الانتخابات الرئاسية الفنلندية... الأمن والعلاقة بروسيا من أهم القضايا

28 يناير 2024
من الحملة الانتخابية في فنلندا (فرانس برس)
+ الخط -

تجرى الانتخابات الرئاسية الفنلندية اليوم الأحد لاختيار خليفة للرئيس الحالي ساولي نينيستو. ومع أن فنلندا (نحو 5.4 ملايين نسمة) تُحكم بنظام برلماني يختار الأغلبية فيه رئيس/ة حكومة، إلا أن موقع الرئاسة يحتل أهمية في تقرير السياسات الخارجية للبلد. فالرئيس الحالي، نينيستو، لعب دوراً كبيراً في انضمام بلده إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، رغم كل الضغوط الروسية، وتعقيدات علاقة الطرفين منذ عقود طويلة. وتشير نتائج استطلاع أجرته مؤسسات فنلندية، مثل "تيتويكونن" للاستطلاع و"غالوب تالوستويكما"، إلى تفاوت نتائج النسب المئوية، رغم تركز المنافسة بين مرشح "الخضر" بيكا هافيستو، ومرشح حزب "التجمع" المحافظ ألكسندر ستوب، من نفس حزب الرئيس المنتهية ولايته نينيستو.

ففي نتائج استطلاع هيئة البث العام الفنلندية "Yle"، ونشرته صباح الخميس الماضي يظهر ستوب متقدماً بنحو 27 في المائة، يليه هافيستو بـ23 في المائة. وفي النتائج نفسها قفز مرشح اليمين القومي المحافظ، ورئيس البرلمان حالياً جوسي هالا-أهو (من حزب الفنلنديين الحقيقيين، يمين قومي محافظ)، من 10 في المائة في ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى 18 في المائة قبل ثلاثة أيام من التصويت.

وبرز في المرتبة الرابعة مرشح حزب "الوسط" أولي رين، بإضافة نقطتين إلى رصيده عن الشهر الماضي، متحصلاً على نحو 14 في المائة. وزاد أيضاً دعم مرشحة تجمع اليسار الاشتراكي الفنلندي لي أندرسون بنقطتين، مرتفعة من 5 إلى 7 في المائة. في المقابل، تراجعت مرشحة "الاجتماعي الديمقراطي" (يسار الوسط) يوتا أوربيلاينن من 7 إلى 5 في المائة.

وأشارت الباحثة السياسية في جامعة هلسنكي، يوهانا فوريلما، إلى أن تراجع مرشحة "الاجتماعي الديمقراطي"، الذي خسر الانتخابات البرلمانية العام الماضي، يؤكد "أنها لا تحظى سوى بتأييد 23 في المائة من مقترعي يسار الوسط، بينما الكثيرون من مؤيدي الاجتماعي الديمقراطي يرون في بيكا هافيستو المرشح الأفضل". وأكدت الباحثة، في تصريحات للتلفزة الفنلندية "واي إل إي" الخميس الماضي، أن "قاعدة يسار الوسط تتوقع ذهاب الانتخابات إلى جولة ثانية، وبالتالي هم أقرب إلى هافيستو من المحافظ ستوب".

يولي الفنلنديون أهمية إلى موقع الرئاسة بسبب ارتباطه بسياسات بلدهم الخارجية

ومع أن هافيستو، يعتبر على يسار الرئيس الحالي، إلا أنه حظي باحترام المجتمع الفنلندي لقدرته على التعاون معه، خصوصاً في مسائل معقدة متعلقة بالسياسات الخارجية والعلاقة بحلف شمال الأطلسي وروسيا. ورغم ذلك يخشى مؤيدوه أن تبقى سمة "الرجل الثاني" تلاحق هافيستو في منافسته لستوب، إذا حققا أكبر النسب المئوية للانتقال معا إلى الجولة الانتخابية الثانية من الانتخابات الرئاسية الفنلندية (في 11 فبراير/شباط المقبل).

تحليلات
التحديثات الحية

وينظر الفنلنديون إلى موقع الرئاسة بأهمية بسبب ارتباط الموقع بسياسات بلدهم الخارجية. وأظهر استطلاع أجرته مؤسسة الأبحاث الفنلندية "إيفا"، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن نحو 50 في المائة من الشعب يرغبون بأن يكون للرئيس صلاحيات إضافية في السياسة الخارجية، لتشمل أيضاً قضايا الاتحاد الأوروبي الموكلة إلى موقع رئاسة الحكومة. أضف إلى ذلك، أبدى المستطلعون رغبة بمنح الرئيس صلاحيات إضافية، كحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة وتقديم مقترحات تشريعية. ويرتبط ذلك بأزمة نجمت عن خروج رئيسة الحكومة السابقة سانا مارين من الحكم في الانتخابات التشريعية العام الماضي، والتي أدت إلى نشوء تحالف بين يمين الوسط مع أقصى اليمين الفنلندي في حزب "الفنلنديين الحقيقيين"، المتهمة بعض قياداته بميول نازية.

