أثار قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من الأراضي الأفغانية بحلول 11 سبتمبر/ أيلول المقبل، حالة من الارتباك في المشهد السياسي في الصين، وذلك بالنظر إلى تداعيات الخطوة الأميركية، وما قد تخلفه من فراغ أمني يهدد حدودها الغربية. وتخشى بكين من أي اتصال محتمل بين حركة "طالبان" ومن تصفهم بالانفصاليين في إقليم شينجيانغ، فضلاً عن مخاوف أخرى تتعلق بتهديد استثماراتها الكبيرة في أفغانستان، ضمن مشروعها "مبادرة الحزام والطريق"، وأن يؤدي هذا الأمر إلى عرقلة سعيها لبناء شبكة تحالفات لمواجهة المخطط الأميركي الساعي إلى احتواء نفوذها في المنطقة.
وتدرك القيادة الصينية أن الانسحاب الأميركي لا يعني نهاية الحرب على ما يُسمى الإرهاب في أفغانستان، بل هو انتهاء الإرادة السياسية لدى واشنطن لخوض تلك الحرب، ما يعني دخول الأراضي الأفغانية في مرحلة جديدة من الفلتان والقتل والدمار، قد تكون أكثر دموية مما كانت عليه من قبل، وبالتالي استمرار دوامة العنف واشتعال فتيل الحرب الأهلية.
لي بو: الصين قد تكون مستعدة للتعاون مع "طالبان"
وترى بكين خطورة في طريقة سحب القوات، وتخشى أن يؤدي هذا الأمر إلى خلق "أسطورة جهادية" في المنطقة، تُحفز جماعات متأهبة في شرق آسيا، ترتبط بعلاقات وطيدة مع حركة "طالبان"، على انتهاز فرصة الفراغ الأمني. وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جاو لي جيان قد شدد، أخيراً، على أنه يجب على القوات الأجنبية الموجودة في الأراضي الأفغانية الانسحاب بطريقة مسؤولة ومنظمة، لمنع القوات المتطرفة من استغلال الفوضى، معتبراً أن الولايات المتحدة جزء من المشكلة في أفغانستان، وليست جزءاً من الحل، بغضّ النظر عن بقائها أو انسحابها.
وحول المخاوف الصينية، قال الباحث في الشؤون الآسيوية لي بو، لـ"العربي الجديد"، إن الصين تراقب من كثب تطورات الأوضاع الميدانية في أفغانستان، حيث تدور معارك عنيفة في عدة أقاليم بين القوات الحكومية و"طالبان". وأضاف: إننا أمام حرب أهلية وشيكة، قد تعيد صعود "طالبان" وظهور أمراء الحرب من جديد، فضلاً عن الانقسامات العرقية والقبلية. وأشار إلى أن ذلك يشكل تحدياً كبيراً لكابول أولاً قبل بكين، ويطرح سؤالاً صعباً عمّن سيتعامل مع حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
وعن الخطوات المقبلة، أوضح لي بو أنه على الرغم من الدعم المادي الكبير الذي قدمته بكين للحكومة الأفغانية، فإنه ليس بإمكان القوات الحكومية هناك أن تقدم أي ضمانات أمنية. وإزاء ذلك، ليس لدى الصين الرغبة في أن تقوم بذلك بنفسها، بل على العكس قد تكون مستعدة للتعاون مع "طالبان" في المستقبل، في حال التزامها عدم الاتصال بالمسلمين الإيغور في إقليم شينجيانغ. ولفت إلى أن "طالبان" لم يسبق لها أن تدخلت في هذا الملف، وإن كانت تضم في صفوفها العديد من المقاتلين الفارين من تركستان الشرقية. يشار إلى أن وزارة الدفاع الصينية كانت قد أعلنت، مطلع العام الحالي، أنها قدمت مساعدات عسكرية بأكثر من 70 مليون دولار للحكومة الأفغانية خلال العامين الماضيين، لتعزيز جهودها في مكافحة الإرهاب.
من جهته، أعرب أستاذ الدراسات السياسية في جامعة "صن يات سن"، وانغ جو، في حديث مع "العربي الجديد" عن اعتقاده أن الخطر الأكبر الذي قد يمثله الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ليس مسألة الاستثمارات أو الفلتان الأمني وتهديد الحدود الغربية للصين، التي تخضع بطبيعة الحال لرقابة شديدة، بل إعادة انتشار القوات الأميركية وتموضعها في المنطقة، على اعتبار أن ذلك ينسجم مع خطة الإدارة الأميركية الجديدة لتعزيز وجودها العسكري في منطقة المحيطين الهادئ والهندي من أجل احتواء نفوذ بكين. وتوقع وانغ جو أن تشهد الفترة المقبلة ازدياداً في وتيرة الأنشطة العسكرية للبحرية الأميركية في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، الأمر الذي من شأنه أن يخلق حالة من التأهب في المنطقة، تشبه إلى حد كبير حالة الاستعداد للحرب.
وانغ جو: الانسحاب الأميركي ينعكس على مخططات بكين
وأشار وانغ جو إلى تداعيات تأثير انسحاب القوات الأميركية أمنياً بمساعي بكين لبناء تحالفات في المنطقة، تعزز جبهتها في التصدي للمخطط الأميركي. ولفت إلى أن الصين سعت خلال السنوات الماضية إلى بناء تحالف رباعي يضمها إلى باكستان وأفغانستان ونيبال، غير أن التحديات الأمنية الجديدة، فضلاً عن القدرات الاقتصادية والعسكرية الهشة لهذه الدول، قد تحول دون فعالية التحالف، بل على العكس قد ينهك الصين، ويغرقها في وحل التصدع الأمني والتدهور الاقتصادي داخل تلك الدول. وكانت الصين قد ضخت ملايين الدولارات في نيبال على شكل مشاريع ومساعدات اقتصادية وإغاثية. وربما كان المشروع الأبرز، افتتاح أكاديمية عسكرية لتدريب القوات المحلية في الدولة الصغيرة الواقعة في جبال هيمالايا المحاذية لمنطقة التيبت، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة في عام 2018.
في المقابل، تحدثت وسائل إعلام رسمية صينية عن الفرص التي يشكلها انسحاب القوات الأميركية، والتي يأتي في مقدمتها التخلص من المخاوف بشأن القواعد العسكرية الأجنبية في المنطقة. وأشارت إلى فرص التعاون بين بكين و"طالبان" في المستقبل، على أساس أن بكين استضافت العديد من الاجتماعات والمحادثات بين الحركة والحكومة الأفغانية، وبالتالي هناك مصلحة مشتركة لتوطيد العلاقات ما دامت تقوم على التعاون والاحترام المتبادل. لكن أصواتاً خافتة في الصين حذرت من أن "طالبان" اليوم تختلف تماماً عن وضعها قبل سنوات، من حيث العدد والعتاد والترسانة العسكرية. وأشارت إلى أن الحركة غنمت الكثير من مخازن الأسلحة التابعة للجيش الأفغاني، وباتت تسيطر على أكثر من نصف الأراضي الأفغانية بعد الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة، وبالتالي على بكين الحذر في التعامل مع الوضع الجديد الذي ينذر بولادة إمارة لحركة "طالبان" في المنطقة.