفلسطينيّين الأصليّين بتشكيل دولة إسرائيل في 15 مايو 1948.

التاريخ الشفوي الفلسطينيّ نشاطٌ نضاليٌّ

في البدايات لم يكن في بال مؤرخي التاريخ الشفوي الفلسطينيّين سوى حفظ الذاكرة الفلسطينيّة في مواجهة المحو الصهيونيّ الممنهج، لكن مع تطور دراسات التاريخ الشفوي وتنوع مصادره وتطور آليات ضبطه، تحول من مجرد سرديات وروايات فلسطينيّة مقابل صهيونيّة، إلى نشاط يمكن الاستفادة منه قانونيّاً في استرجاع الحقوق، ليس على مستوى الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة فحسب، بل في مواجهة القوانين الإسرائيليّة التي صادرت؛ ولا تزال، الأراضيّ والممتلكات الفلسطينيّة داخل فلسطين المحتلة عام 1948، يمكن أن نشير إلى أولى الشهادات الشفوية للناجين من مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982، التي كانت حاسمة في حكم المحكمة العليا البلجيكية لمحاكمة أرئيل شارون على جرائم ضد الإنسانيّة، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعيّة بموجب القانون الدوليّ.

كان تناقل الرواية الفلسطينيّة عن المدن والقرى، وما حدث في سنوات التهجير القسريّ، والمذابح والحرب، بمثابة سردٍ مضادٍ للرواية الصهيونيّة الاستعماريّة والاستيطانيّة

لم يتكرر ذلك الحدث كثيراً، رغم كل الحروب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، ورغم وفرة التوثيق والشهادات الفلسطينيّة، التي يمكن أن تكون منطلقاً رئيساً لمعاقبة دولة الاحتلال وقياداتها على جرائم القتل والتدمير والتهجير. لكن من جهة أخرى كان للتاريخ الشفوي دوراً مهماً في توثيق ملكيات وممتلكات الفلسطينيّين النازحين داخل الأراضيّ المحتلة عام 1948، واستعان العديد من الفلسطينيّين رفقة مراكز إسرائيليّة وفلسطينيّة حقوقيّة بالتوثيق والروايات الشفويّة، في المواجهات القانونيّة وتقديم الشكاوى ضد المؤسسات الإسرائيليّة، ضد السلب والتهجير والمصادرات والسياسات العنصرية لبعض القرى والمدن والأراضيّ، كما مركز " بتسليم" ومركز " البديل" وآخرين.

ترفض الحكومة والمحاكم الإسرائيليّة إثبات ملكية الفلسطينيّين (من أراضي 48 و67) للأرض والممتلكات اعتماداً على الروايات الشفوية، كما حدث في عام 2015، حين رفضت المحكمة العليا الإسرائيليّة الشهادات الشفوية بشأن إقامة وملكيّة عائلة العقبي في قرية العراقيب؛ غير المعترف بها في النقب، رغم قانونيّة العقود الشفوية تاريخيّاً ودولياً في بعض الحالات، أضفى الرفض الإسرائيليّ الشرعية لمصادرتها أراضيّ السكان الأصليّين، وهي طريقة قائمة على القانون الإسرائيليّ لتعزز الاستعمار الاستيطانيّ.

لكن يؤطر التاريخ الشفوي لأنشطة فلسطينيّة تقوم على دعم المجتمعات والمبادرات، التي تواجه قوانين المصادرة والتهجير القسري، وسياسات التطوير الاستيطانيّ، وخلق مبادرات مناصرة ودعم من قبل الفاعلين والناشطين الحقوقيّين المحليّين من الإسرائيليّين والدوليّين، لوقف النشاطات الاستعماريّة الاستيطانيّة، كما حدث في قرى النقب والغور لمجتمعات معرضة لخطر نزوح متكرر منذ عام 1948.

المساهمون