قبل اثني عشر عاماً، شهدت بريطانيا الظهور العلني الأول لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية "أم آي 6" (MI6) المعادل البريطاني لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
كتبت صحيفة "ذا غارديان" وقتها، أن عالم الاستخبارات الغامض على وشك أن يشهد انفتاحاً وصفته بـ"التاريخي". ولإبراز أهمية الحدث، تابعت الصحيفة مجريات الخطاب الذي أدلى به رئيس جهاز الاستخبارات حينها جون سويرز مباشرة دقيقة بدقيقة.
وعلى ما يبدو، لم يكن فحوى الخطاب الذي ألقاه رئيس جهاز الاستخبارات أو "C" كما يشار إليه باختصار، هو الحدث الأبرز، بل خروج الجهاز من الظلّ للمرة الأولى في تاريخ المؤسسة، وهو ما أضاءت عليه لاحقاً كل الصحف البريطانية. تحدث "C" عن دور جهاز الاستخبارات في حماية البريطانيين وعن أهمية الشفافية خلال القيام بتلك المهمة.
تحدث أيضاً عن دور الاستخبارات في مواجهة إيران لوقف الانتشار النووي، إذ إن الدبلوماسية وحدها لا تكفي بحسب رأيه. وختم بالقول إن "على المؤسسات التي تعمل بالسر، أن تحافظ على سريتها حتى وإن تحدثت علناً من حين إلى آخر كما فعلتُ أنا اليوم"، مضيفاً أن "السرية ليست مفردة قذرة. إنها تلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على أمن وسلامة بريطانيا".
الغزو الروسي لأوكرانيا يغيّر المعادلة
إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، غيّر المعادلة تماماً، وأخرج تلك "السرية" إلى العلن. وباتت المعلومات التي تنقلها وزارة الدفاع عن جهاز الاستخبارات بشكل يومي، تلعب دوراً "حاسماً"، ليس فقط في الحفاظ على أمن وسلامة بريطانيا، بل أيضاً في تغذية قدرات الجيش الأوكراني على المواجهة والمقاومة.
يقول خبير عسكري بريطاني متابع لعمل أجهزة الاستخبارات، لـ"العربي الجديد"، إن "المعلومات التي كان يتعمّد جهاز الاستخبارات البريطاني تسريبها، ساعدت في تفوق الأداء العسكري الأوكراني، إلى جانب دحض التحليلات القائلة إن الجيش الروسي سينتصر في غضون أسابيع قليلة إن لم نقل خلال أيام". وشكّلت تلك الإفادات العلنية "انتصاراً" كما يصفه بعض المختصين بـ"حرب المعلومات" التي عُرف فيها الكرملين تقليدياً بخبرته وتفوقه.
خبير عسكري: المعلومات التي يتعمّد جهاز الاستخبارات البريطاني تسريبها، ساعدت في تفوق الأداء الأوكراني
بعد منتصف فبراير هذا العام، بدأت وزارة الدفاع البريطانية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة معلومات عسكرية عن صراع خارجي، في سابقة هي الأولى من نوعها. بدأ ضخّ المعلومات في 17 فبراير تحديداً، متيحاً تفاصيل عن العمليات التي يقوم بها الجانب الروسي أكثر بكثير مما يسرّبه عن تحرّكات الجانب الأوكراني.
ويقول الخبير العسكري البريطاني لـ"العربي الجديد"، إن "المعلومات التي كانت تشاركها وزارة الدفاع البريطانية كبيانات صحافية، أعطت حيثيات سير العمليات. عادةً، وزارة الدفاع تنشر بيانات تخصّ نشاطاتها اليومية، إلا أن البيانات التي نشرتها وزارة الدفاع مع بداية الغزو كانت حول نشاطات روسيا اليومية "To Name and Shame". هذا المصطلح الإنكليزي يقال عندما تتم الإشارة علناً للأخطاء التي ترتكبها جهة ما، والهدف من تلك الإشارة حشد الرأي العام ضد سلوك معيّن بهدف إحباطه.
