افتتح البرلمان الجزائري أمس الأحد دورته النيابية الخريفية الجديدة، بعد سنته الأولى التي لم تحمل أي تغييرات جوهرية في عمل المؤسسة التشريعية وأدائها النيابي. وبقي البرلمان على هامش الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاصلة في الجزائر، وظهر استمرار هيمنة السلطة عليه، منذ أول جلسة له لاختيار رئيسه الحالي، إبراهيم بوغالي، في يوليو/تموز 2021.
استسلام البرلمان الجزائري لإرادة السلطة السياسية
وكشفت دراسة حديثة أعدها النائب عن حركة "مجتمع السلم" (كبرى الأحزاب المعارضة في البرلمان) عبد الوهاب يعقوبي، حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، وتضمّنت مسحاً شاملاً للمبادرات التشريعية التي قدّمها نواب أو كتل نيابية خلال الولايات النيابية الثلاث الأخيرة، بين 2007 و2021، أن مجموع القوانين التي اقترحها نواب البرلمان، بلغت 56 مقترح قانون فقط (ويرتفع الرقم إلى 82 مقترح قانون منذ الولاية الأولى عام 1997).
هذا الرقم ضئيل جداً مقارنة بالصلاحية الدستورية الأساسية للبرلمان كمؤسسة تشريع، ما يعني استسلام البرلمان الجزائري لإرادة السلطة السياسية التي تتولى صياغة القوانين. لكن اللافت أيضاً منع تمرير أي من هذه المقترحات وإسقاطها، عبر الأغلبية النيابية التي تتشكّل في الغالب من أحزاب موالية للسلطة.
في المقابل، طرحت الحكومة أكثر من 400 قانون، صادق البرلمان عليها، وبعضها من دون نقاش مفتوح.
الولاية النيابية الماضية بين 2017 و2021، كانت الأضعف
وأظهرت الوثيقة أن الولاية النيابية بين 2007 و2012، شهدت طرح 26 مبادرة تشريعية لاستحداث قوانين جديدة من قبل النواب، لكن السلطة أحبطت هذه المبادرات، التي كان أبرزها ما يخص تحرير الانتخابات من سلطة الإدارة، وتجريم التعامل مع الكيان الصهيوني، ومنع تواجد القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد، وحظر فتح مكاتب لأجهزة الاستخبارات الأجنبية في الجزائر. إضافة إلى تجريم الاستعمار الفرنسي، وإلغاء عقوبة الإعدام، على غرار قانون إلغاء حالة الطوارئ الذي قدّم عام 2011 (كانت مطبقة في البلاد منذ 1992).
أما خلال الولاية النيابية بين 2012 و2017، فقد طرح النواب 21 مبادرة نيابية، لم تمر أي منها، كان أبرزها مشروع قانون طرحه النائب حينها أحمد بطاطاش، يخص إعادة الاعتبار لضحايا أحداث عام 1963 (اقتتال مسلح وقع بين الجيش وقوات تتبع جبهة القوى الاشتراكية بقيادة الزعيم الثوري حسين آيت أحمد) ومنحهم صفة شهداء، وقانون لتعويض ضحايا الألغام المزروعة في زمن الاستعمار الفرنسي، فضلاً عن قانونين للأحزاب السياسية والجمعيات.
أما الولاية النيابية الماضية، بين 2017 و2021، فكانت الأضعف على صعيد المبادرات النيابية بتسعة مشاريع قوانين.
وقال النائب عبد الوهاب يعقوبي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه وبغضّ النظر عن مخرجات الوثيقة والمسح الشامل للمبادرة النيابية، وما تكشفه من ضعف لافت في هذا الإطار، وهيمنة السلطة على البرلمان من خلال فرض نسق واحد للتشريع، يقوم على أن تكون الحكومة حصراً هي صاحبة المبادرة في طرح القوانين والتشريعات التي يتولى البرلمان المصادقة عليها، فإن اللافت أن المؤسسة النيابية تفتقد إلى عنصر التوثيق، على الرغم من وجود إدارات مختصة بحفظ وتوثيق الوثائق والعمل النيابي.
وأضاف: "يصعب على النائب الحصول على الوثائق والمعلومات، إلا بعد جهد كبير والدوران من إدارة إلى أخرى داخل البرلمان".
المبادرات التشريعية للأحزاب الجزائرية
وعلى صعيد ترتيب الأحزاب السياسية الأكثر تقديماً للمقترحات والمبادرات التشريعية، تصدّرت "مجتمع السلم" اللائحة في هذا الإطار، بمجموع 18 مقترح قانون من أصل 56. وخلال الفترة الأخيرة، قدّمت كتلة الحركة، ثلاثة مشاريع قوانين، تتعلق بتجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والتأمينات الاجتماعية، وتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وجاء بعد الحركة، حزب "جبهة التحرير الوطني" بـ12 مقترحاً، وكتلة المستقلين بعشرة مقترحات، ثم "جبهة القوى الاشتراكية" بأربعة مقترحات قوانين، وحزب "العمال" و"تجمّع أمل الجزائر" بمقترحين لكل منهما.
