البلقان مهدّد بالانفجار: صرب البوسنة يمهّدون للانفصال

17 ديسمبر 2021
دوديك ملتقياً بوتين في سوتشي الروسية في عام 2018 (ميخائيل كليمنتييف/Getty)
+ الخط -

بين ديسمبر/ كانون الأول 1995 وديسمبر الحالي 26 عاماً من التعايش الهشّ داخل دولة البوسنة والهرسك في البلقان، بين الإثنيتين البوسنية والصربية. تعايش كرّسته قوانين أضعفت الدولة المركزية لمصلحة الكيانين اللذين يشكّلان الدولة البوسنية، وهما كيان فيدرالية البوسنة والهرسك وكيان جمهورية صربسكا (صرب البوسنة).

وتضمّ الجمهورية أيضاً مدينة برتشكو، الأغنى في البلاد، والتي تتمتع بوضع خاص، بسبب تشاركها في القوانين مع الكيانين البوسني والصربي من دون الخضوع لهما.

وعلى الرغم من أن الإثنية الكرواتية جزء من هذه الدولة، إلا أن المنتمين لها لا يملكون كياناً خاصاً بهم، لكن دورهم في السلطة مكرّس دستورياً، من رأس الهرم إلى وظائف الدولة.

إيجابيات اتفاق دايتون وسلبياته

وكان واضحاً منذ لحظة توقيع اتفاق دايتون (نسبة للمدينة الأميركية الواقعة في ولاية أوهايو)، في 14 ديسمبر 1995، أن الأطر المنظّمة لجمهورية البوسنة والهرسك لن تدوم طويلاً.

ويعود السبب إلى أن الاتفاق وُقّع بغرض محدد، هو إنهاء الحرب في البلاد، الناجمة عن تفكك يوغوسلافيا بعد اندلاع الحرب الأهلية فيها في عام 1991، والتي استمرت حتى عام 2001، وانتهت إلى تجزئة البلاد إلى سبع دول جديدة على مراحل امتدت حتى عام 2008، وهي: البوسنة والهرسك، صربيا، كرواتيا، كوسوفو، سلوفينيا، مقدونيا الشمالية، مونتينيغرو.

ودفع السلام البوسني إلى تغاضي المتحاربين عن نقاط يُفترض أن تسهّل العلاقة بين الإثنيتين، بل يُمكن القول إن الاتفاق لم يحسم موضوع التعايش وترك الأبواب مفتوحة أمام صراع محتمل في المستقبل.


تعمل روسيا على دعم صرب البوسنة وزعيمهم ميلوراد دوديك

 

ومن أبرز نقاط الضعف في الاتفاق، هو تشكيل مجلس رئاسي مكوّن من رؤساء الإثنيات الصربية والبوسنية والكرواتية، ما يعني حكماً أن للبوسنة والهرسك ثلاثة رؤساء جمهورية، رغم أنهم يتناوبون على رئاسة المجلس كل ثمانية أشهر خلال ولايتهم التي تمتد لأربع سنوات.

وعادة قد لا يتفق هؤلاء سوى على الحدّ الأدنى من القوانين المركزية، تاركين المجال للكيانين في تطبيق قوانينهما الخاصة، ضمن لامركزية طاغية، تمهّد لبروز النزعات الانفصالية.

كما أن اتفاق دايتون نصّ على تكريس سلطة الممثل الدولي السامي كأعلى سلطة في البلاد.

ويحقّ لهذا الممثل عكس القوانين في جمهورية البوسنة والهرسك، في سياق مهمته الإشراف على تطبيق الاتفاق.

خطاب الصرب الانفصالي

ونضج الصراع داخل البلاد في الفترة الأخيرة، بقيادة الرئيس الصربي الحالي في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك ميلوراد دوديك، الذي كرّس منذ أشهر خطاباً انفصالياً تصاعدياً في كيان جمهورية صربسكا، عشية الانتخابات الرئاسية المقررة في العام المقبل.

وبعد فترة من اعتبار خطاب دوديك جزءاً من خطوة سياسية تهدف إلى تكرار فوزه في المجلس الرئاسي، إلا أن تمرير برلمان جمهورية صربسكا، يوم الجمعة الماضي، قوانين انفصالية، يهدّد بتفكك البوسنة والهرسك عملياً.

ومرّر البرلمان قانوناً، مدعوماً من دوديك، يُلزم الحكومة المحلية في الكيان بتنظيم الانسحاب من ثلاث مؤسسات مشتركة أساسية مع البوسنيين، وهي الجيش والنظام القضائي والضرائب في الأشهر الستة المقبلة.

ولم يكتفِ دوديك بذلك، بل وعد أيضاً بأن تتخذ جمهورية صربسكا إجراءات "لتعليق" 140 قانوناً صادرة عن مكتب الممثل الدولي السامي، ما يعني عملياً إطاحة كل ما بُني خلال السنوات الـ26 الماضية، وهو ما يعبّد الطريق نحو مواجهات سياسية، ستتحوّل بطبيعة الحال إلى أعمال عسكرية.

وتكمن أهمية تصعيد دوديك في هذه المرحلة، في مواكبته مرحلة يتحوّل فيها الخطاب العسكري في القارّة الأوروبية إلى عنوان للخطاب السياسي. 

وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة، برزت ملفات معقّدة في الشرق الأوروبي في آنٍ واحد. بولندا، على سبيل المثال، مررت قوانين تسمح للقضاء فيها بمنح القوانين المحلية الأفضلية على حساب القوانين الأوروبية، التي تلتزم فيها وارسو بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي.

