لليوم الثاني على التوالي، واصل المئات من مناوئي حكومة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، ومناهضي تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم، أمس الأحد، اعتصامهم على بعد أمتار من القصر الرئاسي، لمطالبة الجيش بالتدخل وحل الحكومة. وتأتي هذه الدعوة في ظل حالة الاحتقان السياسي وتصاعد حدة الخلاف بين المكونين العسكري والمدني من جانب، وخلاف داخل بعض مكونات تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم من جانب آخر، وهو ما يعزز الاعتقاد لدى بعضهم بدعم الجيش لهذا التحرك.
ويمتد ميدان الاعتصام، بالقرب من القيادة العامة للجيش السوداني، على مسافة طولها 200 متر وعرضها 40 متراً في شارع القصر، أحد أشهر شوارع الخرطوم، ويتفرع بزخم أقل إلى شوارع جانبية أخرى. وداخل تلك المساحة، نُصبت أكثر من 20 خيمة لأبرز المشاركين في الاعتصام؛ مثل حركات الكفاح المسلح، ومجموعات مفصولة من الدولة بواسطة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو (نظام عمر البشير)، إلى جانب خيم أخرى خاصة بقبائل ومناطق وجهات، بينما خُصصت خيم لإعداد الطعام من داخل ساحة الاعتصام، فيما تحضر سيارات أخرى لتوزيع الطعام الجاهز، وتُوزع الجهات المنظمة، قوارير مياه الشرب بكثافة. كما تظهر جولة في مكان الاعتصام، أنه تم تشييد منصة رئيسية تستخدم لإلقاء الخطب السياسية، مع وجود عربة متحركة لبث الأغاني الوطنية والأناشيد الحماسية.
الاعتصام تلقى ضربة أولى منتصف نهار أمس الأحد، بانسحاب حزب البعث السوداني منه
ويُنظم الاعتصام بناءً على دعوة من قوى سياسية وأحزاب حملت اسم "الحرية والتغيير"، بعد انشقاقها عن التحالف الحاكم الرئيس الذي يحمل اسم "قوى إعلان الحرية والتغيير". ووقّع المنشقون أخيراً ما سمّوه "ميثاق التوافق الوطني"، والذي دعوا فيه إلى توسيع قاعدة المشاركة التنفيذية والسياسية في المرحلة الانتقالية. وأهم تلك القوى حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي، وحركة تحرير السودان، بقيادة ميني أركو ميناوي حاكم إقليم دارفور، وحزب البعث السوداني، والجبهة الشعبية للتحرير، وتنظيمات جهوية مثل كيان الشمال بقيادة محمد سيد أحمد، وحركة تمازج، وهي من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، وتتهم بالارتباط بالمكون العسكري، الذي يرى مراقبون أنه يتعمد خلق الشقاق داخل المكون المدني للتهرب من تسليم رئاسة مجلس السيادة بعد نحو شهرين للمدنيين.
لكن الاعتصام تلقى ضربة أولى منتصف نهار أمس الأحد، بانسحاب أحد الأحزاب المشاركة فيه منه، وهو حزب البعث السوداني، الذي أصدر بياناً قال فيه إن لديه "ملاحظات جوهرية على ما جرى في منصة ميدان الاعتصام، وما تلا ذلك من الإرباك الذي تم في إعلان الاعتصام، وهو أمر لم يتم الاتفاق عليه، وهو حقيقة لا يعبّر عن الحرية والتغيير، خصوصاً بعد الاختراق الكبير الذي صاحب انتظام المعتصمين". وأضاف "لذا قرر الحزب عدم المشاركة في هذا الاعتصام، وتمسكه بالشعارات التي رفعها بهدف العودة لمنصة التأسيس وتوحيد الحرية والتغيير عبر المؤتمر التأسيسي".
