لم تضع اللغة العربية بعد تعريفاً دقيقاً لتعبير "حرق الأرض"، فما معنى أن تحرق الأرض؟ وأي مشهد يوحي باستخدام هذا التشبيه المرعب؟
رغم كمية الرعب المختزنة في هذا التعبير، والذي اعتقد كثيرون أنه انتهى مع مشاهد حرب فيتنام المروعة، إلا أنه عاد من جديد ليصبح عنواناً للحروب التي شُنت على الشعوب تحت الاحتلال منذ مطلع هذا القرن.
بعد غروزني وفيتنام، جاءت غوطة دمشق وحلب، واليوم غزة التي تجرى فيها الإبادة على الهواء مباشرة.
ووصفت الأمم المتحدة مدينة غروزني بعد تمكن موسكو من السيطرة عليها بأنها المدينة "الأكثر دماراً على وجه الأرض"، إذ بلغت نسبة الخراب فيها 95%، وهو مماثل للخراب الذي أحدثته القنبلة الذرية التي ألقاها الأميركيون على مدينة هيروشيما.
وفي حلب القديمة التي تعرضت لقصف متواصل من النظام السوري وروسيا، قالت منظمة "يونيسكو" إن 60% من أحياء المدينة تعرض إلى خسائر جسيمة، ودُمر 30% منها تدميراً كاملاً.
واليوم، تكاد الوحشية الإسرائيلية وإصرارها على قتل أكبر عدد من المدنيين والقضاء على سبل العيش في غزة أن تكون مطابقة لتلك التي مورست منذ بضع سنوات في حرب النظام السوري وحليفيه روسيا وإيران على الثورة السورية، وكأن هناك دليلاً مفهرساً عن كيفية محو مدينة ما ومعها عشرات آلاف الأرواح بما تحمل من ذكريات وآمال وأحلام.
من الغوطة إلى غروزني
في حصار الغوطة الشرقية، الذي بدأ في مايو/أيار 2013 حتى إبريل/نيسان 2018، منع النظام السوري دخول المواد الغذائية والدواء وقطع الكهرباء والمياه عن الغوطة، المحاذية للعاصمة دمشق والتي كان فيها أكثر من 400 ألف مواطن في مساحة لا تتجاوز 100 كيلومتر مربع.
وطوال سنوات الحصار، لم يتوقف القصف على المنطقة، ودمرت طائرات النظام، قبل أن تنضم إليها الطائرات الروسية بدءاً من أيلول 2015، البنية التحتية بشكل شبه كامل، واستهدفت بشكل خاص المنشآت الصحية والمخابز، واستخدم النظام وروسيا في قصفهم الغوطة قنابل ذات قدرات تدميرية عالية، بالإضافة للأسلحة العنقودية المحرمة دولياً، كما قام النظام في آب/أغسطس باستخدام السلاح الكيماوي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 1300 مواطن سوري في ليلة واحدة.
ورغم دخول الغوطة الشرقية في ما سمي بمناطق خفض التصعيد، التي أقرت في مايو/أيار 2017 ضمن مفاوضات أستانة برعاية تركيا وروسيا وإيران، إلا أن ذلك لم يغير الواقع على الأرض، واستمر الحصار والقصف وصولاً إلى فبراير/شباط 2018، حين بدأ الحلفاء الثلاثة، النظام السوري وإيران وروسيا، شن حملة عنيفة على الغوطة الشرقية مستخدمين فيها شتى أنواع الصواريخ، إلى حد جرى فيه استهداف مدن وبلدات الغوطة المحاصرة بأكثر من 260 غارة.
يقول الإعلامي عبد المعين حمص من بلدة حمورية في الغوطة الشرقية، عن الأسابيع الأخيرة التي سبقت تهجيره مع أهالي المنطقة ومقاوميها إلى الشمال السوري: "كان القصف في تلك الأسابيع غير مسبوق، من بقي حياً في حمورية توجه إلى الأنفاق، وبقي الناس في الأنفاق أكثر من أربعين يوماً، كانت الطائرات لا تغادر السماء، تقصف أي شيء يتحرك. كان المشهد مرعباً، انفجارات ضخمة طوال الوقت، والطائرات الحربية والمروحية لا تغادر سماء الغوطة لا ليلاً ولا حتى نهاراً، إضافة إلى أن جثث القتلى من النساء والرجال كانت في الطرقات والمشافي. بقي عدد من جثامين الشهداء في مستشفى دار الشفاء بحمورية تحت الأرض أكثر من 15 يوماً، ولم نستطع دفنهم بسبب القصف، حتى نقلناهم في إحدى الليالي إلى بلدة عربين المجاورة ودفناهم فيها".
