الاحتجاجات المصرية: لهذه الأسباب يعاقب الريف نظام السيسي

27 سبتمبر 2020
يصعب على ملايين المصريين سداد مبالغ التصالح (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

يواجه النظام المصري لحظة عصيبة، مع ارتفاع حدّة الاحتجاجات الشعبية ضده وضدّ الرئيس عبد الفتاح السيسي أول من أمس الجمعة، واتساع نطاقها لتشمل مناطق ريفية عديدة من قرى ونجوع (تجمعات سكانية) وعزب في ثماني محافظات هي الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط والأقصر وأسوان ودمياط والمنوفية، وسقوط أول قتيل في الأحداث من قرية البليدة في مركز العياط بالجيزة. وأصبح الخطر كامناً في أكثر من 4700 قرية مصرية، تستحيل السيطرة عليها جميعها في وقت واحد، وكان السيسي قد هدّد قبل شهر تقريباً بنزول الجيش إليها لضبط مخالفات البناء وهدم منازل المواطنين التي تزعم الحكومة أنها منشأة على أراضي الدولة، وجهات الولاية كالأوقاف، والجيش.

يقول متابعون إن السيسي لم يفهم قواعد اللعبة في الريف المصري

وللمرة الأولى منذ عقود، يبدأ حراك شعبي في مصر من المناطق الريفية، التي كانت في معظم الأحداث توصف من قبل قوى سياسية عديدة، ولا سيما ممن شاركت في ثورة 25 يناير 2011، بأنها تتسم بالصمت والانتظار والميل إلى الاستقرار وموالاة النظام الحاكم. حتى إن الاستثناءات المعدودة التي ظهرت في الحراك الشعبي المعارض لانقلاب يوليو/ تموز 2013، اقتصرت على بعض قرى الجيزة، والمنيا، وأسيوط، ذات الحضور الإسلامي القوي. قبل ذلك، كانت المناطق الريفية ذات حضور محدود في الاحتجاجات الشعبية في آخر سنوات عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث كان الحراك مقتصراً على بعض المدن ذات الطابع الحضري والعُمّالي كالقاهرة والمحلة والسويس والإسكندرية. وعزت القوى السياسية والمراقبون آنذاك ذلك، إلى تكريس نظام مبارك تحالفات مصلحة متبادلة طويلة الأجل بين القيادات الشعبية والقبلية في القرى والنجوع، وبين الداخلية والقيادات الإقليمية للحزب الوطني الحاكم آنذاك، وتمكنه من السيطرة على العائلات الريفية الكبرى من خلال مجاملتها بعضويات مجلسي الشعب والشورى بالتبادل فيما بينها. وحصل ذلك في مقابل السيطرة المبكرة على المشاكل المحلية التي قد تثير الاضطرابات، ومساعدة الداخلية على التدخل في الوقت المناسب قبل تفاقم الأوضاع.

أما السيسي، فيقول متابعون إنه لم يفهم قواعد اللعبة في الريف المصري، كذلك إن افتقاره إلى الخبرات السياسية وإصراره على نهج البطش والإجبار جعلاه يهمل تماماً الاستماع إلى مطالب فئات عديدة ومظالمها. بل إن السيسي جعل من نفسه أول رئيس مصري لا يزور قرية أو منطقة ريفية حقيقية، فمعظم المشروعات يفتتحها عن بُعد بحضور رجاله، أما أكثر المناطق التي زارها "ريفيةً"، فهي "قرى ومزارع نموذجية" من تصميم الجيش وصنعه، ولا تربطها بالريف المصري الحقيقي صلة. وانعكست هذه الخلفيات بتجاهل معاناة البسطاء، فتبنّى الرئيس المصري المزيد من سياسات الإفقار التي تضرر منها الريف المصري، من زيادة في أسعار الخدمات والمرافق والاحتياجات الزراعية، وقرارات بوقف زراعة العديد من الأصناف، وتخفيض أسعار توريد المحاصيل، التي بلغت ذروتها بتفجير ملف مخالفات البناء هذا العام. فقد أصبحت كل قرية قائمة على فوهة بركان، وكل نجع يشكل تهديداً لاستقرار النظام، ليس فقط بسبب المطالبة بسداد المخالفات ومحاسبة المواطنين على تقاعس المحليات وسوء إدارتها وفسادها قبل السيسي وفي عهده، بل أيضاً بسبب قرار وقف البناء على مستوى الجمهورية، الذي كانت له انعكاسات خطيرة اقتصادياً واجتماعياً.

فعلى صعيد مخالفات البناء، وجد ملايين المصريين في الريف أنفسهم مطالبين بسداد مبالغ تراوح بين 10 آلاف (نحو 633 دولاراً) ومائة ألف جنيه للتصالح في مخالفات البناء على الأراضي الزراعية، ترتبط بمنازل ومخازن وحظائر أقاموها منذ سنوات طويلة، ورخصوها ومدّوا إليها المرافق بموافقة المحليات، واستوفوا شروط توثيقها وإشهارها، وأجريت العديد من التصرفات عليها. وبحسب مواطنين منخرطين في عمليات التصالح في مناطق ريفية بالمنيا والقليوبية والدقهلية، فإن إجراءات التقدم والسداد المعقدة والمرتبكة، لا تمكّن جميع المواطنين من المطالبة والسداد، فضلاً عن ضخامة المبالغ المالية بالنسبة إلى السواد الأعظم منهم. كما كشفوا عن أن التخفيض الذي أعلن عنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أخيراً للمناطق الريفية تحديدا بتوحيد سعر التصالح للمتر بالحد الأدنى المقرر في القانون وهو خمسون جنيها، لن يكون ذا أثر كبير، بسبب كبر مساحة المنشآت محل التصالح، وتعدد المخالفات.

