لا يفارق الجدل عادة الانتخابات في إيران، غير أنه هذه المرة لم يكن حول نتائجها التي لم تشكل مفاجأة حيث كان متوقعاً هيمنة جديدة للمحافظين على مجلس الشورى الإسلامي الإيراني (البرلمان)، وهو ما حصل بالفعل، بل كان بشأن حجم المشاركة في الانتخابات، يوم الجمعة الماضي، والتي شملت استحقاقي الانتخابات التشريعية وانتخابات مجلس خبراء القيادة الذي يتولى اختيار المرشد الإيراني والرقابة على عمله.
ومثّلت نسبة المشاركة أهم ما شغل بال قادة الدولة ومؤسساتها بعد تصاعد دعوات المقاطعة، سواء بشكل غير مباشر من الإصلاحيين في الداخل أو بشكل مباشر ومكثف من المعارضة الإيرانية في الخارج وشبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك في ضوء عزوف إصلاحي عن الترشح للانتخابات.
وجاءت مقاطعة الإصلاحيين احتجاجاً على طريقة تعامل مجلس صيانة الدستور المخول دستورياً بالإشراف على العملية الانتخابية مع ملفات الترشح، ورفض معظم من تقدموا للترشح من الإصلاحيين، فضلاً عن ظروف البلاد الحساسة، الاقتصادية والسياسية، على خلفية استمرار الأزمات الاقتصادية وتداعيات "احتجاجات مهسا أميني" التي شهدتها إيران في نهاية عام 2022 عقب اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق الإيرانية ومن ثم وفاتها.
المشاركة في الانتخابات الإيرانية: تراجع قياسي
ما زاد أهمية المشاركة في الانتخابات الإيرانية بميزان مؤسسات الدولة، أنها سجلت في الاستحقاقين الانتخابيين السابقين (البرلمانية 2020 والرئاسية 2021)، أدنى نسب مشاركة منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، إذ كانت على التوالي 42.57 و48.8 في المائة.
وبالتالي برزت مخاوف من تراجع قياسي آخر، وهو ما حصل هذا العام بعدما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة، 41 في المائة، وفق إعلان وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي، الاثنين الماضي. وأشاد وحيدي، في مؤتمر صحافي، بحجم المشاركة في الانتخابات الأخيرة، على الرغم من دعايات ما وصفها بأنها "أبواق نظام الهيمنة".
وشدّد على أن الانتخابات الإيرانية شهدت "تنافساً جيداً ومحموماً وواسعاً" بين جميع الأوساط الفكرية والسياسية. مع العلم أن هذا التصريح جاء رغم أن العملية الانتخابية غابت عنها معظم الأحزاب الإصلاحية، وواجهت انتقادات واسعة من قوى وتيارات سياسية غير محافظة اعتبرت أنها "غير تنافسية".
بدوره، شكر المرشد الإيراني علي خامنئي، أمس الثلاثاء، الشعب الإيراني على المشاركة في الانتخابات، قائلاً إنهم من خلال مشاركتهم "قاموا بحركة عظيمة وملحمية في مواجهة دعايات الأعداء، وهذا نوع من الجهاد".
أكبر من المتوسط العالمي
يقول منوشهر متكي، رئيس قائمة "الوحدة المحافظة"، ووزير الخارجية الإيراني الأسبق، في حديثه مع "العربي الجديد"، إن "نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة رغم مشاكل يواجهها الناس، كانت أكبر من المتوسط والمعيار العالمي".
وفي هذا الصدد، يصوّب متكي الفائز عن مدينة طهران، وهو أحد المرشحين المحتملين لرئاسة البرلمان الإيراني المقبل، على الانتخابات الأميركية، قائلاً إن نسبة المشاركة في انتخابات الكونغرس الأميركي، العام الماضي، بلغت فقط 30 في المائة، مضيفاً أنه في الانتخابات البرلمانية الأوروبية كانت أقل من 25 في المائة.
تنافس في البيت الأصولي
أنهى غياب الغريم القديم عن السباق الانتخابي، أي الإصلاحيين، من جهة، خوض المحافظين الانتخابات كتكتل موحد، ثم أدى ذلك من جهة ثانية إلى تنافس داخلي بين المحافظين، أو ما يعرف في الداخل الإيراني بـ"الأصوليين".