تحوّل في عمل الاستخبارات البريطانية
وكان رئيس وكالة الأمن السيبراني البريطانية جيريمي فليمينغ قد قال في خطاب له نُشر على موقع الوكالة أواخر مارس/آذار الماضي، "إن الاستخبارات أفرجت عن معلوماتها بسرعة بعد منتصف فبراير لتسبق ما يمكن لـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين أن يقوم به. انطلاقاً من تحذيرات الحرب إلى المعلومات الاستخباراتية عن العلم الكاذب المصمّم لتقديم فرضية زائفة للغزو، وصولاً إلى الادعاء الروسي الكاذب باستخدام أوكرانيا أسلحة كيميائية محظورة".
وإن تعدّدت أسباب اتخاذ هذه الخطوة، إلا أنها تمثّل بكل تأكيد تحوّلاً جذرياً في طريقة عمل الاستخبارات البريطانية. بعض المحلّلين الغربيين يرى أن بريطانيا أملت من هذا النهج الجديد إيقاف الحرب التي سبق أن حذّرت منها قبل أشهر طويلة عبر إحراج الجانب الروسي بكمية المعلومات الدقيقة المتوفّرة لديها، وأيضاً عبر حشد الدول الغربية وتمهيد الطريق أمام اتخاذها إجراءات وعقوبات أشدّ إيلاماً مما لو كانت الصورة مشوشة حول حقيقة ما يجري.
إلا أن هذه الآلية لم توقف الغزو الروسي، مع أن بوادره بدأت قبل نحو عام مع حشد موسكو قواتها بالقرب من أوكرانيا، بحسب ما أظهرته صور الأقمار الصناعية لأجهزة الاستخبارات. فالدول الغربية كألمانيا وفرنسا وغيرها قلّلت من أهمية وجدية تلك المعلومات "السرّية"، كل دولة حسب مصالحها السياسية والاقتصادية، وبالتالي لم تكوّن صورة واضحة ودقيقة حول نوايا بوتين.
ولا يمكن إغفال الخطوة "الشجاعة" التي اتّخذتها ألمانيا بداية الغزو عبر إرسالها 5000 خوذة إلى أوكرانيا، دعماً منها لكييف وأيضاً حرصاً على تدفق الغاز الروسي. أما فرنسا فأقدمت لاحقاً على إقالة رئيس المخابرات العسكرية الجنرال إريك فيدو بعد 7 أشهر فقط من تعيينه، لفشله في تقدير ما كان مخططاً له.
وكان رئيس أركان الجيش الفرنسي الجنرال تييري بوركار قد أقرّ لصحيفة "لوموند" بوجود اختلافات جوهرية في التحليل بين الفرنسيين والأميركيين حول الهجوم الروسي على أوكرانيا. فبالنسبة للفرنسيين والألمان، كان الهجوم محتملاً. أما بالنسبة للبريطانيين والأميركيين، فكان مرتقباً.
انفتاح الاستخبارات البريطانية على الجمهور
لطالما كان جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، شأناً مشتركاً بين الولايات المتحدة وبريطانيا. إلا أن البريطانيين يتّسمون تاريخياً بالسرّية في ما يتعلق بالنشاط الاستخباراتي أكثر بكثير من نظرائهم الأميركيين، ما جعل مشاركتهم المعلومات تجربة جديدة وتحدياً صعباً وصفه كثيرون بالتحول الثقافي الكبير.
ولم تعترف الحكومة رسمياً بوجود جهاز "أم آي 6" إلا بعد أكثر من ثمانين عاماً على تأسيسه في العام 1909. وحتى هذه اللحظة، لا تُعرف هوية أي عنصر عامل في المؤسسة باستثناء رئيسها وهو حالياً ريتشارد مور الذي تخلّى عن شغفه الأول في أن يكون صحافياً بعدما رفضت "بي بي سي وورلد" توظيفه من دون حتى أن تجري مقابلة معه، على حدّ تعبيره.
