يتوجه الفرنسيون، اليوم الأحد، للتصويت في الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية، على أن تُجرى الجولة الثانية في 27 يونيو/حزيران الحالي، في استحقاق مؤجّل منذ ثلاثة أشهر بسبب فيروس كورونا، ويعتبر مؤشراً مهماً قبل الانتخابات الرئاسية، المقررة في ربيع العام المقبل. وسيكون يوم التصويت موعداً لرفع كامل الإجراءات الصحية التي فرضتها الحكومة منذ أشهر لمواجهة تفشي الوباء، مع رفع حظر التجوال بشكل كامل. ويُتوقع أن تشهد الانتخابات امتناعاً كبيراً عن التصويت، إذ أظهر استطلاع أجرته "إيبسوس" أن 60 في المائة لن يصوّتوا اليوم، ما يضفي تحدياً جديداً أمام الأحزاب في انتخابات تشهد غموضاً في التحالفات، ويجعل التكهن بالفائزين أمراً ليس بالسهل. ويُضاف إلى ذلك حالة التفكك التي تعيشها بعض الأحزاب مثل قوى اليسار، التي تخلفت في كل استطلاعات الرأي، أو اليمين الذي تراجع في الانتخابات المحلية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وحتى الأيام الأخيرة، كانت استطلاعات الرأي تُظهر تقدّم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان في ست مناطق، هي بروفانس ألب كوت دازور، بورغون ـ فرانش - كونتي، سنتر فال دو لوار، نوفيل أكيتين، أوكسيتاني، وبريتان. ومن بين هذه الأقاليم يبدو الحزب قريباً جداً من الفوز، للمرة الأولى بتاريخ الجمهورية الخامسة (تأسست بموجب دستور 1958)، بإقليم بروفانس آلب كوت دازور، لكن ما تبقى من أقاليم يبدو الحسم فيها غير محتم بعد. ويعود السبب إلى التكتيك الذي تتبعه الأحزاب عادة ويُسمّى "الجبهة الجمهورية"، من أجل إسقاط اليمين المتطرف عندما يكون متقدماً. ويتمثل بقيام الأحزاب، على الرغم من اختلافاتها، بإنشاء تحالفات أو سحب مرشحين لصالح أحزاب أخرى لمنع اليمين المتطرف من الفوز. وهو ما جرى فعلاً في الانتخابات السابقة عام 2015، حين كان اليمين المتطرف متقدماً في خمسة أقاليم في استطلاعات الرأي، لكنه مع انتهاء الجولة الثانية خرج مهزوماً ولم يظفر بأي إقليم.
يتقدم اليمين المتطرف في 6 أقاليم لكنه يخشى سيناريو 2015
حالة الغموض في التحالفات أربكت المشهد كثيراً، إذ كانت العقدة الكبرى أمام الأحزاب تشكيل تحالفات في ما بينها، ففي الأقاليم الـ14 والمناطق الثلاث (كورسيكا ومارتينيك في جزر الأنتيل وغويانا الفرنسية)، لم تتمكن الأحزاب من تشكيل تحالفات بينها، سوى في إقليم أو دو فرانس، الذي نجحت فيه قوى اليسار بإيجاد صيغة وسطية، لتسليم قيادة القائمة إلى مرشحة حزب "الخضر" كريمة ديلي. مع العلم أن الإقليم نفسه كاد يسقط في الانتخابات الماضية بيد اليمين المتطرف، لولا انسحاب اليسار لصالح اليمين، وطلبه من ناخبيه التصويت لمرشح اليمين كزافييه برتران، الذي حسم الانتخابات ومنع اليمين المتطرف من الفوز.
لكن في هذا الإقليم تبدو المواجهة صعبة على الجميع، إذ يتصدر استطلاعات الرأي فيها مرشح اليمين المتطرف سيباستيان شينو، وينافس حزب اليمين الممثل للجمهوريين بمرشحه كزافييه برتران، والأخير سيُبارز الرئيس إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ولتزداد التعقيدات أكثر في هذا الإقليم، دفع حزب ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" بوزير العدل إريك دوبون موريتي ووزير الداخلية جيرالد دارمانان، لخوض المنافسة في هذا الإقليم، في خطوة حملت تفسيرين؛ الأول أنه أراد مواجهة لوبان ومنعها من الفوز بأصوات الإقليم، والثاني مواجهة منافسه مبكراً قبل الانتخابات الرئاسية وتوجيه ضربة معنوية له قبل الاستحقاق الكبير عام 2022.
بدا مشهد إقليم أو دو فرانس انتقاماً لماكرون من حزب اليمين بعد أن أفشل الأخير تحالفاً بين "الجمهورية إلى الأمام" ومرشح اليمين في بروفانس آلب كوت دازور، رينو موزلييه، ما أثار زوبعة سياسية في صفوف اليمين استدعت تهديدات لمرشح الحزب بسحب ترشيحه في حال استمر بتحالفه مع ماكرون، ليتراجع عنه لاحقاً. وبرر الحزب موقفه بأنه يخوض هذه الانتخابات في صفوف المعارضة لماكرون، ولن يتحالف معه بأي حال من الأحوال.
وإلى جانب وزيري العدل والداخلية، يخوض 11 من أعضاء حكومة ماكرون الانتخابات الإقليمية، وتكاد تكون حظوظهم معدومة للفوز بأي إقليم، لكن مشاركتهم، بحسب آراء كثيرة، ليست أكثر من مناورة من الرئيس الفرنسي للتخفيف من الزخم الذي يمكن أن تحصل عليه لوبان، أو حتى موزلييه، أبرز منافسي ماكرون حتى الآن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبذلك قد يتمكن من تبديد أصوات اليمين واليمين المتطرف وتشتيتها.
