كلما تسارع سقوط المدن والمناطق الأفغانية بيد "طالبان"، سُلِّطت الأضواء على قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب "المتسرع"، كما يوصف، من أفغانستان. وبقدر ما فرض الموضوع نفسه في واشنطن بكل جوانبه وتداعياته "المأسوية والخطيرة"، تزايدت المآخذ على القرار مع التلويح بمحاسبة صاحبه، ولو المؤجلة. فالرئيس صار شبه مطارد بالانهيار المتوالية فصوله، وإن بالغ خصومه بدوافع سياسية، في تحميله كل المسؤولية. لكن مشكلته أنّ دائرة الملامة تتوسع وتتنوع بحيث باتت تشمل كثيراً من المؤيدين له. والأهم أنه دخلها عسكريون سابقون عملوا في أفغانستان. والأكثر أهمية أن منهم من سارع إلى مطالبته بالتراجع عن قراره، في وقت أدت فيه التطورات إلى تآكل حيثيات الانسحاب وازداد ضعف دفاعات الإدارة عنه.
واحد من الأسئلة المحيرة في واشنطن هو: لماذا انهارت القوات الأفغانية بهذه السرعة وبهذا الشكل؟
هناك تفسيرات وتقديرات كثيرة. منها أن المشكلة الأساسية تكمن في النهج الذي اعتُمد في إعدادها "الذي بلغت كلفته 90 مليار دولار، "والذي جرى نسخه عن العقيدة القتالية الأميركية، التي تقوم على "المركزية والهرمية" في إدارة العمليات القتالية. حسب هذا التعليل، كان المطلوب تدريبها على مقاتلة "حالات تمرد" وبما يتطلب حرية الحركة والأداء الميداني وفق شروط اللحظة القتالية. تزويدها بالطيران والمدفعية والمروحيات والمعدات الحديثة "التي كلفت حوالى 10 مليارات دولار"، أعطاها قوة نارية أكبر، لكن مرونة أقل. غير أنّ ذلك لا يفسر "سهولة اجتياحات طالبان حتى في غير مناطق البشتون، مثل قندوز وهيرات". بالإضافة إلى ذلك، ربط الخبراء في حالات كثيرة عملية الانهيار "بهروب الجنود أو التحاقهم المبكر بقوات طالبان"، باستثناء حالات قليلة "استبسلوا" في الدفاع عن مواقعهم.
ساهم في التردي، وفق هذه القراءة، أن "ضعف الحكومة والفساد" في صفوفها ساهما في فقر العناية وقلة الاهتمام بأفراد القوات المسلحة والقوى الأمنية، "لجهة الخدمات والرواتب وحسن الرعاية" بالمصابين في العمليات القتالية. كل هذه الفجوات أدت إلى بناء قوات مسلحة معطوبة" لا تقوى حتى على صيانة معداتها بنفسها من دون استعانة بالتقنيين الأميركيين".
لكن هذا لا يُعفي القوات الأميركية المشرفة من المسؤولية، ومما إذا كانت على دراية بهذه الشوائب وما أدت إليه من خلل جاء الآن وقت دفع فاتورته بعد الانسحاب. كذلك فإنه لا يُعفي الإدارة من مساءلتها عما إذا كانت على علم بهذه الأعطاب، ومع ذلك أقدمت على قرار الانسحاب. ومن هنا الشعور بالصدمة والخيبة لدى دوائر أميركية عديدة، عاتبة أو ناقمة على الرئيس بايدن، لما أدى إليه قراره من عواقب "مخجلة ومكلفة"، أعادت التذكير بالسيناريو الفيتنامي بعد 45 سنة.
التخوّف الآن أن تكون التداعيات "أكثر فداحة"، لو بقيت الأمور في طريق العودة إلى ما كانت عليه قبل 2001". ولذا بدأت تبرز الدعوة الصريحة إلى "عودة الرئيس بايدن عن قراره" حسب ما قال الجنرال المتقاعد جون ألن، الذي سبق أن خدم في أفغانستان، والذي يرأس الآن مؤسسة بروكينغز للدراسات بواشنطن. دعوة يتردد صداها في بعض الردود، ولو غير مباشرة، وذلك من باب مطالبة البيت الأبيض بالقيام بخطوة لاستدراك "الأسوأ" الذي قد يدفع ثمنه لاحقاً.
الإدارة الآن كمن وجد نفسه في الزاوية. الرئيس ما فتئ يقول إنه "غير نادم" على قراره. لكن بعيداً عن المكابرة، من الواضح أنه يشعر بضغط تبعات خطوته بعد المنحى الذي أخذته الأحداث. ومن هنا كان قرار إرسال 3000 جندي لتوفير الأمان والسلامة لعملية الإخلاء الجارية للرعايا الأميركيين وألوف من الأفغان الذين تعاونوا معهم. وكان من اللافت أن مهمة هذه القوة لم ترتبط بمدة. هل جرى ذلك لترك الخط مفتوحاً أمام تعديلها أو تمديدها؟