ثمة انطباع عام أن الإدارات الأميركية الديمقراطية أكثر حيادية تجاه القضية الفلسطينية أو ربما أقل انحيازاً لإسرائيل من الإدارات الجمهورية. يمكن القول إن هذا قد يكون صحيح نسبياً، ولكن في الجوهر لا اختلاف كبيراً في السياسات الأميركية بالمنطقة التي تحكمها المصالح، كما الحضور القوي للمؤسسة البيروقراطية الأميركية، ولا يقل عن ذلك أهمية أن الديمقراطيين نسجوا على المنوال الجمهوري في ما يتعلق بعملية السلام التي كانت أصلاً اختراعاً جمهورياً أولاً من خلال وزير الخارجية هنري كيسنجر، ثم مؤتمر مدريد الذي أطلق عملية السلام بشكلها المعاصر وأدّى إلى توقيع اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية في ما بعد وكان وزير الخارجية الجمهوري أيضاً جيمس بيكر عرّابه وراعيه المركزي.
اخترع وزير الخارجية الأميركي الأسبق "الجمهوري" هنري كيسنجر، منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبدهاء شديد، مصطلح "عملية السلام" كونه فهم أن العملية ستستمر لسنين، بل لعقود، ومع الوقت بات الحديث عن العملية والحفاظ عليها أهم من السلام نفسه. كيسنجر وضع كذلك أسس العملية الخاصة بتنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338 التي ستعرف في ما بعد بمعادلة الأرض مقابل السلام عربياً وحلّ الدولتين فلسطينياً، وهي الأسس التي سارت عليها الإدارات المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية.
الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر واصل عملية السلام بعد ذلك على خطى أسلافه الجمهوريين، ورغم حماسته الشخصية وإرادته الطيبة، إلا أن إنجازه في كامب ديفيد ورعايته اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية ما كان ليحدث لولا خطوة الرئيس المصري أنور السادات الساذجة والعشوائية بزيارة إسرائيل، والتي تحققت أساساً بفضل عملية خداع وتضليل قادها كيسنجر شخصياً مع السادات أثناء ما يعرف بمفاوضات فكّ الاشتباك التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.
في التراث الديمقراطي لا بد من الإشارة طبعاً إلى الفتوى القانونية الصادرة - زمن كارتر - عن وزارة الخارجية الأميركي باعتبار المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة عام 1967 غير قانونية ومتناقضة مع القانون الدولي، وهي الفتوى التقنية التي سارت عليها أيضاً الإدارات المتعاقبة، ديمقراطية وجمهورية، حتى وصول إدارة ترامب الجمهورية "شكلاً" للسلطة قبل أربع سنوات.
تعثر عملية السلام خلال ثمانينيات القرن الماضي بعد الرفض العربي لسلام أنور السادات المنفرد، لم يمنع الجمهوريين من المحاولة عبر طرح مبادرة الرئيس رونالد ريغان، إلى أن جاءت الخطوة التأسيسية الثانية لعملية السلام جمهورية أيضاً عبر مؤتمر مدريد 1990، الذي كان وزير الخارجية جيمس بيكر عرّابه المركزي، علماً أنه مارس آنذاك ضغوطاً مكثفة على رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير للمشاركة، ضمن فهم أميركي عام وليس جمهورياً فقط بضرورة حل الصراع العربي الإسرائيلي وفق القرارات الدولية ومعادلة الأرض مقابل السلام لضمان المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
سار الديمقراطيون بعد ذلك على الأسس الجمهورية لعملية السلام بحماسة أكبر، واستفادوا كذلك من خطوة الرئيس ياسر عرفات بالذهاب إلى مفاوضات سرية واتفاق مع الإسرائيليين في مدينة أوسلو. وهي المفاوضات التي فوجئ بها الأميركيون كما بالاتفاق نفسه، ومع ذلك صبّ مشهد توقيع الاتفاق في البيت الأبيض لصالح الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون تماماً مثل اتفاق وادي عربة الذي تم التوصل إليه أيضاً بمفاوضات مباشرة أردنية إسرائيلية.