تنتقل الاستخبارات البريطانية بشكل تدريجي نحو دور أكثر انفتاحاً على الجمهور الأوسع
تنتقل الاستخبارات إذاً بشكل تدريجي نحو دور أكثر انفتاحاً على الجمهور الأوسع، وتطوّر طرق تفكيرها حول كيفية إدارة هذا التفاعل، مستخدمة أكثر الوسائل عصرية في الوقت الراهن (وسائل التواصل الاجتماعي).
هذا "العالم الافتراضي" المليء بالمحللين غير المتردّدين في التعليق كل لحظة على صور الأقمار الصناعية أو على مقاطع الفيديو المتاحة على جميع المنصّات الرقمية، يمثّل تحدياً أمام أجهزة الاستخبارات من جهة، والمؤسسات الرسمية من جهة أخرى. تلك التي لم تعد تمتلك خيار "السريّة" أو الصمت النسبي؛ إذ إن مساحة المعلومات الشاسعة اليوم باتت من المجالات التي تتطلّب ممن يريد أن يحدث تغييراً أن يتنافس عليها ويؤثّر على الرأي العام عبرها.
وفي حين كان أول خطاب علني لرئيس جهاز الاستخبارات البريطانية عام 2020، بات الرجل المكلّف بهذا المنصب اليوم نشيطاً على وسائل التواصل. لا بل إن انشغاله بالتقارير والمعلومات المتعلقة بالغزو الروسي المرتقب، لم يمنعه في الخامس من فبراير من التغريد مازحاً على صفحة وكالة الأمن السيبراني البريطانية التي شاركت على حسابها الكلمة اليومية في لعبة "ووردل" الشهيرة. كتب مور مازحاً: "أفكّر جدياً بإلغاء متابعتي للحسابات التي تنشر حلول "ووردل" اليومية".
عملية رفع السرّية تلك والإفراج عن المعلومات الاستخباراتية ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن تتم قبل تدريب طويل وتدريجي وصارم، إضافة إلى مرورها بعملية تقييم رسمية.
وكان لا بدّ لهذه الخطوة أن تستفيد من تجارب الغزو الأميركي على العراق بعدما تسبّبت المعلومات الخاطئة أو غير الدقيقة حول امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، في "تشويه" سمعة الاستخبارات الأميركية والبريطانية معاً. بعد ما يقارب العقدين من الزمن، لن تتورّط هذه الأجهزة في نشر معلومات مرتجلة وعشوائية قد تؤدي إلى مزيد من الفوضى.
كما أن بريطانيا استفادت من أزمة أوكرانيا 2014 واستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، في حين كان حلف شمال الأطلسي "نائماً". إضافة إلى الانسحاب "الفوضوي" من أفغانستان وغياب أي تقرير عن احتمال استلام حركة "طالبان" للسلطة. هذا عدا عن هجوم سالزبري الذي اتُهمت الاستخبارات الروسية بتنفيذه في مارس/آذار 2018، مستخدمة غاز الأعصاب لتسميم عميل "أم آي 6" المزعوم سيرغي سكريبال، وابنته.
غزو أوكرانيا فرصة لتبييض صورة الاستخبارات
كل تلك الأحداث دفعت بريطانيا لاستثمار المعلومات المسرّبة من جهاز استخباراتها لحياكة سردية تواجه عبرها بوتين. بمعنى آخر، كانت أوكرانيا فرصة ذهبية لتغيير سمعة "غير طيبة" لاحقت أجهزة الاستخبارات لزمن طويل، ما استثمره رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون لـ"إنقاذ" نفسه من الأزمات المتتالية.
كانت أوكرانيا فرصة ذهبية لتغيير سمعة "غير طيبة" لاحقت أجهزة الاستخبارات لزمن طويل
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان إحدى تلك الأزمات، والمعلومات المسرّبة بشكل علني ساعدت جونسون على لملمة صورته على الساحة الأوروبية على الرغم من "بريكست".
