تعيش مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمالي سورية حالة من العطالة الإدارية، بسبب تعدد السلطات الحاكمة وغياب المرجعية القانونية الناظمة لعملها، فضلاً عن ضعف التمويل وعدم ديمومته أو استقراره، ما يصعب عملية وضع خطط تنموية وخدمية متوسطة وطويلة الأجل. وإضافة إلى الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني المعارض، تعد المجالس المحلية أبرز الأدوات للحكم المحلي، والتي يفترض نظرياً أنها تتبع للحكومة المؤقتة، فضلاً عن منظمات ومؤسسات أخرى تعمل بشكل مستقل وتتلقى دعماً من جهات خارجية، مثل منظمة "الدفاع المدني السوري" أو (الخوذ البيضاء).
تشكيل المجالس المحلية شمالي سورية
والواقع أن المحاولات الأولى لإدارة المجتمعات المحلية الخارجة عن سيطرة النظام السوري نشأت مباشرة بعد قيام الثورة السورية في عام 2011، إذ حاول النشطاء في كل منطقة تخرج عن سيطرة النظام إدارة هذه المناطق عبر مبادرات فردية، ثم نشأت إدارات أهلية، شكّلت نواة للمجالس المحلية التي قامت بإدارة هذه المناطق في ما بعد.
وظهرت الحاجة لاحقاً إلى تنظيم عمل هذه المجالس وخضوعها لأنظمة وضوابط معينة، وهو ما حاولت الوصول إليه تجارب الشمال السوري، وخصوصاً عبر الحكومة السورية المؤقتة التي تشكلت في مارس/ آذار 2013.
شكّلت الإدارات الأهلية ما بعد الثورة نواة للمجالس المحلية التي قامت بإدارة مناطق سيطرة المعارضة في ما بعد
يقول ناشطون إن تشكيل المجالس المحلية في ريفي حلب الشمالي والشرقي على سبيل المثال، يتم بناءً على الاختيار والتوافق على الشخصيات المرشحة لعضوية المجلس. وبحسب هؤلاء، يجب أن يحصل المرشحون على رضى الفصائل العسكرية ومجلس الأعيان والوجهاء، بينما تشرف على إدارتها الولايات التركية ويتم رفعها عبر المنسقين الأتراك والموافقة عليهم بعد إجراء دراسات أمنية حولهم.
كما يعتمد تشكيل المجالس على المحاصصة في توزيع مقاعد العضوية بين العائلات من السكان الأصليين في مختلف المدن، وذلك وفقاً لعدد من الشروط والمحددات التي تخول العائلة ترشيح مندوب عنها في المجلس المحلي، وخصوصاً عدد أفراد العائلة في كل مدينة، وليس وفق مقاييس الخبرة والكفاءة. يضاف الى ذلك تأثير الفصائل العسكرية المسيطرة والتي لها رأي وازن في ترشيح الأعضاء أو وضع فيتو على بعضهم.
أما في عفرين (ريف حلب)، فتتم مراعاة جميع المكونات من العرب والأكراد، وكلهم يشتركون في إدارة المجلس المحلي. ويلفت متابعون إلى الاختلاط الحاصل في عمل هذه المجالس وعلاقتها مع الحكومة المؤقتة ومع الجانب التركي، بحيث لا تبدو واضحة مرجعيتها القانونية والسياسية.
ويقول المحامي أحمد مزنوق لـ"العربي الجديد"، إن مناطق ريف حلب الشمالي تعاني من ضعف كبير في الحوكمة ولا دور يذكر للحكومة السورية المؤقتة فيها، حيث معظم المجالس، إن لم نقل جميعها، تتبع مباشرة للولايات التركية، أو ما يعرف بالمنسق التركي.
ويلفت مزنوق إلى أن هذا المنسق "إضافة للوالي التركي، هما صاحبا القرار في كل مدينة أو قرية، بغياب أي جهة رقابية على عمل هذه المجالس، وغياب أدنى درجات الشفافية والمساءلة لأي رئيس مجلس أو عضو، فيما لا سلطة مباشرة للحكومة على هذه المجالس". ويشرح أن كل هذه الأمور "أدّت إلى فشل المجالس المحلية، وعدم تقديمها الخدمات المثلى للمواطن"، وفق رأيه.
وفي هذا الإطار، يشير مزنوق إلى أن "أغلب الجهات الخدمية تتبع للمجالس المحلية، لكنها في الأصل جزء من الحكومة المؤقتة التي لا دور لها فعلياً على أرض الواقع". ويشرح أن "مديرية المواصلات مثلاً يجب أن تتبع لوزارة النقل، وملف التعليم لوزارة التربية، والأمن لوزارة الداخلية، كل ذلك شتّت عمل المجالس المحلية وحوّلها إلى مجالس حكومية وليس مجالس محلية خدمية، وهو ما أدى إلى تشتت الأدوار وعدم توزيع المسؤوليات عبر هياكل تنظيمية إدارية تحقق المطلوب منها".
