الاستعصاء الليبي يطيح يان كوبيتش: استقالة على أبواب الانتخابات

25 نوفمبر 2021
تسلّم كوبيتش مهامه خلفاً لغسان سلامة (Getty)
+ الخط -

قبل شهر من الانتخابات الليبية الرئاسية المقررة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وبعد يوم من إقفال المفوضية العليا للانتخابات في هذا البلد، باب الترشح للرئاسيات، والذي أغلق على 98 مرشحاً، لم تكن شهيّة المبعوث الأممي إلى ليبيا، السلوفاكي يان كوبيتش، مفتوحة كثيراً للبقاء في منصبه، بقدر شهية شخصيات ليبية على طرق باب الرئاسة، تطبيقاً ربما لمشيئة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بأن تكون الانتخابات المرتقبة شاملة وجامعة، ولا تستثني أحداً. وعلى الرغم من أن مقر هذا المنصب الحسّاس، من المرجح أن يُنقل من جنيف إلى طرابلس (أو تونس)، وهو أمر يبدو أن الدبلوماسي السلوفاكي لم يحبّذه كثيراً، إلا أن ذلك لا يعدو كونه النقطة التي فاضت بكأس كوبيتش، الذي لم يمض عام بعد على تسلمه منصبه لينضم إلى قائمة من المبعوثين الأمميين إلى ليبيا الذين قدموا استقالاتهم.

شغل كوبيتش المنصب في يناير الماضي، وبدأ عمله رسمياً في فبراير

وعانى معظم المبعوثين الأمميين إلى ليبيا، من معضلة هذا البلد، إبان الثورة، ومنهم من قدموا استقالاتهم، معربين عن شعورهم بالخيبة والفشل، وبالمرارة من تغذية الدول الخارجية للصراع. وتناوب على المنصب كلّ من وزير الخارجية الأردني الأسبق عبد الإله الخطيب، والدبلوماسي البريطاني إيان مارتن، والوزير اللبناني الأسبق طارق متري، والدبلوماسي الإسباني برناردينو ليون (أشرف على اتفاق الصخيرات)، والألماني مارتن كوبلر، واللبناني غسان سلامة، ثم كوبيتش.

وعيّن الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، عبد الإله الخطيب، في منصب المبعوث الأممي إلى ليبيا، في إبريل/نيسان من العام 2011، وذلك بهدف إجراء مشاورات عاجلة، فيما كانت الثورة في أوجها ضد نظام القذافي، والمعارك الدموية مندلعة بين الطرفين، لكن الأخير لم يدم سوى أربعة أشهر في منصبه، الذي كان من مهماته تولي الوساطة بين جماعة القذافي والمجلس الوطني الانتقالي السابق، وهي مهمة فشل فيها، إذ غادر منصبه في سبتمبر/أيلول من العام ذاته. وكلّف بان كي مون على أثر ذلك، البريطاني إيان مارتن (عمل أشهراً في البعثة الأممية كمبعوث خاصّ للأمم المتحدة للتخطيط في فترة ما بعد النزاع)، لتولي المهمة الشاقة. واستمر مارتن، كما كوبيتش، في منصبه أقل من عام، إذ غادره في أكتوبر/تشرين الأول 2012، بعدما تحدث باكراً عن ضرورة نزع السلاح من الثوار، من دون أن يحقق أي شيء خلال توليه منصبه. وخلف إيان مارتن، في المهمة الصعبة، اللبناني طارق متري.

وأجرى متري بالفعل، مباحثات مكثفة مع جميع الأطراف الليبيين، في عز فوضى السلاح في ليبيا، وإذ استمر في منصبه ما يقارب العامين، إلا أنه قال لاحقاً إنه غادر "حين شعرت بأن مهمتي باتت مستحيلة، وفشلت في إقناع النخب السياسية بالتسوية". وأعلنت الأمم المتحدة استقالة متري في أغسطس/آب 2014، بعدما كان قد بدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر بالتحرك في إطار ما سمّاها "عملية الكرامة" شرقي ليبيا، وبعدما فشل في صياغة إطار توافقي لما بعد المرحلة الانتقالية في ليبيا، ليخلفه الدبلوماسي الإسباني بررنادينو ليون، الذي ساهمت جهوده في التوصل إلى اتفاق الصخيرات (المغرب) الليبي في عام 2015، وعمل في وقت كانت قرقعة السلاح والاقتتال الداخلي والانقسام السياسي تطفو فوق كل شيء في ليبيا. لكن ليون، الذي اتهم بالعمل مع الإمارات، غادر منصبه، وسط سخط بعض الأفرقاء الليبيين من الاتفاق، الذي أسّس لحكومة وحدة ليبية، ظلّت تعمل من الغرب. وغادر ليون بفضيحة تفاوضه مع الإمارات لشغل منصب "أكاديمي"، حيث تسّلم من بعده في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، الألماني مارتن كوبلر، الذي فشل هو أيضاً في تطبيق اتفاق الصخيرات بالكامل، واعتماده من قبل مجلس النواب في طبرق، بسبب خلافات الأطراف المتصارعة.