العلاقات الخارجية... عامل حاسم

تعتبر العلاقة الفنلندية-الروسية من أكثر القضايا الخارجية اهتماماً لدى الشارع الفنلندي، وهو يولي بذلك اهتماماً خاصاً لمنصب رئاسة البلد في تقرير مصير تلك العلاقة.

فمنذ أن ضمت موسكو في 2014 شبه جزيرة القرم سارعت هلسنكي، في فترة نينيستو، نحو علاقات أوثق بالغرب. فرغم أن العلاقة كانت طيبة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونينيستو، إلا أن تحذيرات موسكو المتكررة من تخلي هلسنكي عن سياساتها شبه الحيادية بين الأقطاب لم تردع نينيستو عن مواصلة رسم سياسة خارجية أكثر اندماجاً في المعسكر الغربي.

ودفعت الحرب الأوكرانية، بعد الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022، أيضاً بالسياسة الخارجية لفنلندا نحو طلب مشترك مع جارتها السويد للانضمام إلى "الناتو". ورفع ذلك من منسوب التوتر بين هلسنكي وموسكو. بالتأكيد التوتر المتزايد له جذوره التاريخية. فقد تعرضت فنلندا لغزو سوفييتي بين 1939 و1940، واستمرت المعارك لنحو 105 أيام، وسميت "حرب الشتاء"، بمشاركة متطوعين إسكندنافيين إلى جانب شعب فنلندا.

وفي استمرارية لتلك الحرب شهد البلدان حرباً سميت "السوفييتية-الفنلندية"، بين الأعوام 1941 و1944. ويعيد الفنلنديون الفضل لجيرانهم السويديين في البقاء كأمة، بعد أن ساهم طياروهم في الدفاع عن البلد.

وبينما كانت علاقة فنلندا أفضل حالاً مع جيرانها الإسكندنافيين، فإن العلاقة بروسيا القيصرية السابقة والسوفييتية لاحقاً لم تكن كذلك، حتى بعد أن تنازلت فنلندا عن نحو 13 في المائة من أرضها الواقعة في شبه جزيرة كاريليا بعد الحرب. ولعب موقع فنلندا دوراً حاسماً في الصراع عليها. حيث خضعت منذ القرن الثالث عشر حتى بداية التاسع عشر للتاج السويدي. ومنذ 1809 صارت عبارة عن "دوقية فنلندا الكبرى"، وكجزء مستقل من الإمبراطورية الروسية، حتى الثورة البلشفية في العام 1917.

انضمام فنلندا إلى "الناتو" يشكل بنظر روسيا تهديداً لأمنها القومي

وبقيت الخشية الفنلندية قائمة من عودة روسيا للمطالبة بأراضٍ فيها، خصوصاً أن تجربة علاقتها بالاتحاد السوفييتي السابق حملت، في 1939، فسخ جوزيف ستالين لمعاهدة عدم اعتداء وقعت في العام 1932.

تحولات مهّد لها نينيستو

انتهجت فنلندا بعد الحرب العالمية الثانية في العام 1945 سياسة "مهادنة" في علاقتها بموسكو. بل احتضنت هلسنكي قمماً أميركية ــ سوفييتية ومعاهدات خفض تسلح بين "الشرق والغرب". مع ذلك ظل هاجس "البقاء كأمة" يلعب دوراً في حياة الفنلنديين، الذين يعدون حتى اليوم "شعباً مسلحاً"، إذ يخضع أغلبية الشعب لتدريب على مقاومة أي غزو خارجي. وأقامت البلاد ملاجئ ضد الأسلحة النووية كفيلة بحماية أكثر من عدد سكانها (5.4 ملايين).

وتظل حتى اليوم "روح حرب الشتاء" مصطلحاً مستخدماً في المجتمع الفنلندي يؤكد على أهمية الوحدة الوطنية، وكضرورة لـ"عدم الاستسلام حين نعمل جميعاً معاً". ليست التحولات التي طرأت على توجهات نينيستو منذ 2012 في علاقته ببوتين، سوى مؤشر على مخاوف فنلندا مما يطلقون عليه "الخطر الروسي".

فضم شبه جزيرة القرم في 2014، والحرب الأوكرانية في 2022، أديا دوراً كبيراً في توجيه نينيستو لدفة السياسات الخارجية نحو دول إسكندنافيا بداية، ثم إلى الغرب في صورة أوسع. وأصبحت هلسنكي، التي تملك حدوداً غربية مع روسيا بطول نحو 1340 كيلومتراً، تحتضن مناورات وتمارين عسكرية بمشاركة غربية، حتى قبيل حسم عضويتها في "الناتو" في ربيع العام الماضي.

وانضمام البلد إلى الحلف الغربي في عز انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، واقتراب "الناتو" كثيراً من حدودها يشكل بنظر موسكو تهديداً لأمنها القومي. هذا إذا أضيف إليه عضوية السويد في الحلف، لتصبح كل دول الشمال (وصولاً إلى أيسلندا) مع إسكندنافيا، بمثابة إحاطة بروسيا، وتذهب إلى ما هو أوسع من مجرد توسيع "الأطلسي" شرقاً، والذي اعتبرته روسيا خطأ غربياً كبيراً في علاقته معها، بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفييتي رسمياً أواخر 1991. وأدى انتهاج هلسنكي سياسة خارجية غربية الهوى، خصوصاً في "الأطلسي"، إلى تزايد الغضب الروسي، حتى في ذروة الحملات الانتخابية، وهو ما يزيد من مخاوف ساستها وشارعها.