نصر الدين معمري: البرلمان أصبح مجرد مكتب تسجيل لمشاريع القوانين التي تريدها الحكومة
وتوزعت مقترحات القوانين على نحو 22 مقترح قانون يخص الشؤون الاجتماعية كالشغل والصحة والأسرة، و13 مقترح قانون يخص الانتخابات والمجالس المنتخبة وصلاحيات البلديات، وستة قوانين تخص العقوبات والقضاء، وخمسة قوانين تخص الشؤون الخارجية، كان أبرزها قانون تجريم الاستعمار الفرنسي وتجريم التطبيع. فضلاً عن ثلاثة مقترحات قوانين تخص الشؤون الاقتصادية، في ملفات النقد والقرض والعقار، وخمسة قوانين تخص قضايا وشؤونا وطنية.
وتُظهر هذه البيانات إخفاق المؤسسة النيابية في تفعيل دورها التشريعي والرقابي، وفشلها في تمرير أي من القوانين التي يقترحها النواب، وحصر التشريعات والقوانين في تلك التي تقترحها الحكومة.
قيود متعددة تحيط بدور البرلمان الجزائري
وفي السياق، فسر أستاذ القانون الدستوري في جامعة سطيف شرقي الجزائر، نصر الدين معمري، هذا الواقع المتناقض بأنه "مرتبط بطبيعة النظام السياسي القائم في البلاد".
وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد": "يعكس هذا الواقع تزايد تدخّل السلطة التنفيذية في العمل التشريعي، لدرجة أن البرلمان أصبح مجرد مكتب تسجيل لمشاريع القوانين التي تريدها الحكومة".
وتابع "أُحِيط دور البرلمان في التشريع بقيود متعددة الأشكال، جعلته ينطمس ولا يحتل إلا مرتبة ثانوية في ممارسة وظيفته الأصلية، التي أصبحت الحكومة تستحوذ عليها من خلال سلطتها الواسعة والحرة في المبادرة بالقوانين".
ولفت معمري إلى أن "المشرّع الدستوري عمد للتمييز بين مشروع قانون (تقدّمه الحكومة) ومقترح قانون (يقدمه النواب)، فالأخير فقط من يخضع مصيره لجهة القبول أو عدمه، إلى سلطة مكتب البرلمان الذي يمكنه أن يعدم أي اقتراح قانون يقدمه النواب، لكون المكتب يتشكل عادة من الأغلبية البرلمانية الموالية للحكومة".
وعزا معمري أحد الأسباب الحقيقية للضعف التشريعي للبرلمان إلى "مستوى النائب المعرفي وقدراته الذاتية المحدودة إن لم نقل المنعدمة، وروحه الاتكالية وخضوعه للقواعد والتعليمات الحزبية الضيقة أو التأثيرات الخارجية الأخرى، وكذلك قوة وهيمنة الحكومة، وعدم وجود خبرة لدى النواب بصياغة اقتراحات القوانين، واقتناع الكثيرين منهم بأنّ المبادرات التشريعية المقترحة من جانبهم لن تلقى اهتمام الحكومة وبقية النواب، بالإضافة إلى اهتمامات النائب التي يغلب عليها الطابع المحلي".
ولا يتوقع متابعون لتطورات الشأن السياسي أن يُحدِث البرلمان الحالي، وهو أول برلمان منتخب بعد الحراك الشعبي وفي انتخابات جرت تحت سلطة هيئة مستقلة للانتخابات، فارقاً كبيراً، أو يقدّم أداءً مخالفاً للأداء في الولايات البرلمانية السابقة، على الرغم من المتغيرات التي حصلت في البلاد. إذ عادت السلطة السياسية إلى مزيد من السيطرة على مفاتيح العمل السياسي وإحكام قبضتها على كل مبادرة قد تطرح من خارج النسق السياسي للسلطة.
أحمد تمامري: الدورة المقبلة ستشهد مبادرات حقيقية تعالج عدداً من القضايا التي تهم المجتمع والشعب
توقع بارتفاع نسق المبادرات التشريعية
لكن رئيس الكتلة النيابية لـ"جبهة التحرير الوطني" (الموالية للسلطة) سيد أحمد تمامري، توقع ارتفاعاً في نسق المبادرات التشريعية خلال الدورة الجديدة.
وقال تمامري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "هذه الدورة ستكون مختلفة عن سابقتها. نعلم أن الأغلبية الساحقة من النواب جدد، ولم تكن لديهم تجربة نيابية سابقة، ولكن فترة سنة كانت كافية للتعرف على المهام النيابية عن كثب، ولتصبح لدى هؤلاء النواب قاعدة تكوينية تحسّن من أدائهم".
وتابع: "الدورة المقبلة ستشهد مبادرات تشريعية من طرف النواب، وحتى الدورة السابقة شهدت بعض المبادرات التشريعية، لكن لم تكن بالدقة التي تسمح باعتمادها وتمريرها، كما كانت هناك لجان استعلامية".
وأكد أن "الدورة المقبلة ستشهد مبادرات حقيقية تعالج عدداً من القضايا التي تهم المجتمع والشعب"، مضيفاً "بالنسبة لحزبنا، سنطرح عدداً من مقترحات القوانين التي نرى أنها ضرورية بالنسبة للشعب ومؤسسات الدولة".