يحاول رئيس النظام السوري بشار الأسد منذ تمرير انتخابه لولاية ثالثة عام 2014، ضمن انتخابات وصفتها المعارضة بالمسرحية، القفز فوق الملفات المتراكمة واستثمار الوقت للوصول لانتخابه مرة أخرى بعد انتهاء فترة ولايته الحالية منتصف العام المقبل، بدفع من إيران، ودعم روسي بات حذراً بعد زيادة حدة العقوبات على الأسد ونظامه، لا سيما مع دخول "قانون قيصر" حيز التنفيذ وبدء حزم عقوباته بالتوالي، لتصعب أمام الأسد عملية مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية وتجعله يقدّم مزيداً من التنازلات لحلفائه، وربما غيرهم في الأيام المقبلة.
منذ ذلك التاريخ (2014)، تبدّلت الكثير من المجريات والوقائع في المشهد السوري سياسياً وعسكرياً، منها ما كان لصالح نظام الأسد، ومنها ما جاء ضد مصالحه، في حين استفاد اللاعبون الإقليميون وأطراف أخرى من تغير المعادلات العسكرية والسياسية. وتبع انتخابات 2014 بنحو ثلاثة أسابيع إعلان "الخلافة" من قِبل تنظيم "داعش" وزعيمه أبو بكر البغدادي، إلا أن العام الماضي شهد انهيار التنظيم في آخر جيب له في الباغوز شرقي البلاد، ثم مقتل زعيمه البغدادي شمالي إدلب. ذلك جعل سيطرة الأكراد تتوسع شرقي سورية، ما سمح بحضور أقوى لحلفائهم الأميركيين قرب منابع النفط.
وجاء التدخل العسكري الروسي المباشر في سبتمبر/أيلول 2015 لينقذ الأسد مما يشبه الانهيار بعد عام من الانتخابات، حتى مكّنه من استعادة الكثير من المساحات التي خسرها منذ 2012 وحتى منتصف 2015، فأعاد ريف دمشق وحمص وحلب ومن ثم قوّض درعا باتفاق المصالحة، ليأتي الدور نحو التقدم إلى إدلب وقضم الكثير من المساحات فيها. وساعد الروس النظام كذلك بالالتفاف على المسار السياسي الأممي للحل، بإنشاء مسار أستانة وتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ لتسهيل الانقضاض عليها، لكن سبق ذلك نجاح حلفاء المعارضة الغربيين بتمرير القرار 2254 في مجلس الأمن الدولي، والذي يشكل اليوم ما يشبه الكابوس للأسد. كذلك استفاد الأتراك بتأمين جزء واسع من الشريط الحدودي الذي يصرون على وقوف قواتهم عليه من الحدود الشمالية للبلاد، في حين لا يزالون يواجهون عقبة إدلب ضد الروس والأسد الطامح لكسب نصر في المحافظة قبل استحقاق موعد الانتخابات.
وعلى الرغم من كل ذلك، يواجه الأسد اليوم خمس عقبات أساسية أمام إعادة انتخابه، ولو شكلياً كما هو متوقع، وسط بروز نوايا غربية بوضع حد لحكمه مع نهاية ولايته في يونيو/حزيران من العام المقبل. العقبة الأولى، هي اللجنة الدستورية، التي تعد إحدى سلال القرار 2254، فمنذ إقرار اللجنة بداية عام 2018 ماطل النظام كثيراً لجهة عدم إطلاقها، قبل أن يقبل بذلك مرغماً إثر الضغط الدولي على حليفه الروسي الذي أجبره على الانخراط بأعمال اللجنة خريف العام الماضي، أي بعد عام ونصف من إقرارها. وعلى الرغم من ذلك، أفشل وفده الجولتين الأولى والثانية من أعمالها، وفرض رؤيته لجدول أعمال الجولة الثالثة، بمناقشة ما سماها "الثوابت والركائز الوطنية" التي لا تدخل ضمن تفويض اللجنة. ويحاول الوفد دائماً وضع العراقيل، تارة من خلال التسميات وتارة أخرى من خلال جدول الأعمال، فيما لم ينجح المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسن بتحديد موعدٍ للجولة الرابعة التي كانت مقررة في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، بسبب تعنّت وفد النظام بالاستمرار بمناقشة "الهوية الوطنية" قبل الدخول بمناقشة المضامين الدستورية. إلا أن الأسد كان واضحاً قبل أيام بالذهاب أبعد من وفده في التلاعب بمسار اللجنة، حين أعرب عن رفضه التفاوض حول قضايا تخص استقرار سورية خلال عمل اللجنة، مشيراً إلى أنها عملية تفاوضية قد تستغرق وقتاً طويلاً.