أمنياً، يلاحظ الغياب التام لعناصر الشرطة السودانية وقوات الأمن الأخرى، فيما تتمركز وحدات من الحرس الرئاسي أمام بوابة القصر الجمهوري من الناحية الجنوبية، بينما تولت مجموعات من الشباب مهمة وضع حواجز عند مداخل ميدان الاعتصام المختلفة، لتفتيش كل الداخلين إلى المنطقة. ونُصبت خيمة لاستدعاء أي عناصر تساهم بارتكاب أي أعمال تخريبية، بينما تسير الحياة في بقية منطقة وسط الخرطوم بصورة اعتيادية، حتى في الشوارع القريبة من منطقة الاعتصام.
وخلال جولة لـ"العربي الجديد" على الاعتصام، كان يمكن ملاحظة المشاركة الضعيفة للمرأة والشباب، على عكس اعتصامات الثورة السودانية، وزيادة كبيرة في مشاركة من هم فوق الأربعين سنة، وكذلك أطفال دون سن الثامنة عشرة. كما لُوحظ انسحاب مجموعات من أطفال المدارس القرآنية الذين شاركوا في اليوم الأول من الاعتصام، وذلك عقب سلسلة من الانتقادات لمنظمي الاعتصام، بحجة استغلالهم الأطفال لغايات سياسية، وفقاً لما صدر عن المفوضية القومية لحقوق الإنسان، وعدد آخر من المنظمات الحقوقية.
يلاحظ الغياب التام لعناصر الشرطة السودانية وقوات الأمن الأخرى
وتختلف دوافع المشاركين في الاعتصام الذي يرى معارضوه أنه يهدف إلى الضغط على حكومة حمدوك لتعطيل المسار الانتقالي. الطاهر عبد الله دهب، وهو أحد المفصولين بقرار من لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، يقول لـ"العربي الجديد"، إنه شخصياً جاء للمشاركة في الاعتصام ليبلغ رسالته إلى الشعب السوداني بأن الغالبية العظمى من المفصولين ظُلموا، وأنهم متضررون مع أسرهم مادياً ومعنوياً، وللمناداة بذهاب الحكومة ومجيء حكومة كفاءات بديلة تحكم بالعدل والإنصاف، وتنهي غلاء المعيشة والمعاناة، وفق تعبيره.
أما عبد الرحمن محمد الأمين، فيؤكد أن كل الموجودين في ميدان الاعتصام تناسوا مراراتهم الشخصية وأصبح همهم الأول والأخير هو الوطن الكبير، لذا هم يصرّون الآن على إخراج الدولة من نفقها المظلم الذي دخلت فيه بواسطة ما سماه "مجموعة الاختطاف داخل الحرية والتغيير". ويقول الأمين إن المعتصمين يسلمون الأمر للجيش "صمام أمان هذه الدولة، للتقرير في مصير البلاد، وحل الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة توصل السودان لمرحلة الانتخابات الحرة والنزيهة، وهو ما لا تريده أحزاب أربعة لا وزن لها داخل الحرية والتغيير"، في إشارة إلى أحزاب الأمة القومي، والتجمع الاتحادي، والمؤتمر السوداني، والبعث فصيل علي الريح السنهوري.
أما أحمد عوض الكريم، فيقول لـ"العربي الجديد"، إنه لم يحضر لساحة الاعتصام من أجل مطالب سياسية إنما للفت الانتباه للتدهور المعيشي، مشيراً إلى أنه يعمل طوال اليوم، ورغم ذلك لا يستطيع توفير قوت العيش له ولأولاده. بدوره، يقول معتصم آخر يدعى الطيب فضل المولى علي، إنه حضر إلى الاعتصام "من أجل التغيير الكامل والشامل"، مؤكداً أنهم لن يغادروا إلا بعد بيان من الجيش بحل الحكومة وتشكيل حكومة كفاءات.