ويضيف حمص عن تهديد النظام للأهالي بشكل مباشر باستهدافهم بالكيماوي إذا لم يغادروا المدينة: "في 18 من آذار 2018، استهدف النظام مدخل أحد الأنفاق بغاز الكلور، كانت رسالة واضحة بأنه سيستخدم السلاح الكيماوي إن لم نغادر، كانت تلك الليلة الأكثر رعباً عندما خرجت العائلات من الأنفاق هرباً من رائحة الكلور، لتتلقاها صواريخ الطائرات الحربية والمدفعية، والنار تلتهم البيوت والمحال التجارية والناس تركض في الشوارع هرباً من الموت".
عانت عدة مدن سورية مصير الغوطة الشرقية مثل الزبداني ومضايا وحلب الشرقية، التي شبه الكثيرون الدمار فيها بفعل القصف السوري الروسي بغروزني الشيشانية، التي أحالها القصف الروسي إلى تلال من الركام.
ففي حربي الشيشان الأولى (1994-1996) والثانية (1999-2009) عمد الجيش الروسي إلى تدمير أجزاء كبيرة من الشيشان حتى تمكن من القضاء على المقاتلين الذين كانوا يطالبون باستقلال بلدهم. السياسة ذاتها طبقت في سورية وفي أوكرانيا، كما حدث في مدينة باخموت التي احتفل الجيش الروسي لاحقاً باحتلالها على أنه انتصار بعد أن أحالها ركاماً.
ومن اللافت أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم في دعاية حربه على غزة أنه يحارب "داعش"، ومن قبله ادعى النظام السوري وحليفاه، أنهم أيضاً كانوا يحاربون "داعش"، علماً أنهم ومن بين الجيوش الموجودة على الأرض السورية الوحيدون الذين لم يحاربوا التنظيم بشكل فعال كما فعل التحالف الدولي وفصائل الثورة السورية، حيث أظهر تحليل أجرته "رويترز" في أكتوبر/تشرين الأول 2015 أن حوالي 80% من الغارات الجوية الروسية في سورية نُفذت في مناطق لا يسيطر عليها تنظيم داعش.
دمر كل شيء.. عن بعد!
في الأصل، أطلق تعبير "سياسة الأرض المحروقة" على قيام الدول المتعرضة للغزو بحرق كل الممتلكات والموارد التي يمكن أن يستفيد منها الغزاة، مثل المحاصيل الزراعية والحقول والمواشي، وذلك لأن الحروب في العصور القديمة كانت تعتمد على الاستيلاء على موارد الأراضي المحتلة لإطعام الجيش.
ولاحقاً مع تطور الصناعة والاتصالات، امتد التدمير ليشمل كل المنشآت التي يمكن للغزاة الاستفادة منها، وبحسب قاموس أكسفورد، استخدم مصطلح الأرض المحروقة لأول مرة في عام 1937 في تقرير عن الحرب الصينية اليابانية قبيل الحرب العالمية الثانية، وعاد الرئيس السوفييتي جوزيف ستالين لاستخدام هذه السياسة عبر تدمير أوكرانيا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، لمنع الجيش الألماني من الاستفادة من موارد أوكرانيا، ثم عاد إليها أدولف هتلر وأمر بتطبيق ذات السياسة ودمر ما تبقى من أوكرانيا قبيل انسحاب جيوشه منها.
وإذا كانت سياسة الأرض المحروقة استراتيجية عسكرية لجأت إليها الشعوب كتكتيك دفاعي في وجه الغزاة، فإنها مع الحروب الحديثة أصبحت سياسة تتبعها بعض الدول المعتدية لحرمان الدول المستهدفة من الاستفادة من مواردها وإرهاق المدنيين عبر حرمانهم من الموارد الضرورية للحياة، وبالتالي إحداث أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية وتعطيل الخدمات الصحية والاتصالات، ما قد يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض وإجبار المدنيين على النزوح عن مدنهم وبلداتهم، من دون أن يضطر المعتدي لخوض مواجهة عسكرية مباشرة، إذ إن سلاح الطيران والصواريخ والقصف المدفعي تجنب المعتدي مخاطر المواجهات المباشرة.
جريمة ضد الإنسانية
المريع في سياسة الأرض المحروقة أنها تستهدف المدنيين بشكل أساسي وتلحق أضراراَ كبيرة في أوساطهم، ولذلك هي الطريقة المفضلة عند القوات الغازية لكسر إرادة الشعوب في المقاومة ووضع ضغط إنساني ونفسي هائل على المقاومين وهم يرون أجساد أهاليهم تمزق من قنبلة أو صاروخ.
ولا تتوقف نتائج استراتيجية الأرض المحروقة، لا سيما ما يطبقه الاحتلال حالياً في غزة، عند ما نراه من تدمير وقتل فقط، بل تمتد آثارها لتحاصر مستقبل قطاع غزة وأهله، إذ إن تدمير البنية التحتية والأبنية، لا سيما في منطقة تعتبر الأكثر ازدحاماً في العالم، يجعل من متابعة الحياة لاحقاً أمراً في غاية الصعوبة بعد تخريب الأرض وملئها بركام الأبنية.