خدمات الحكومة المؤقتة ومشاريعها
وبالنسبة للحكومة المؤقتة، يقول وزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة عبد الحكيم المصري، لـ"العربي الجديد"، إنه "بالنسبة للتعيينات في الحكومة، فإنها تجري عن طريق رابط أو مسابقة بموافقة رئيس الحكومة". أما تمويل الحكومة، فيتم، وفق شرحه، فقط عن طريق موارد المعابر الخارجية، وليس لديها أي موارد أخرى، مشيراً إلى أن "واردات المعابر تتوزع بنسب معينة على جهات عدة، بينها الفصائل والمجالس المحلية، إضافة إلى الحكومة التي تبلغ حصتها 15 في المائة فقط من إيرادات المعابر".
معظم المجالس المحلية تتبع مباشرة للولايات التركية، أو ما يعرف بالمنسق التركي
وحول الخدمات والمشاريع التي تقدمها الحكومة المؤقتة للمدنيين في الشمال السوري، يقول المصري إنه بالنسبة لوزارته، فإن مؤسسة الحبوب التابعة للوزارة ما زالت حتى الآن تقدم الخبز المدعوم للمواطنين بليرتين تركيتين للربطة بوزن 1200 غرام، وهذه سعرها في السوق الحرة حوالي 15 ليرة تركية (نصف دولار)، فضلاً عن أننا نشتري القمح والحبوب الأخرى من الفلاحين بسعر تشجيعي بلغ هذا العام 330 دولاراً للطن الواحد من القمح".
ويشير المصري إلى وجود تعاون بين الحكومة وغرف التجارة والصناعة، حيث هناك العديد من المناطق الصناعية والاستثمارات المشتركة. ويلفت إلى أن لدى الوزارات مثل الزراعة والإدارة المحلية، العديد من المشاريع الأخرى.
الحكومة المؤقتة ومعايير أنقرة
غير أن الناشط الإعلامي عبد القادر أبو يوسف، الموجود في مدينة أعزاز، يرى أن أداء الحكومة المؤقتة على الأرض ما زال ضعيفاً ودون احتياجات السكان. ويقول أبو يوسف، لـ"العربي الجديد"، إن أداء الحكومة المؤقتة بشكل عام ضعيف، بسبب عدم تلقيها دعماً حقيقياً لا من المؤسسات الدولية ولا من الحكومة التركية، لا سيما في ظلّ عدم ثقة المنظمات الدولية بهذه الحكومة.
لا تتلقى الحكومة المؤقتة دعماً حقيقياً لا من المؤسسات الدولية، ولا من الحكومة التركية
ويضيف أبو يوسف أنه "حتى المجالس المحلية لا تنسق مع الحكومة والمجالس، ولا يعدو الأمر كونه زيارات خجولة يقوم بها أعضاء الحكومة لتلك المجالس التي لا تتعامل معها كمرجعية لها برغم تبعيتها النظرية للحكومة". ويشير في هذا الصدد، إلى أن "المجالس تستمد سلطتها من علاقتها مع الأتراك والفصائل المحلية بالدرجة الأولى، وليس الحكومة". وبالنسبة لقبول الحكومة شعبياً، يعتبر أن السكان لا يرون حضوراً لهذه الحكومة على الأرض على شكل خدمات ومشاريع، وبالتالي فإن تقييمهم لها سلبي بشكل عام.
كما يرى الناشط معتز ناصر، المقيم في مدينة الباب، أن أداء الحكومة المؤقتة لناحية المشاريع والخدمات ضعيف جداً، معتبراً أنها مجرد "واجهة لتمرير القرارات الإقليمية والدولية التي هي أساساً ضد ثورة الشعب السوري". ويوافق ناصر على فكرة عدم وجود تنسيق بين المجالس المحلية والحكومة التي ليست لديها أي سلطة على تلك المجالس، إذ إن كل مجلس يتبع لولاية تركية بحسب موقعه الجغرافي، من دون أن يكون هناك أي ارتباط بين هذه المجالس، سواء سياسي أم قانوني أم مالي أم إداري. ويمكن القول، برأيه، إن الحكومة المؤقتة هي جسم غير موجود على الأرض، أما المجالس المحلية فهي تعكس الإرادة التركية وعملها يخدم أساساً مصلحة الأتراك وليس الثورة السورية.
وخلاصة القول، فإن المعارضة السورية في شمالي البلاد، وداعمها التركي، لم يتمكنا بعد 12 عاماً من الثورة السورية، من إنضاج تجربة ناجحة للحكم المحلي، بسبب التداخلات وسلطات الأمر الواقع المتعددة، بينما يركز الراعي التركي على الجوانب الأمنية وعلى معايير الولاء وليس الكفاءة، ما جعل مؤسسات المعارضة لا تحظى بثقة المنظمات الدولية الداعمة التي تفضل تولي مشاريعها بنفسها، وليس عبر الهياكل الإدارية القائمة.