وخلف كوبلر في المهمة اللبناني غسان سلامة، الذي جرى تعيينه في المنصب في يونيو/حزيران 2017. وعلى الرغم من أن سلامة نشط في إحياء حوارات بين القبائل الليبية، وفي إجراء تعديلات على اتفاق الصخيرات، إلا أن حرب حفتر على طرابلس، والتي شنّها في إبريل 2019، حالت دون التقدم السياسي، حيث غذّت الدول الخارجية الانقسام الدموي الليبي، ليعلن سلامة عن استقالته في مارس/آذار 2020، متحدثاً علناً عن "أسباب صحية". وجاءت استقالة سلامة متزامنة مع انخراط أميركي أكبر في الأزمة الليبية، في عهد الرئيس دونالد ترامب، حيث أدارت نائبة سلامة، الأميركية ستيفاني ويليامز، مهمة رئاسة البعثة بالإنابة، إلى حين تكليف كوبيتش.

وعلى الرغم من أن نائبة المبعوث السابق غسان سلامة، الأميركية ستيفاني ويليامز، قد قامت بـ"تنظيف الأرض" أمام كوبيتش قبل تسلمه مهامه، وأنجزت الكثير من رسم معالم خريطة الطريق نحو "السلام" الليبي، إلا أن الأخير، الذي اكتسب خبرة في رصد المستقبل القاتم للدول التي عمل فيها، ومنها لبنان، قد أدرك أن المرحلة الليبية المقبلة، بعد الانتخابات إذا ما حصلت، قد تكون أشد قتامة من السنوات الماضية. ودليل ذلك، ما كتبه الليبيون أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقاً على هذه الاستقالة التي جاءت مفاجئة، تعبيراً عن خشيتهم مما ينتظر بلادهم، سواء أحصلت الانتخابات أم لم تحصل.

ويختلف المتابعون للأحداث في ليبيا، حول تداعيات استقالة كوبيتش، التي تبلغها أعضاء مجلس الأمن الدولي، أول من أمس الثلاثاء، خلال اجتماع لهم في نيويورك، علماً أن كوبيتش قد سلّمها كما تحدثت مصادر مطلعة لأكثر من موقع إخباري إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، في 17 نوفمبر الحالي. ومن بين المتابعين من رأى أن الخطوة قد تؤدي إلى تأجيل الانتخابات، فيما يرى آخرون أن من شأنها أن تضعف دور الأمم المتحدة ومصداقيتها في ليبيا في ظرف بالغ الأهمية، حيث يقف هذا البلد مجدداً، أمام مفترق صعب، قد يقوده إلى المربع الأول، لجهة التناحر والاختلاف والتوتر، والذي قد ينقلب إلى عسكري.  

تقترح الأمم المتحدة البريطاني نيكولاس كاي لخلافة كوبيتش

ودفعت الأمم المتحدة، ومعها المجتمع الدولي، بثقلهما، لتنفيذ خريطة الطريق المنبثقة عن جهود ويليامز ومعها ملتقى الحوار السياسي، بالإضافة إلى مخرجات مؤتمري برلين الليبيين، والمؤتمرات التي تناوبت على التأكيد على ضرورة إجراء الانتخابات الليبية في موعدها المحدد الشهر المقبل، وهي التي أقرّ مجلس النواب الليبي منفرداً، قوانينها، على أن تجرى الانتخابات النيابية بعد الرئاسية بشهر. ولا تزال الكثير من بنود خرائط الحلّ الليبي عالقة، ومنها إخراج المرتزقة الأجانب والقوات الأجنبية من هذا البلد، كما المصالحة الليبية – الليبية.

وتجرى الانتخابات المرتقبة، من دون قاعدة دستورية يتفق حولها الليبيون (أحد إخفاقات كوبيتش الأساسية)، المختلفون أيضاً حول قانوني الانتخابات، ويعترض جزء منهم على ترشح أسماء جدلية، أبرزها اللواء المتقاعد خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي، المتهمان بارتكاب جرائم حرب.