أفرزت الانتخابات تراجعاً لتيارات محافظة تقليدية وتعاظماً لقوة المحافظين الجدد
فقد ظهرت قوائم أصولية متعددة، في مقدمتها "شانا" و"أمنا" و"الوحدة"، لكن في العاصمة طهران، والتي تشكل الدائرة الانتخابية الأهم، لم تفز قائمة أصولية بعينها، بل فاز 14 نائباً، كان معظمهم أعضاء مشتركين في تلك القوائم.
وسيُحسم مصير 16 مقعداً متبقية لطهران، و29 مقعداً في محافظات أخرى في جولة الإعادة التي ستجري في 26 إبريل/ نيسان المقبل. مع العلم أن الانتخابات حسمت 245 مقعداً برلمانياً من أصل 290 مقعداً.
وسجلت النتائج تراجعاً لتيارات محافظة تقليدية، فيما تعاظمت قوة المحافظين الجدد، خصوصاً من "جبهة الصمود" (بايداري) المحافظة، إذ إن رئيس البرلمان الإيراني الحالي محمد باقر قاليباف حلّ رابعاً في طهران، فيما وجوه محافظة أكثر تشدداً أمثال حميد رسائي (من بايداري) تقدمت عليه.
ويقول متكي عن سرّ تعدد القوائم في التيار المحافظ، إن إيران لطالما شهدت حضور تيارين سياسيين، اليمين واليسار أو الأصولي والإصلاحي، وفي كل منهما توجهات معتدلة وأخرى متطرفة.
وأشار إلى أنه في هذه الانتخابات لم يعلن الإصلاحيون رسمياً المشاركة في الانتخابات احتجاجاً على رفض ترشّح بعض مرشحيهم، "لكن السبب الرئيسي لعدم حضورهم كان عدم الثقة بالفوز، وهو ما أثبتته النتائج".
ويعزو متكي التنافس بين المحافظين في الانتخابات إلى ثقتهم بأن الإصلاحيين لن يحصلوا على أصوات كافية، وعليه فإن المحافظين لم يصروا على الوحدة في الانتخابات.
خاتمي لم يصوّت
لم يصوت الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي في الانتخابات، لأول مرة، في خطوة متماشية مع قرار معظم التيارات الإصلاحية تجاه العملية الأخيرة. ويعزو المتحدث باسم حزب "نداي إيرانيان" (نداء الإيرانيين) الإصلاحي سعيد نورمحمدي قرار خاتمي إلى "انتقاداته الجادة" التي وجهها في بيانه قبل الانتخابات والتي تطرقت إلى إجراء "انتخابات غير تنافسية وتفريغها وصندوق الصوت (الاقتراع) من مضمونهما".
سعيد نورمحمدي: آمل أن تدرس السلطات بعناية خطوة خاتمي بعدم التصويت
وعن اعتبار البعض قرار خاتمي بمثابة انطلاقة جديدة للإصلاحيين في إيران، يقول نورمحمدي لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يمكن التكهن بذلك بعد"، معرباً عن أمله في أن يتحوّل إلى "فرصة لتيار الإصلاحات ومؤسسات السلطة".
ويعرب عن أمله في أن تدرس السلطات خطوة خاتمي بعناية، واصفاً إياه بأنه "أحد أكبر أرصدة النظام، ولم ولن يقوم بأي خطوة ضد المصالح الوطنية والأمن القومي".
إخفاق "صوت الشعب"
كانت قائمة "صوت الشعب"، برئاسة نائب رئيس البرلمان الأسبق علي مطهري، الوحيدة المقربة من الإصلاحيين، لكنها أخفقت في تسجيل أي اختراق انتخابي، ولم يفز أي من أعضائها في طهران.