تعرضت مناطق عدة للإهمال في التمثيل بمجلسي النواب والشيوخ

فضلاً عن ذلك، فجّر هذا الملف العديد من النزاعات التي كانت قائمة منذ عقود بين المواطنين وجهات حكومية، على رأسها هيئة الأوقاف، التي تطالب حالياً بطرد الآلاف من السكان وتهدد بسحب التراخيص الصادرة لهم، في قرى مراكز أطفيح والعياط والصف بالجيزة تحديداً. كذلك إن المعاينات المكانية للمناطق الريفية، تثبت أن البناء على الأراضي الزراعية المملوكة للمواطنين، وتحويل العديد من قطع الأرض من الزراعة إلى السكن في السنوات الـ20 الأخيرة، تمّ بسبب توسع المناطق الحضرية بسبب ترك المزارعين لأعمالهم وانخفاض الحصيلة المالية للملكيات الزراعية، وموافقة المحليات على الإدخال المطرد للأراضي الزراعية في حيّز البناء. كذلك فإن هناك سبباً جوهرياً آخر يتمثل بغياب مشروعات الإسكان الاجتماعي المخصص للبسطاء في المناطق الريفية ومراكز المحافظات، وتركزها في المدن الجديدة.

أما على صعيد تأثير قرار السيسي بوقف البناء، فقد ترك ظلالاً سوداء على قرى محافظة الجيزة، وتحديداً في مراكز أطفيح والصف والعياط، التي يتركز فيها 650 مصنعاً لإنتاج الطوب، بما يمثل 65 بالمائة من الإنتاج المحلي. هذه المصانع توقفت النسبة العظمى منها عن العمل، فأورثت للقرى البطالة وانخفاض الدخول، بسبب وقف الإنشاءات وعدم اعتماد مشروعات الجيش والحكومة على إنتاج تلك المصانع.  ولم تستجب الحكومة لمطالبات أصحاب المصانع والمواطنين المستمرة منذ ثلاثة أشهر، إلا أمس الأول فقط بالتزامن مع ارتفاع حدة الاحتجاجات الشعبية، إذ أصدر محافظ الجيزة بيانا في محاولة لتهدئة الأوضاع واحتواء غضب الأهالي، بإعلانه عمل الحكومة على توريد إنتاج مصانع الطوب بالصف وأطفيح بصفة دورية لاستخدامها فى المشروعات الحكومية الجارى تنفيذها لحين الانتهاء من المعايير المنظمة لأعمال البناء والتشيد خلال الفترة المقبلة واستعاده عجلة الإنتاج والتوريد بصورتها الطبي

وتحتل تلك الأسباب المرتبطة بالحاجيات الأساسية للمواطنين البسطاء، صدارة خلفيات الحراك، لكن لا يمكن تجاهل مسائل أخرى، منها إهمال مناطق عديدة في التمثيل بمجلسي النواب والشيوخ المقبلين. وكشفت مصادر سياسية في حزب "مستقبل وطن" عن موجة واسعة من الانشقاقات الفردية والجماعية في محافظات الغربية والجيزة والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، بسبب عدم ترشيح ممثلين لمجموعة كبيرة من العائلات الشهيرة، وعدم تمثيل بعض القرى الكبيرة، والدفع بأكثر من مرشح من مركز واحد في العديد من المحافظات، وذلك بسبب تراكب تقسيم الدوائر الانتخابية، مع تقسيم المقاعد ومحاصصتها بين الاستخبارات العامة والأمن الوطني، واعتماد كل من المجلسين على معايير مختلفة في الاختيار. وما زاد الطين بلّة، ترشيح 26 عضواً عمّا يُسمى "تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين" التابعة للاستخبارات، على قوائم إقليمية كممثلين لمحافظات ومناطق بعضهم لا ينتمون إليها، وبعضهم لا صلة لهم بها إلا بمحل الميلاد.

وفي خطوة دعائية، أعلن حزب "مستقبل وطن" التابع للاستخبارات العامة والأمن الوطني، ورأس القائمة الموحدة في مجلسي النواب والشيوخ، أول من أمس، أنه سيتحمل نفقات التصالح في 27 ألف حالة مخالفة لقواعد البناء، لمحدودي الدخل في جميع المحافظات، وأعلنت المبادرة الحكومية "حياة كريمة" تخصيص 150 مليون جنيه للإنفاق على حالات التصالح للفقراء في جميع المحافظات.

إلى ذلك، ومن مجموع معلومات من مصادر حقوقية مختلفة، رصدت "العربي الجديد" أن الأعداد التي عرضت حتى مساء أمس على ذمة القضية 880 لسنة 2020 (الخاصة بأحداث 20 سبتمبر الحالي) على نيابة أمن الدولة العليا، تجاوزت 380 شخصاً، صدرت قرارات بحبسهم على ذمة التحقيقات، عدا 6 أطفال من منطقة النوبة بأسوان أُخليَ سبيلهم واستمرّ حبس المتظاهرين الآخرين الذين كانوا برفقتهم، بينما لا تزال هناك أعداد غير معروفة، تقول المصادر إنها تزيد على 200 معتقل في أماكن مختلفة.

 

المساهمون