وأكد دبلوماسي كبير، لموقع "فورين بوليسي"، أن كوبيتش تصادم مع غوتيريس حول مقاربة المنظمة الأممية للانتخابات، وهو دعم علناً القانون الانتخابي الذي تبناه برلمان ليبيا، من دون أن يؤمن دعم الأطراف الأخرى، وهي خطوة رأى بعض الخبراء أنها أضرّت بقدرة الأمم المتحدة على التحرك، ومرونتها داخل ليبيا. ورأى خبراء تحدثوا للوقع أن دعم كوبيتش لقانون البرلمان، جعل أحد أطراف الصراع الليبي، أي معسكر حفتر في الشرق، يستعيد زمام المبادرة، بعد طرد مليشيات الأخير من غربي ليبيا، فيما أعرب آخرون عن اعتقادهم بأن اختيار المنظمة لمبعوثها التالي إلى ليبيا، والذي سيحمل الرقم 8، سيكون أكثر دقة، على الرغم من أن ذلك سيكون عرضة لتناحر الدول الكبرى المعنية بالمسألة، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة. 

ولم يبلغ كوبيتش أول من أمس، أعضاء مجلس الأمن الدولي، بسبب رسمي واضح لقراره المفاجئ بالاستقالة، علماً أنه قدّم إحاطته الشهرية (وربما الأخيرة) حول الوضع الليبي أمام المجلس، أمس الأربعاء. واعتبر كوبيتش، أمس، أن ليبيا لا تزال في مرحلة هشة في طريقها نحو الانتخابات، متحدثاً عن مخاطر كثيرة. ودعا الليبيين إلى الحفاظ على المسار الانتخابي الذي تم الاتفاق عليه، والأطراف الليبية لإجراء الانتخابات في موعدها، مشدداً على أن "القيود على الحريات الأساسية قبيل الانتخابات الليبية مصدر قلق لنا". ورأى كوبيتش أنه "يجب احترام حقوق الخصوم السياسيين وتجنب العنف وخطاب الكراهية"، معتبراً أن "الشعب الليبي سيجد حلولا لمشاكله إن لم يكن هناك تدخل خارجي". وذكّر بأن "وجود المقاتلين الأجانب والمرتزقة يشكل مصدر قلق لليبيا وللدول المجاورة"، داعياً اللجنة العسكرية المشتركة إلى عقد اجتماعات أخرى في أنقرة وموسكو.

تجرى الانتخابات المرتقبة، من دون قاعدة دستورية يتفق حولها الليبيون

وكان المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوغاريك، قد اكتفى أول من أمس بالقول تعليقاً على الاستقالة، إن "كوبيتش قدّم استقالته إلى الأمين العام الذي قبلها مع الأسف"، من دون أن يعطي جواباً واضحاً بدوره حول أسباب الاستقالة، قائلاً إن هذا السؤال "يجب أن يوجه إليه (كوبيتش)". وبحسب دوغاريك، فإن الاستقالة "ربما جاءت مفاجئة للبعض لكن ليس للأمين العام"، موضحاً أن كوبيتش لن يغادر على الفور منصبه، وأن موعد ذلك لم يحدد بعد، لكنه لم يؤكد إذا كان ذلك سيحصل قبل الانتخابات أو بعدها. ورداً على خبر الاستقالة، قال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي، إنه ليس لديه أدنى فكرة عن سببها، مضيفاً "نحاول الحصول على تفسير".

وكان مجلس الأمن الدولي قد انقسم أخيراً حول مسألة إعادة تنظيم قيادة البعثة السياسية الأممية إلى ليبيا، إذ طالب عدد من أعضاء المجلس بنقل منصب الموفد من مدينة جنيف السويسرية إلى طرابلس. وأكد دبلوماسيون، أن يان كوبيتش كان متحفظًا على نقل منصبه. وجدّد مجلس الأمن لعمل بعثة الأمم المتحدة لليبيا في سبتمبر/أيلول الماضي، حتى نهاية يناير/كانون الثاني المقبل، بدلاً من التجديد المعتاد لمدة سنة، وذلك من أجل العمل خلال الأشهر المقبلة على ردم الهوة في مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن حول تفاصيل عمل ومهام بعثة الأمم المتحدة لليبيا. وجاء ذلك بعد مواجهة استمرت ثلاثة أسابيع بين موسكو، التي هدّدت باستخدام حق النقض (الفيتو)، إذا ما أقر أي تعديل خلال تجديد تفويض البعثة، ولندن، المسؤولة عن ملف تمديد تفويض البعثة. وقال دبلوماسي في تصريح لوكالة "فرانس برس"، إن "كوبيتش لم يشأ التخلي عن الراحة في سويسرا للذهاب إلى ليبيا". واعتبر دبلوماسي آخر أنه "يمكن تفهّم ذلك، فقد كان مرشّحاً لمنصب مقره جنيف، وإذ يتم تغيير المقر في منتصف الطريق".