يقول غلامحسين كرباسجي، رئيس بلدية طهران الأسبق، والناشط السياسي والأمين العام لحزب "كوادر البناء" الإصلاحي، أحد الأحزاب الإصلاحية القليلة التي أيدت المشاركة في الانتخابات والتصويت لـ"صوت الشعب"، إن سبب إخفاق القائمة يعود إلى مشاركة ضعيفة من الإصلاحيين والقوى المعتدلة في الانتخابات، مضيفاً أنهم كان من المفترض أن يشكلوا قاعدة تصويتية للقائمة.
ويضيف كرباسجي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن وسائل الإعلام وشبكات التواصل والصحف التابعة للتيار الإصلاحي أصبحت تتبنى "شعارات أكثر حدة بسبب الاستياء" الموجود وتحليلها للوضع، مشيراً إلى أنها قلّما تميل نحو الاعتدال وقائمة "صوت الشعب" المعتدلة، هو ما أدى إلى عدم مشاركة الإصلاحيين ومحدودية الفضاء الدعائي الانتخابي لصالح القائمة.
ويلفت إلى دور "شريحة من الإصلاحيين المتطرفين"، قائلاً إنهم "وظفوا طاقاتهم لتسويق مقاطعة الانتخابات وبث اليأس من غياب أفق أي تغيير محتمل في البرلمان المقبل".
ثلاثة عوامل وراء العزوف
ويسمّي كرباسجي ثلاثة أسباب وراء تسجيل نسبة مشاركة في الانتخابات الإيرانية الأخيرة أدنى من سابقاتها:
كرباسجي: السبب الأول لتدني نسبة المشاركة هو الاستياء العام وحالة اليأس
يقول إن السبب "الأول هو الاستياء العام من الواقع الاقتصادي وعدم كفاءة الأجهزة التنفيذية وحالة اليأس التي أصابت الناس"، فيما السبب "الثاني هو غياب وجود برامج وخطط لدى المرشحين والبرلمان، إذ إنهم من أي تيار كانوا، لا يملكون خططاً وبرنامج ولا يعرفون ماذا يفعلون".
ويشير في السياق إلى أن البرلمان أيضاً "لا يمتلك الصلاحية" في القضايا الكبرى للبلاد، إذ "نُقلت الكثير من صلاحياته إلى أجهزة أخرى، مثل المجلس الأعلى الثقافي أو مجلس رؤساء السلطات الثلاث".
وتشكل المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي لرؤساء السلطات الثلاث، وهي السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، عام 2018، بأمر من المرشد الإيراني علي خامنئي، وذلك كغرفة للتصدي للحرب الاقتصادية الأميركية على البلاد والمتمثلة في فرض العقوبات المشددة والقاسية بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي في العام نفسه.
ويمكن للمجلس اتخاذ قرارات بشأن القضايا الاقتصادية الأساسية للبلاد، تندرج في الأساس ضمن صلاحيات الحكومة أو البرلمان أو البنك المركزي. ويضم المجلس إلى جانب رؤساء السلطات الثلاث، مسؤولين إيرانيين كباراً آخرين.
أما السبب الثالث، وفق كرباسجي، فهو حالة "شلل" ناتجة عن تغييب قوى سياسية عن السباق الانتخابي ورفض ترشحها نتيجة طريقة تعاطي مجلس صيانة الدستور مع ملف الترشيحات. ويقول إن هذه السياسة "أفقدت نحو 60 في المائة من القوى السياسية الفاعلة حيويتها وفاعليتها في الانتخابات، بسبب رفض ترشح معظم مرشحيها، بينما هي تشكل محرك المجتمع السياسي، ويمكنها تجييش الشارع وتحفيزه للمشاركة".
من يصوّت في الانتخابات الإيرانية؟
وفي موضوع توزيع أصوات المشاركين في الانتخابات، يشير كرباسجي إلى أنه "بحسب التقديرات، تشكّل القوى الأصولية (المحافظة) ما بين 15 و20 في المائة من القوى والتوجهات السياسية في المجتمع الإيراني"، لافتاً إلى أن المساجد و"الباسيج" (قوات التعبئة التابعة للحرس الثوري)، تشكّل معاقلها. ووفق كرباسجي، تقدّر شريحة أخرى بما بين 15 و20 بالمائة من المجتمع وهي "ترغب بالمشاركة في الانتخابات في أي حال".