يواصل حمدوك اتصالاته مع العسكريين والمدنيين لإقناعهم بإنهاء الأزمة المستفحلة بينهم
وللواثق محمد جاد الله، قصة تخص زوجته التي ترقد طريحة الفراش في المستشفى لإصابتها بفشل كلوي، إذ يؤكد لـ"العربي الجديد"، وبين يديه عدد من الوصفات الطبية، بأنه لم يتمكن من الحصول على الأدوية عبر بطاقة اشتراكه في خدمة التأمين الصحي لمدة أسبوع كامل، لعدم توفرها، فيما تحتاج زوجته إلى 64 ألف جنيه شهرياً (145 دولارا أميركيا) لإجراءات غسل الكلى التي تحتاجها 8 مرات في الشهر، موضحاً أنه حتى المركز التي تتعالج فيه تم إغلاقه ولم يؤد احتجاجهم لمطالبة وزير الصحة عمر النجيب بالتحرك، إلى شيء. ويشير جاد الله، إلى أنه يريد تذكير المعتصمين والمسؤولين بأهمية الالتفات إلى تحسين الخدمات الصحية، خصوصاً تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة.
ولم يحدد منظمو الاعتصام موعداً لرفعه، واشترط بعضهم من أجل ذلك إصدار رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، بياناً يقضي بحل الحكومة، كما قال أحد قياديي تحالف أحزاب "ميثاق التوافق الوطني"، أول من أمس السبت. غير أنه ليس هناك مؤشرات بعد بشأن نية المكون العسكري الاستجابة لمطالب المعتصمين، لا سيما مع قلة أعداد الأخيرين، واصطفاف حمدوك ضد أي خطوة لتقويض التحول الديمقراطي، بحسب ما أكده في خطاب له يوم الجمعة الماضي. وتقول مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، إن حمدوك، يواصل اتصالاته مع العسكريين والمدنيين لإقناعهم بإنهاء الأزمة المستفحلة بينهم وفقاً لخريطة الطريق التي أعلن عنها يوم الجمعة الماضي، والتي أكدت ضرورة الوقف الفوري لكافة أشكال التصعيد بين جميع الأطراف، وعلى أن المخرج الوحيد هو الحوار.
إدريس: الاعتصام بالشكل الذي ظهر به، لن يكون له أي تأثير على المشهد السياسي
وعلى صعيد تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحاكم، فإنه لم يأبه كثيراً للاعتصام القائم، ويراهن على الدعوات لموكب 21 أكتوبر/تشرين الأول الحالي لإظهار السند الشعبي للتحول الديمقراطي، ورفض الانقلابات بأشكالها العسكرية والمدنية. ويأمل التحالف الحاكم أن يكون الموكب رداً عملياً على الحراك الحالي الذي يعتبره التحالف مجرد أداة من أدوات العسكر في معركتهم ضد المدنيين. وفي السياق، يؤكد القيادي في تحالف "الحرية والتغيير" الحاكم، جمال إدريس، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الاعتصام بالشكل الذي ظهر به، لن يكون له أي تأثير على المشهد السياسي، إلا إذا كان الاعتصام في حد ذاته هو مجرد نشاط مدبّر من قبل البرهان وبقية العسكر، لاستغلاله ذريعة لتنفيذ انقلابهم على التحول الديمقراطي، خصوصاً مع ما يظهر من تجهيز وتنظيم وصرف على الاعتصام". ويتوعد إدريس بـ"رد حاسم ومزلزل يوم الخميس المقبل، من خلال موكب 21 أكتوبر لدعم التحول الديمقراطي والحكم المدني ورفض الانقلاب على الثورة".
بدوره، يؤكد عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، الشريك الرئيسي في الحكم، أنه "لا مجال لحياد أو مخاتلة أو مساومة في الموقف، ضد محاولات الانقلاب على مسيرة التحول الديمقراطي، أياً كانت الجهات التي تقف وراء تلك المحاولات"، مستنكراً بشدة "استجداء المعتصمين للبيان الأول لقطع الطريق أمام التحول الديمقراطي". ويشدد الدقير في حديث نقلته عنه وكالة السودان للأنباء أمس، أن "الشعب السوداني قادر على التصدي بالأدوات السلمية للانقلاب".