هذا النهج الجديد اعتبره البعض "انتصاراً" لبريطانيا والولايات المتحدة في حرب المعلومات التي برعت فيها روسيا تقليدياً، ليبدو أيضاً أن الجانب الاستخباراتي الروسي أقل دراية بما يجري وأقل معرفة وتقديراً بحجم المعلومات المتوفرة لدى الجانبين البريطاني والأميركي. ولا يعود ذلك لتفوق تلك الاستخبارات فقط، بل أيضاً لأن جهاز الاستخبارات الروسي لا يخبر بوتين بحسب خبراء إلا بما يريد ويحب سماعه. وبالتالي هو لم يكن يحصل على الصورة كاملة من مسؤوليه.
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز زار موسكو بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحذّر المسؤولين الروس من أن واشنطن تعرف ما هو مخطط له. بعض المسؤولين الروس قالوا إنهم علموا بنيّة بلادهم غزو أوكرانيا من بيرنز.
بدت خطة بوتين العسكرية الأولية بحسب بعض مسؤولي الاستخبارات الغربيين وكأنها من صنع ضابط في المخابرات السوفييتية، إلا أن بوتين هو صانع القرار الوحيد وكل الدراسات تشير إلى أن حلقة الثقة حوله تضيق يوماً بعد يوم. وحين لم يكن دور الاستخبارات مقتصراً على جمع المعلومات ونشرها فحسب، بل تحليلها أيضاً وفكفكة رموزها لاستقراء مستقبل الأحداث، تعيّن على أجهزة الاستخبارات التسلل إلى رأس بوتين والتقاط أفكاره لفهم نواياه وما هي خططه المقبلة، ما شكّل تحدّياً استخباراتياً صعباً.
وحتى إن لم تساهم تلك التسريبات العلنية في وقف العدوان الروسي على أوكرانيا، إلا أنها ساهمت بحسب الاستخبارات البريطانية والأميركية في حرمان موسكو من قدرتها على تبرير الغزو أمام شعبها (قبل أن يفرض الكرملين قيوداً على محتوى وسائل التواصل داخل البلاد)، وأمام الرأي العام الغربي.
تحالف العيون الخمس الاستخباراتي، والذي يضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، حشد جهوده لدحض مبرّرات بوتين للغزو عبر المعلومات التي وفّرها. ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عن كير جايلز، كبير الزملاء الاستشاريين في مركز الأبحاث "تشاتام هاوس"، قوله إن الدول الناطقة بالإنكليزية تجمّعت ضد الأوروبيين، في إشارة إلى ألمانيا وفرنسا.
وبحسب جايلز، فإن المقارنة بين نهج قادة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، الذين لم يتوقفوا منذ عام عن التحذير من استعدادات الجيش الروسي، وبين نهج نظرائهم الفرنسيين الذين لم يتنبؤوا بدقة، تفسّر الكثير.
ومع أهمية هذا النهج الجديد في التعامل مع سرية المعلومات وفي خلق طرق تفاعلية مع الجمهور الأوسع، إلا أن الأمر لا يخلو بحسب خبراء من مخاطر قد تكون جسيمة. الكشف عن معلومات استخباراتية قد يؤدي إلى الكشف عن مصادرها وعن الأساليب المستخدمة للحصول عليها. وأيضاً قد يساهم في تضرّر سمعة تلك الأجهزة من جديد، كما حدث بعد غزو العراق عام 2003.
وإذا كانت نوايا أجهزة الاستخبارات تصبّ في المصلحة العامة عبر "فضح النوايا الروسية"، فإنها قد تكون محرجة إن أخطأت، خصوصاً أن الجانب الروسي يتحيّن الفرصة لاستغلال سوء تقدير تلك الأجهزة والاستثمار في أي زلّة قد تصدر عنها.
وسبق لمسؤولين في الكرملين أن عبّروا في وقت مضى عن ابتهاجهم بعدما أخطأت تسريبات الاستخبارات الأميركية حول غزو أوكرانيا في 16 فبراير. فدعت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وسائل الإعلام الغربية إلى "نشر الجدول الزمني لغزواتنا القادمة لهذا العام"، حتى تتمكن من التخطيط لعطلاتها.