كلينتون الديمقراطي سعى بعد ذلك للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي فلسطيني إسرائيلي من خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية - صيف العام 2000 - لكنه بدا منحازاً أكثر من اللازم للإسرائيليين، وعندما طرح وثيقة متوازنة إلى حد ما في مفاوضات طابا، نهاية العام نفسه، كان الوقت قد فات بعد اندلاع الانتفاضة الثانية التي أنهت نظرياً عملية السلام الطويلة والفاشلة، وأنهت الحياة السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك.
حاول الجمهوري جورج بوش الابن التصرف بشكل مختلف عبر غزو العراق 2003، واعتبار أن الحل في فلسطين نتاج لتحولات إقليمية وليس العكس، لكنه سرعان ما عاد إلى سكة العملية التقليدية، سكة كيسنجر - بيكر ومدريد وأوسلو، عبر استضافة مؤتمر أنابوليس 2007، ودعم المفاوضات المباشرة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس بعد فشل خطة الانفصال الأحادية مع موت عرّابها أرئيل شارون.
ربما كان الديمقراطي باراك أوباما أكثر الرؤساء الأميركيين اندفاعاً لتحقيق السلام في فلسطين بدلاً من الاكتفاء بالعملية فقط، وطبعاً وفق الأسس التي اعتمدتها الإدارات السابقة والتي وضعها الجمهوريون أصلاً - كيسنجر وبيكر - لكنه لم يحقق شيئاً يذكر بعدما عجز عن الضغط على إسرائيل للالتزام بالأسس الضرورية لنجاح العملية، علماً أنه اشتكى في مذكراته التي نشرت أخيراً من حظوة وسطوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أميركا، مشيراً إلى أن أي خلاف له مع زعيم أجنبي لم ينعكس سلباً أو يترك تداعيات داخلية كما حصل مع نتنياهو.
حقبة الرئيس "الجمهوري" دونالد ترامب مثّلت طبعاً انقلاباً على كل الأسس والمعايير الأميركية الديمقراطية والجمهورية على حد سواء في ما يتعلق بقضايا الحل النهائي في فلسطين والمتضمنة اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات مع سعي ترامب لشطبها عملياً عن جدول الأعمال عبر تغليب الرؤى والمصالح الإسرائيلية تجاهها.
الحزب الديمقراطي الفائز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة والذي يهيمن عليه التيار التقليدي، سيعود بالتأكيد إلى الأسس التقليدية للسياسة الأميركية في فلسطين والمنطقة، ولكنه سيواجه إرث ترامب الثقيل داخلياً وخارجياً، وفي أحسن الأحوال فإن ما عجز عنه الشاب الحالم باراك أوباما لن يحققه بالتأكيد المستنزف المرهق والتقليدى جو بايدن.
في كل الأحوال، لا بد من فهم وقراءة السياسة الأميركية بشكل صحيح، والاعتماد أولاً على أنفسنا كفلسطينيين من أجل تحقيق مصالحنا ونيل حقوقنا، وللأسف تفعل القيادة الفلسطينية الهرمة والمرهقة أيضاً عكس ذلك تماماً، حيث أكد نائب رئيس حركة فتح محمود العالول، الثلاثاء الماضي، التوصّل إلى تفاهمات مع فريق الرئيس المنتخب جو بايدن، وكما ذكرت "العربي الجديد"، فإن تلك التفاهمات "السيئة والمعيبة" تشمل العودة للتنسيق الأمني مع إسرائيل، وتعديل المناهج الدراسية الفلسطينية، وإجراء تغييرات جذرية على رواتب وبدلات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية دون الحصول حتى على تعهد أميركي باستئناف عملية السلام مقابل تعهد بإنقاذ السلطة نفسها سياسياً ومالياً وإبقائها على قيد الحياة لا القضية الفلسطينية العادلة ولا حتى عملية السلام، حيث باتت السلطة نفسها عنواناً لمزاعم بقاء العملية على قيد الحياة دون سلام حقيقي طبعاً.