وهو ما دفع الاتحاد للتنديد بشدّة بالقوانين البولندية، معتبراً أنها خطوة للخروج منه. كما عرفت بولندا أيضاً صراعاً حدودياً مع بيلاروسيا، على خلفية محاولة مينسك دفع اللاجئين إلى وارسو.

كذلك تشهد القضية الأوكرانية توترات شديدة بفعل التحشيد العسكري الروسي على حدودها، في ظلّ تكثيف موسكو وواشنطن وحلف شمال الأطلسي مناوراتهم ووجودهم في البحر الأسود، وسط خطاب عالي النبرة بين جميع الأطراف، قد ينتهي بغزو روسي لأوكرانيا.

الدور الروسي في البلقان

وللدلالة على الدور الروسي في البوسنة والهرسك، فإن دوديك نفسه لم يتوانَ عن القول في مقابلة صحافية في أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إنه "عندما أذهب إلى (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين لا أكون بحاجة لتقديم مطالب، بل هو الذي يسألني عما يمكن فعله لمساعدتي".

وشدّد على أن "الرئيس الروسي لم يخذلني عندما قدم لي وعوده، وعلى هذا الأساس ثقتي فيه كبيرة".

الدور الروسي غير سرّي أيضاً في كوسوفو، التي تشهد توترات متزايدة بين الأقلية الصربية فيها والأكثرية الألبانية، وهو ما دفع وزارة الخارجية الروسية، في سبتمبر/ أيلول الماضي، للتعبير عن "قلقها البالغ إزاء قرار شرطة كوسوفو في المناطق الشمالية من الإقليم (لا تعترف روسيا باستقلال كوسوفو وتعتبرها جزءاً من صربيا وريثة يوغوسلافيا)، منع مرور وسائل النقل عبر الحدود مع أراضي وسط صربيا، تحت ذرائع واهية وذلك بممارسة العنف بحق المدنيين".

وأشارت الخارجية الروسية إلى أن "الحديث يدور بالفعل عن محاولة الألبان المحليين الاستيلاء على المناطق ذات الأغلبية الصربية داخل الإقليم"، مضيفة: "نرى في هذه الأحداث استفزازاً يستهدف مواصلة عمليات التطهير العرقي وطرد الصرب من كوسوفو".

ومن شأن موقف روسيا، حليفة صربيا، أن يدفع إلى تكتّل دول بلقانية عدة إلى جانب صرب البوسنة، منذراً بتدهور الأوضاع.

وتبدو روسيا في هذه الحالة وكأنها اللاعب الأساسي في البلقان، على اعتبار أن خلق بؤر للصراع "خلف مناطق العدو" خير وسيلة لتشتيت جهوده عن الجبهة الشرقية معها.

ومع أن البلطيق وبيلاروسيا وبولندا مناطق صراع واسعة، إلا أن للبلقان، بفعل تنوّعه العرقي (يسكنه كاثوليك ومسلمون وأرثوذكس) والإثني، دوراً كبيراً في أي نزاع، فضلاً عن تأثيراته الجيوسياسية، لتشابكه بين البحر المتوسط والشرق الأوروبي، على صياغة أي قرار غربي.


اتفاق دايتون المنظّم للسلام البوسني مهدّد بالسقوط

 

أما أبرز تداعيات أي حرب في البلقان، فتكمن في عودة موجات اللجوء التي سادت في تسعينيات القرن الماضي، من المنطقة إلى الغرب الأوروبي، بما يضيف مزيداً من التعقيد على ملف الهجرة العالق في أروقة بروكسل، في زمن تبدو فيه دول أوروبية عدة عاجزة اقتصادياً عن مواجهة تفشي فيروس كورونا ومتحور "أوميكرون".

هنا، يخشى السكان المحليون في كياني فيدرالية البوسنة والهرسك وجمهورية صربسكا من نشوب الحرب، ذلك أن للبلقان تاريخاً قديماً من الحروب. الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، اندلعت شرارتها من العاصمة البوسنية سراييفو، حين قُتل وريث العرش النمساوي ـ المجري فرانتز فرديناند، على يد الطالب الصربي غافريلو برنسيب، في 28 يونيو/ حزيران 1914.

وأدى هذا الأمر إلى إعلان الإمبراطورية المجرية ـ النمساوية الحرب على صربيا، قبل تدحرج الأوضاع إلى حرب عالمية.

وأفضت هذه الحرب إلى اتحاد كيانات بلقانية في دولة يوغوسلافيا، نسبة لانتمائها إلى الشعوب السلافية القديمة. وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، برز جوزيب بروز تيتو، الكرواتي الأصل، كقائد للمقاومة اليوغوسلافية ضد ألمانيا النازية التي غزت بلاده.

ونجح تيتو بعد الحرب في تثبيت وحدة يوغوسلافيا، في ظلّ حكم شيوعي، وكان على خصام مع الاتحاد السوفييتي. لكنه واجه العديد من المحاولات الانفصالية، التي كبح جماحها حتى وفاته في عام 1980.

وفي ظلّ نشوء أزمات اقتصادية عدة، من ألمانيا الشرقية حتى الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي، شهدت يوغوسلافيا تدهوراً اقتصادياً حاداً، دفع الكيانات الانفصالية فيها إلى التحرّك، وصولاً إلى الحرب الأهلية، ثم تحقيق الانفصال في التسعينيات.