يخشى الأسد أن تنهي اللجنة الدستورية أعمالها بفرض انتخابات بموجب الدستور الجديد الذي سيتمخض عنها
ويخشى الأسد أن تنهي اللجنة أعمالها، وهذا ما يرغب به الغربيون والأميركيون على وجه التحديد، بفرض انتخابات بموجب الدستور الجديد الذي سيتمخض عن عمل اللجنة، بعد نسف دستور عام 2012 الذي وضعه مشرعون مقربون من الأسد، وضمّنوه شروطاً للترشح لا يمكن أن تنطبق على أي من معارضيه في الخارج.
أما العقبة الثانية، فتتمثل بالعقوبات الأميركية بموجب "قانون قيصر"، التي باتت تشكل حزمها المتتالية (وصلت إلى الحزمة الرابعة) ضغطاً على الأسد، الذي يواجه ضغوطاً اقتصادية داخلية وخلافات ضمن الدائرة الضيقة لنظامه، لا سيما مع ابن خاله رامي مخلوف، أدت إلى مزيد من انهيار سعر صرف الليرة وانتشار الفقر والبطالة، ما يهدد بالانفجار في أي لحظة مع العجز عن تأمين الاحتياجات. في حين تقوّض العقوبات حركة رجالات النظام ولا سيما الاقتصاديين منهم، وبالأخص الواجهات الجديدة الذين أتت بهم زوجة الأسد، أسماء الأخرس، بعد استبدالها الكتلة "المخلوفية" (شبكة من المتنفذين الاقتصاديين يديرون أموال العائلة كان يحركهم رامي مخلوف) بهم. في حين تكبّل العقوبات العسكريين والسياسيين، وعلى رأسهم الأسد، لإرغامه على الانخراط بالمسارات السياسية، وإلا سيواجه المزيد من العقوبات، التي قد يؤدي تفاقمها إلى عرقلة خططه لإعادة انتخابه، وسيجد الحليف الروسي في تعاظمها أن الأسد بات ورقة محروقة، تضر بمصالحه في البلاد ومن الأفضل استبدالها.
العقبة الثالثة هي نتائج الانتخابات الأميركية، ففي حال نجاح الرئيس دونالد ترامب بولاية رئاسية جديدة، قد يتجه لتنفيذ تهديداته بالتخلص من الأسد بطرق مختلفة، لا سيما أنه أفصح عن الرغبة في تصفيته عقب هجمات خان شيخون الكيميائية عام 2017 وسط معارضة من إدارته حينها. وتلقّى الأسد العديد من الضربات من قبل إدارة ترامب عسكرياً وسياسياً وآخرها مصادقته على "قانون قيصر"، المتوقع أن يزيد من مفاعليه في حال نجاحه.
العقبة الرابعة، الحفاظ على وجود النظام شرقي الفرات، إذ لا يزال يحتفظ ببعض الجيوب الصغيرة في محافظتي الحسكة ودير الزور، والخروج منها يجعل موقفه ضعيفاً قبل موعد الانتخابات. وتسعى "الإدارة الذاتية" الكردية وذراعها العسكري "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) بشكل مستمر لتقليص سيطرة النظام لا سيما على الدوائر الحكومية والخدمية وتحديداً في الحسكة، ويخشى الأسد من أن إنجاز الحوار الكردي-الكردي الذي تدعمه واشنطن، من شأنه بسط مزيد من النفوذ الكردي شرقي البلاد وبالتالي إخراجه من هناك بإصرار من الأطراف الكردية الأشد عداءً له، بعد مشاركتها في الإدارة في حال نجاح الحوار.
يخشى الأسد من أن نجاح الحوار الكردي-الكردي سيؤدي لطرده بشكل كامل من شرقي الفرات
العقبة الخامسة والأخيرة، تتمثل بالتعامل مع الوجود الإيراني في البلاد، إذ يشكّل انتشار الحرس الثوري والمليشيات المدعومة من قبل طهران مبرراً إضافياً لمحاصرة الأسد ومعاداته من قبل الغرب، غير أن الأسد الذي استنجد بالإيرانيين لمنع سقوط نظامه عام 2013، لم يعد بمقدوره الحد من هذا التواجد الذي تمدد بشكل كبير، وبات يتحكّم بمفاصل النظام عسكرياً وسياسياً، على الرغم من تراجع هيمنته أخيراً لصالح النفوذ الروسي. ويتحجج الاحتلال الإسرائيلي بالوجود الإيراني لزيادة توجيه ضربات جوية نحو قواعد عسكرية في سورية، مع الضغط على حلفائه الروس أولاً، ومن ثم نقل المخاوف إلى الإدارة الأميركية لزيادة العقوبات على الأسد.