تحذير روسي قبل أيام من الانتخابات الرئاسية الفنلندية

قبل أيام من حلول موعد الانتخابات الرئاسية الفنلندية، أكد الدبلوماسي الروسي ميخائيل أوليانوف أن "فنلندا ستكون الدولة الأولى التي تعاني إذا تصاعد الوضع بين روسيا وحلف شمال الأطلسي"، بحسب ما نقلت عنه وكالة "ريا"، وتناقلتها وسائل الإعلام الفنلندية بكثافة. يأتي ذلك بعد تنامي انتشار عسكري أطلسي في فنلندا، وبعد تصريحات لبوتين عن أن بلاده "ستركز وحدات عسكرية معينة في المناطق الشمالية"، أي بمحاذاة فنلندا وإسكندنافيا.

رئيس جديد وسياسات خارجية ثابتة

وإذا كان التحرر من الحذر، والاقتراب أكثر من الحلف الغربي، حدث خلال ولاية نينيستو، فإن مرشحين كثرا لخلافته لا يختلفون عنه في هذه النقطة، ومن بينهم معاونه في السياسة الخارجية المرشح بيكا هافيستو.

ألكسندر ستوب متحمس لاستضافة قواعد دائمة للأطلسي في فنلندا باعتبارها تعزز الأمن

أطلق هافيستو وعوداً انتخابية تتماشى وصلاحيات الرئاسة في السياسات الخارجية، وعلى أساس ثبات التوجه غرباً. فالرجل يؤكد على "أن تكون فنلندا مستعدة للدفاع عن بقية أعضاء دول الناتو بدرجة أكبر مما هي عليه اليوم". بل يذهب في وعوده إلى ما هو أبعد، لأجل تحمل هلسنكي بشكل خاص "مجال المراقبة البحرية والجوية، بما في ذلك منطقة بحر البلطيق"، مرحباً أيضاً بتواجد مخزونات أسلحة الأطلسي، من غير النووية، دون حاجة لقواعد عسكرية دائمة. ومع ذلك يضمن في تعهداته أن يشارك بلده في "مجموعات العمل والتدريبات التي تتعلق بسياسة الأسلحة النووية لحلف شمال الأطلسي". كما يؤكد هافيستو أنه سيستمر بتأمين دعم فنلندا لأوكرانيا "حتى تتمكن من أن تكون في موقف قوي قدر الإمكان على طاولة المفاوضات مستقبلاً"، مشدداً على ضرورة ضم كييف إلى الاتحاد الأوروبي و"الأطلسي".

أما المرشح الآخر الأوفر حظاً من معسكر يمين الوسط، وفقاً للاستطلاعات، ألكسندر ستوب، فهو ليس أقل حماسة للأطلسي، بل ولاستضافة قواعد دائمة له باعتبارها "تعزز أمننا، ويظهر ذلك أننا جزء من أقوى تحالف دفاعي في العالم (الناتو)". ويعتقد ستوب أنه في العام 2022 "سقطت كل الأوهام حول الطبيعة الحقيقية لروسيا"، مشيراً بذلك إلى الغزو الروسي لأوكرانيا باعتباره "يشكل بطبيعة الحال تهديداً عسكرياً لكل جيرانها، ولهذا السبب انضممنا إلى الناتو".

ويشير ستوب إلى أنه يؤيد "أن تصبح أوروبا أقل اعتماداً على الصين، ولو كانت المنتجات ستصبح أكثر تكلفة للمستهلك العادي". أما عن العلاقة المستقبلية بروسيا، فيرى أنها لن تكون طبيعية قبل انسحاب روسيا من أوكرانيا، مشدداً على أنه "لا يمكن تطبيع العلاقة معها ما دامت في حالة حرب في أوكرانيا، ولا يجب علينا الاعتقاد أن خليفة بوتين سيكون أكثر ليونة منه".

في كل الأحوال، من الواضح أن المسائل الخارجية، المتعلقة أساساً بأمن فنلندا ومستقبلها، التي يساهم في رسمها رئيس البلاد، تطغى على تفكير ووعود المرشحين في الانتخابات الرئاسية الفنلندية من دون أن يعني ذلك أيضاً إغفال خطاب سياسي ووعود انتخابية أخرى تتعلق بمسائل الرفاهية ومستقبلها في فنلندا، وقضايا التحول الأخضر والمسائل المناخية والمساواة، بالإضافة إلى رؤى حيال النظام العالمي، وعلاقة عالم الشمال بعالم الجنوب ومطالب إصلاح الأمم المتحدة، وغيرها من سلسلة قضايا يطرحها المرشحون لنيل الأغلبية من أجل دخول القصر الرئاسي في هلسنكي.

المساهمون