باتت خريطة المشهد الانتخابي في الجزائر أكثر تعقيداً، بعد إعلان جبهة القوى الاشتراكية، أقدم أحزاب المعارضة الجزائرية، قرارها مقاطعة الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 12 يونيو/حزيران المقبل. لكن السلطة، التي خسرت بمقاطعة هذا الحزب التاريخي سترة إنقاذ مهمة كانت ستعطي دفعاً كبيراً للاستحقاق الانتخابي المقبل، تبدو مصممة على إنجاز الانتخابات، مهما كانت في النهاية نسبة التصويت ومجموع المشاركين.
وأعلنت ستة أحزاب سياسية جزائرية مقاطعة الانتخابات التشريعية المقبلة، بسبب ما تعتبره "عدم توفر الظروف المناسبة"، ورفض السلطة إجراء حوار سياسي يسبق هذا الاستحقاق المرتقب. آخر القوى التي انضمت الى كتلة المقاطعين، هي "جبهة القوى الاشتراكية" التي حسمت يوم السبت الماضي موقفها برفض المشاركة في استحقاق 12 يونيو، على الرغم من وجود كتلة هامة من قيادات الحزب كانت تدفع نحو المشاركة.
تحاول أحزاب التماهي مع مناطقها التي تتجه للمقاطعة
وكان "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" أول حزب سياسي دشّن لائحة مقاطعة الانتخابات. واعتبر الحزب أنه "وسط الأجواء التي يطبعها القمع واحتجاز سجناء الرأي وتقييد الحريات الفردية والجماعية والتراجع الاقتصادي والاجتماعي، تتأهب السلطة القائمة، التي سبق أن تلقت صفعتين بسبب المقاطعة الواسعة والتاريخية لصناديق الاقتراع، للعب مهزلة انتخابية جديدة في الثاني عشر من يونيو المقبل". ولاحقاً، التحق حزب "العمال" الجزائري (يساري) بلائحة المقاطعين، حيث أعلن في 15 مارس/آذار الماضي عدم مشاركته في الانتخابات، بسبب ما اعتبره "عدم توفر قواعد المنافسة النزيهة ونتائجها المحسومة سلفاً".
ثالث حزب جزائري كان أعلن عن قرار المقاطعة هو "الاتحاد من أجل التغيير والرقي"، والذي أعرب في بيان عن رفضه هذه الانتخابات "شكلاً ومضموناً كسابقاتها، لأنها لا يمكن أن تشكل حلًا للأزمة، بل ستزيدها تعقيداً، وهي لا تعد أولوية بالنسبة لأغلبية المواطنين، بل تشكل مناورة من طرف النظام لرسكلة نفسه (إعادة تدوير نفسه) والإبقاء على نفس الممارسات والآليات القديمة، وحتى الوجوه التي شكلّت جزءاً من المسؤولية في الأزمة القائمة".
كذلك تبرز في لائحة القوى المقاطعة للانتخابات، الحركة الديمقراطية الاجتماعية (الحزب الشيوعي سابقا)، والذي يتمسك بمواقفه المؤيدة للحراك الشعبي، وكذا حزب الاتحاد الديمقراطي (غير معتمد)، والذي يقوده الناشط البارز في الحراك الشعبي كريم طابو، والذي يطالب بإلغاء الانتخابات وإقرار مرحلة انتقالية.
وبغض النظر عن تبريرات القوى المقاطعة والتي تلتزم بإسناد الحراك الشعبي والمطلب الديمقراطي ورفض المشاركة في إعادة إنتاج مؤسسات النظام، فإن بعض التفسيرات تذهب إلى أن دوافع هذه الأحزاب نحو مقاطعة الانتخابات، لا ترتبط بالضرورة بمناخ العملية الانتخابية، لكونها شاركت سابقاً في انتخابات، وفي ظروف أكثر تعقيداً سياسياً وأمنياً وتشريعياً، بل مرتبطة بطبيعة هذه الأحزاب التي تتمركز كتلتها الناخبة خصوصاً في العاصمة وأطرافها، وفي منطقة القبائل الرافضة بشكل كامل للمسار الانتخابي منذ 2019. وكانت هذه المنطقة سجّلت أدنى نسبة تصويت في استحقاقي التصويت الشعبيين الماضيين (الرئاسي واستفتاء الدستور) بأقل من واحد في المائة.