ويتعين على أفريقيا، بعدما ضاعفت ضغوطها في العام الماضي، كي لا يتولى المنصب أوروبي، بل أفريقي، السعي لاستعادة المنصب، علماً أن الدبلوماسي من زيمبابوي، ريزدون زينينغا، يشغل حالياً منصب الأمين العام المساعد لكوبيتش، ومنسق بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. وأكد دوغاريك أن البحث جارٍ حالياً عن بديل لكوبيتش، مضيفاً أن الأمم المتحدة "تعي تماماً أن الانتخابات الليبية على الأبواب". وقال: "أود لفت الانتباه إلى أن لدينا وجوداً قوياً على الأرض في ليبيا وسيواصل جميع زملائنا، كما فعلوا بالماضي، العمل مع المؤسسات الليبية في ضوء الانتخابات المقبلة ناهيك عن التحديات الإنسانية التي يواجهها الشعب الليبي. كما أن هناك فريقاً فنياً يواصل العمل وتقديم الدعم للسلطات الليبية ولجنة الانتخابات". وتابع: "نعمل على وجه السرعة لملء المنصب لضمان الاستمرارية". ونقلت وكالة "رويترز" عن دبلوماسيين دون الكشف عن أسمائهم، إن الأمم المتحدة تقترح بشكل غير رسمي تعيين الدبلوماسي البريطاني نيكولاس كاي، خلفاً لوكبيتش، علماً أن مجلس الأمن الدولي المؤلف من 15 دولة، والذي يعمل بالإجماع، يجب أن يوافق على تعيين مبعوث جديد.

وكوبيتش (69 عاماً) وزير سابق للخارجية السلوفاكية، كما شغل سابقاً منصب موفد الأمم المتحدة إلى لبنان، وتولى مهامه كممثل خاص للأمم المتحدة في ليبيا في 28 يناير الماضي خلفاً لغسان سلامة الذي كان استقال قبل ذلك بـ10 أشهر. وكان غوتيريس قد رشّح البلغاري نيكولاي ملادينوف، لتولي المنصب بعد سلامة، لكن الأخير اعتذر. وكانت الولايات المتحدة قد أعاقت في الأمم المتحدة تعيين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض في هذا المنصب، كما كان لدول عدة دور في عدم تسمية وزير الخارجية الجزائري الحالي رمطان لعمامرة.

وتعليقاً على استقالة كوبيتش، رأى المحلل السياسي الليبي مروان ذويب، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الأخير تسلم مهامه في وقت ليبي حرج وحسّاس، كما أثبت الواقع خلال الأشهر الماضية، لافتاً إلى أن الصعوبات التي واجهت كوبيتش "تمثلت في عدم قدرته على توجيه الأوضاع وفقاً لبوصلة خريطة الطريق الأممية، نحو المراحل المحددة للوصول للانتخابات". وبحسب ذويب، فإن إعلان كوبيتش فشل ملتقى الحوار السياسي في إنجاز قاعدة دستورية للانتخابات "مثّل أول مؤشر على بداية ارتباك عمله"، معتبراً أن "الخطأ الذي مهّد لفشله واستقالته، هو تفريغ ملتقى الحوار من قوته وإرجاع مهمة إنجاز الإطار الدستوري للانتخابات إلى الأطراف المختلفة، وعلى رأسها مجلسا النواب والدولة".

ولا يمكن القول إن البعثة الأممية في ليبيا بعيدة عن تأثير المتنافسين الخارجيين في الملف الليبي، خصوصاً مع الانخراط الأميركي الكبير في مواجهة التوغل الروسي العسكري في ليبيا، مضافا إليها التوتر والخلافات بين تركيا ودول أوروبية. ورأى الباحث الليبي مصطفى البرق في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "ارتفاع مستوى الاستقطاب في الملف الليبي كان من الأسباب المباشرة لاستقالة كوبيتش"، مرجحاً أن تكون واشنطن هي من دفعته إلى الاستقالة بسبب ضعفه عن مواصلة ما حققته ستيفاني ويليامز. وتداولت وسائل إعلام ليبية، أمس، أنباء عن إمكانية عودة ويليامز لشغل المنصب، لكن البرق استبعد ذلك بسبب الفيتو الروسي.

المساهمون