ويلفت إلى أن مشاركة أفراد هذه الشريحة تأتي سواء انطلاقاً من مخاوف من تعرضهم لـ"مشاكل إدارية" أو من قناعة بأن المقاطعة فعل معارض، وهم لا يريدون إقحام أنفسهم في هذه القضايا والإشكاليات، كما أنهم يرون، من خلال التصويت، إمكانية إيصال مشرعين إلى البرلمان يكونون أفضل من القوى الأكثر تطرفاً.
ويخلص إلى أن ما بين 35 و40 في المائة من الناخبين يشاركون في الانتخابات عادة، وهو ما أكدته نتائج استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات، لافتاً إلى "تطورات جديدة" من شأنها أن تزيد النسبة.
لغز الأصوات الباطلة
يرى كرباسجي أن "الأصوات البيضاء"، وأيضاً "الأصوات الباطلة" تُحسب ضمن شريحة المشاركين، مشيراً إلى ارتفاع نسبة الأصوات الباطلة خلال الانتخابات السابقة، و"على الأرجح" الحالية. ويلفت إلى وجود أنباء عن احتلال الأصوات الباطلة المرتبة الثانية في بعض المحافظات في الانتخابات الأخيرة، كما كان الحال في الانتخابات الرئاسية السابقة.
وتحوّلت الأصوات الباطلة إلى حديث ساخن في إيران، ما حدا بوزير الداخلية أحمد وحيدي إلى التقليل من أهميتها وحجمها، والقول إن نسبة الأصوات البيضاء شكلت 5 في المائة، مشيراً إلى أن هناك ثلاثة أصناف من الأصوات الباطلة، تشمل الصوت غير المقروء والصوت الأبيض والصوت لغير المرشحين في الدائرة الانتخابية.
صلاح الدين خديو: بدأت ظاهرة "الأصوات الباطلة" بعد الانتخابات الرئاسية عام 2021
يقول الناشط والمحلل السياسي صلاح الدين خديو، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن ظاهرة أو متغيّر "الأصوات الباطلة" بدأت تبرز منذ الانتخابات الرئاسية عام 2021، والتي افتقرت إلى "أدنى معايير تنافس"، وهو ما دفع البعض إلى الحديث عن وجود مشروع لـ"تنقية السلطة" بيد المحافظين وإقصاء غيرهم.
وهو مصطلح طرحه محافظون معتدلون طاولهم المشروع أيضاً، في مقدمتهم الرئيس السابق للبرلمان علي لاريجاني، الذي رفض مجلس صيانة الدستور ترشحه للانتخابات الرئاسية السابقة.
يرى خديو أن هذا الصنف من الأصوات "تعبير احتجاجي من جانب جزء من المجتمع الذي يفضل المشاركة في الانتخابات، لكنه لا يجد خياراً أو مرشحاً مناسباً"، مضيفاً أن مشاركة بعض هؤلاء في الانتخابات ربما تكون انطلاقاً من "مصلحة عمل أو توظيف إداري".
وتعني تلك الأصوات، وفق خديو، "الاحتجاج على الواقع الراهن، وتراجع أهمية صناديق الصوت كعنصر تغيير وتحوّل في الساحة السياسية".
لكن في المقابل، يرى المحافظون أن مشاركة أصحاب تلك الأصوات تُحسب لصالح العملية الانتخابية، رفضاً لدعوات المقاطعة. وفي هذا الصدد، أشارت صحيفة "فرهيختغان" الإيرانية المحافظة، في تقرير نشرته الأحد الماضي، إلى ارتفاع نسبة الأصوات الباطلة، مشيرة إلى أنها كانت مؤثرة في إعادة الجولة في طهران لحسم مصير 16 مقعداً من أصل 30، بعدما فشل المرشحون في الحصول على 20 في المائة من الأصوات.
وقالت الصحيفة إن عدد الأصوات الباطلة في طهران، في 4900 صندوق من أصل 5 آلاف، بلغ 276 ألفاً و658 صوتاً، فيما حصل الفائز الأول في طهران (محمود نبويان) على نحو 400 ألف صوت، لافتة إلى أن الفائز الأول في انتخابات 2020 حصل على مليون و265 ألف صوت.