ونشر أستاذ العلوم السياسية، نوري إدريس، تقدير موقف، تعليقاً على أحدث قرار مقاطعة اتخذته "جبهة القوى الاشتراكية"، وصف فيه قرار المقاطعة بأنه "فعل ذكي، لكن هذا يصّح فقط إذا كان للحزب فعلاً قواعد نضالية قوية تؤثر في الميدان". وأشار إدريس إلى أن "الحزب المقاطع يحاول التماهي مع توجه عام للمنطقة التي ينتشر فيها تقليدياً (منطقة القبائل)، نحو المقاطعة، لأسباب كثيرة لا يمكن حصرها، بحيث لا يمكن لجبهة القوى الاشتراكية (على سبيل المثال) المشاركة في الانتخابات فيما المنطقة تلوح بمقاطعة بالقوة للانتخابات".
ويبرز احتمال غياب تمثيلية منطقة القبائل عن البرلمان المقبل، بسبب مقاطعة هذه الأحزاب، كنقطة وحيدة تشكل قلقاً للسياسيين الجزائريين، على الرغم من أن السلطة ستجد نفسها مضطرة لتكرار نفس ما حدث في انتخابات 2002، عندما قاطعت كبرى الأحزاب المتمركزة هناك، "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" و"جبهة القوى الاشتراكية"، الانتخابات البرلمانية، بسبب مقتل 165 شاباً في أحداث الربيع الأمازيغي، حيث بادرت السلطة إلى احتساب أي عدد من أوراق الناخبين التي لم تتجاوز في بعض البلديات 300 ورقة، وتصعيد نواب مثلّوا المنطقة على أساس ذلك.
احتمال غياب تمثيلية منطقة القبائل عن البرلمان المقبل، يبرز كنقطة وحيدة تشكل قلقاً للسياسيين الجزائريين
ويُطرح سؤال جوهري حول مدى تأثير هذه القوى المقاطعة على نسبة التصويت في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وما إذا كان ارتفاع النسبة، سيشكل إعطاباً للعملية الانتخابية أو المسّ بمصداقية وشرعية المؤسسة البرلمانية التي ستنبثق عنها. إلا أن مجريات الواقع السياسي أثبتت أن خيار المقاطعة، على اتساعه في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور الماضيين، لم يعطل فرض الأمر الواقع، لاسيما بالنسبة للدستور. وعلى هذا الأساس، لا تبدو السلطة السياسية في الجزائر منزعجة من حلقة المقاطعين. وكانت السطلة نجحت في استدراج كتلة من الأحزاب التي كانت قاطعت الانتخابات الرئاسية التي جرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2019، والاستفتاء على الدستور الجديد في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، إضافة إلى الإقبال الكثيف والقياسي لقوائم المرشحين المستقلين، حيث باتت الطموحات والذاتية جزءاً من العوامل التي ستشجع على عمل حواري كبير في الشارع ومع الناخبين لإقناعهم بالتصويت لصالحهم، ما سيسهم في رفع نسبة المشاركة. إضافة إلى ذلك، فإن السلطة تعول على كون الانتخابات البرلمانية لها خصوصياتها ورهاناتها السياسية، مقارنة مع الرئاسيات والاستفتاء على الدستور، الأقل اهتماماً من قبل الناخبين.
ويُفهم من تصريحات الرئيس عبد المجيد تبون في المقابلة الصحافية التي بثها التلفزيون الجزائري مساء أول من أمس الأحد، أن نسبة المشاركة لم تعد مهمة للسلطة، أو هاجساً يخص شرعية المؤسسة البرلمانية المنبثقة عنها، حيث قال إن "النتائج ستُعتمد مهما كانت النسبة المشاركة، لكننا نأمل أن تكون مشاركة شعبية قوية، وعلى مواطنينا أن يدركوا أن عدم المشاركة تضعنا أمام حتمية القبول بنتائج التشريعيات كما هي". وقلّل تبون من أهمية المقاطعة الشعبية للانتخابات، معتبراً أن "الأهم بالنسبة لي، في التشريعيات المقبلة، هو تحقيق النزاهة والشفافية التامة... ونحن نريدها أن تكون انتخابات نزيهة".