وفي الانتخابات السابقة عام 2015، مني اليسار، الذي كان يقوده الاشتراكيون آنذاك، بهزيمة كبيرة، عندما اكتسح اليمين بزعامة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي مناطقه، لكن يبدو المشهد اليوم قد تغيّر كثيراً، فأمام يسار مفكك، ويمين ضعيف، يبدو اليمين المتطرف الحزب الوحيد الذي سيخرج منتصراً من هذه الانتخابات. وهو الحزب الوحيد الذي لم يفز بأي إقليم في الانتخابات السابقة، وحتى وإن فاز بإقليم واحد على ما تتوقع استطلاعات الرأي، سيكون هذا النصر حجر أساس ودفعة قوية لمارين لوبان لكي تنافس في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وتسعى لوبان لحصد نتائج جيدة في الانتخابات الإقليمية لتساعدها على الوصول إلى قصر الإليزيه، فهي بحاجة إلى الأقاليم لتتمكن من خوض المنافسة بقوة في الانتخابات الرئاسية. وكانت قد تحدّثت عن هذا الأمر في 9 يونيو الحالي، عندما غرّدت على "تويتر" قائلة: "نحن بحاجة إلى أن تتجه كل التجمعات الانتخابية نحو الهدف نفسه، دعماً لسياسة الدولة التي سأتبعها عندما أصبح رئيسة للجمهورية. أنا بحاجة إلى الإدارات (الأقاليم) لدعم هذه التغييرات".
سجلت الاستطلاعات الأخيرة تراجعاً حاداً لقوى اليسار
في المقابل، نال اليسار الفرنسي أسوأ النتائج في استطلاعات الرأي حول الانتخابات الإقليمية. ووفقاً لأحدث استطلاع رأي أجرته "إيبسوس" و"سوبرا ستيريا" لصالح قناة "فرانس 3"، في 9 يونيو الحالي، لن تتمكن الأحزاب اليسارية من تصدر أي إقليم، بما في ذلك الأقاليم الخمسة الحالية التي تديرها أحزاب اليسار. وتشير نتائج الاستطلاع إلى أرقام تاريخية، لم يسبق أن كانت منخفضة إلى هذه الدرجة، إذ ستنال قوائم اليسار 20 في المائة في أقاليم بروفانس آلب كوت دازور، وغران إيست، وأو دو فرانس، وأقل من 30 في المائة في إقليمي أوفيرن ـ رون ـ آلب ونورماندي، وأقل من 35 في المائة في إقليم إيل دو فرانس، في حين ستنال القوائم نحو 40 في المائة من نوايا التصويت في نوفيل أكيتين وأوكسيتاني، على الرغم من أن الإقليمين كانا تاريخياً من مناطق نفوذ اليسار العصية.
وبعد ست سنوات من الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 2015، وخسر فيها اليسار بسبب أداء الرئيس السابق فرانسوا هولاند والأزمات التي ضربت عهده، ولا سيما تلك الأمنية والهجمات الإرهابية التي وقعت في فرنسا، تشير استطلاعات الرأي إلى أن الناخبين الفرنسيين، بمختلف انتماءاتهم الحزبية، باتوا يميلون إلى الأفكار اليمينية، خصوصاً تلك المتعلقة بالأمن. في السياق، ذكر 47 في المائة من المستفتين في استطلاع أجراه معهد "أوبينيون واي" لصالح صحيفة "ليزيكو" الفرنسية، في إبريل/نيسان الماضي، أن الأمن أهم موضوع في هذه الانتخابات، على الرغم من أنه لم يكن في يوم من الأيام من صلاحيات الأقاليم، في حين حلت ملفات التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل ثانياً، والبيئة والحياة المعيشية ثالثاً.
فوز ماكرون وحزبه الوليد "الجمهورية إلى الأمام" بالانتخابات الرئاسية عام 2017، كان إحدى الركائز الأساسية في تراجع اليسار. الأمر الذي استغله الرئيس الجديد بشكل كبير، فثبّت في أذهان الناخبين اليساريين الفكرة القائلة بأن هولاند كان الخذلان الأقسى للقوى اليسارية بما طرحه من أفكار، لا سيما تلك المتعلقة بضريبة 75 في المائة على الدخل السنوي الذي يزيد عن مليون يورو، وإسقاط الجنسية الفرنسية عن المتهمين بقضايا الإرهاب، أو حتى قانون العمل. وعندما حاول الاشتراكيون، الذين قادوا قوى اليسار آنذاك، تدارك الموقف بطرح بنوا آمون كمرشح لمنافسة ماكرون كان الوقت قد فات، والناخبون أعطوا أصواتهم بالفعل إلى ماكرون عندما احتدمت المنافسة مع مارين لوبان.
يشار إلى أن الانتخابات الإقليمية ستجري بالتوازي مع انتخابات المقاطعات، التي تم تأجيلها كذلك بسبب فيروس كورونا، وسيتم بالتوازي انتخاب 95 مجلساً استشارياً للمقاطعات ستعمل مع الفائزين في الانتخابات الإقليمية. وبحسب التصنيفات الإدارية في فرنسا، تضم الأقاليم مجموعة مقاطعات، وكل مقاطعة بدورها تتألف من مجموعة بلديات، تنحصر مهامها على الإدارة والإشراف على الخدمات العامة، بالإضافة إلى تنظيم قطاع النقل والمدارس ونشاطات خدمية أخرى.