أخذ الصراع بين مصر وإثيوبيا أخيراً أبعاداً جديدة، في أعقاب اعتداء رهبان أحباش تابعين للكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، على رهبان مصريين تابعين للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، تحت أنظار الشرطة الإسرائيلية، في دير السلطان المملوك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في القدس المحتلة، والمتنازع على ملكيته بين الكنيستين المصرية والإثيوبية.
وتعتبر دوائر مصرية، وفق مصادر تحدثت لـ"العربي الجديد"، أن تجدد الانتهاكات داخل الدير جزء من الأزمة الرئيسية بين القاهرة وأديس أبابا، والمتعلقة بقضية سد النهضة الإثيوبي، في ظل التحركات المصرية الرامية لممارسة ضغوط على الحكومة الإثيوبية أخيراً لدى كل من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، لدفعها إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات قبل موعد الملء الثالث المقرر في يوليو/تموز المقبل، والتوصل لاتفاق ملزم بشأن عمليتي الملء والتشغيل يراعي المخاوف المصرية.
أزمة دير السلطان وقضية النهضة
وتجددت أزمة دير السلطان، بعد قيام الرهبان الإثيوبيين برفع علم ضخم لبلادهم داخل الدير، ليرد الرهبان المصريون برسم العلم المصري على أحد أبواب الدير لإثبات ملكيته. هذا الأمر أدى إلى وقوع اشتباكات بين الطرفين، ما دفع شرطة الاحتلال إلى التدخّل للفصل بينهما، في الوقت الذي تمتنع فيه سلطات الاحتلال عن تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة العليا الإسرائيلية في 16 مارس/آذار 1971 بإعادة مفاتيح الكنيستين وأبواب الممر لأيدي الرهبان المصريين.
وقالت مصادر دبلوماسية مصرية، إن دير السلطان الواقع في البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة، والمتنازع عليه بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، أصبح جزءاً أصيلاً في معادلات السياسة المصرية، والإسرائيلية، والإثيوبية، ويتم توظيف أزمته من جانب إثيوبيا تارة، والحكومة الإسرائيلية تارة أخرى، وفقاً لاتجاه العلاقات.
وكانت وثيقة سرية عثر عليها في أرشيف الجامعة العبرية في القدس، قد كشفت عن وجود "اتفاق حكومي إسرائيلي- إثيوبي عام 1969، ينص على قيام إسرائيل بدعم الوجود الإثيوبي في الدير، مقابل تسهيلات عسكرية ولوجستية لها في إثيوبيا، منها السماح لطائرات "العال" بالمرور في الأجواء الإثيوبية، والسماح لإسرائيل بإقامة محطات عسكرية استخبارية على الأراضي الإثيوبية".
دير السلطان أصبح جزءاً في المعادلات السياسية ويتم توظيف أزمته من إثيوبيا والحكومة الإسرائيلية
ويرجع تاريخ دير السلطان في القدس، حسب بيانات الكنيسة المصرية، إلى عهد السلطان عبد الملك بن مروان (684- 705)، الذي وهبه للأقباط، فسمي دير السلطان، وتم التأكيد على ملكية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية للدير، في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر.
وفي النصف الأخير من القرن السابع عشر، لجأ الأحباش إلى الكنيسة القبطية ليجدوا لهم مأوى مؤقتاً للإقامة إلى أن تُحل مشكلتهم ويعودوا إلى أماكنهم التي انتقلت في عام 1654 إلى كنيستي الروم والأرمن بسبب عدم قدرة الكنيسة الإثيوبية على دفع الضرائب. فاستضافت الكنيسة القبطية الرهبان الأحباش كضيوف في بعض غرف دير السلطان بصفة مؤقتة، قبل أن يدّعوا ملكيته لاحقاً.
وفي 25 إبريل 1970، وأثناء إقامة قداس عيد القيامة في كنيسة القيامة، أرسلت الحكومة الإسرائيلية قوات لتمكين الرهبان الأحباش من دير السلطان، وسلموا المفاتيح الجديدة للإثيوبيين. وعندما علم الرهبان الأقباط بهذا هرعوا إلى دير السلطان لاستعادة ممتلكاتهم، ولكن القوات الإسرائيلية منعت بالقوة دخول مطران الأقباط وكل من معه إلى دير السلطان.
وإزاء ذلك، تقدّم مطران الأقباط بدعوى أمام المحكمة العليا الإسرائيلية والتي أقرت بالإجماع، إعادة مفاتيح الكنيستين وأبواب الممر لأيدي الأقباط في 16 مارس 1971، إلا أن الحكومة الإسرائيلية ما زالت تمتنع عن تنفيذ حكم المحكمة العليا حتى الآن، على الرغم من الدعاوى العديدة التي قدمت إليها.
وحسب مصدر دبلوماسي مصري، عمل سابقاً في سفارات مصر بدول أفريقية، فإن السبب الأهم في تلكؤ الحكومة الإسرائيلية، إلى درجة تقترب من رفض تنفيذ الحكم الخاص بأحقية الكنيسة المصرية الأرثوذكسية في إدارة وملكية دير السلطان، بذرائع أمنية واهية، هو الالتزام الإسرائيلي لإثيوبيا في الاتفاق معها على نقل عدد كبير من يهود الفلاشا إلى الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل، وهو الالتزام الذي يقضي بضمان ملكية الدير للرهبان الأحباش.
وحسب وثائق مصرية، وتسريبات إسرائيلية أعلنت لاحقاً، فقد جرى نقل يهود الفلاشا للمرة الأولى بشكل جماعي، عام 1984، في عملية سميت "موسى"، وتمت بمساعدة من الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري. ثم حصلت عملية ثانية، أطلق عليها الإسرائيليون اسم "سبأ"، عام 1985، حين جرى نقل أكثر من 20 ألفاً من يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدعم من الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي في ذلك الوقت.
ارتدادات أزمة سد النهضة
يأتي هذا التطور فيما شرعت أديس أبابا في عمليات تعلية الممر الأوسط لسد النهضة الذي يُبنى على النيل الأزرق، استعداداً لموسم الفيضان، وعملية الملء الثالث، والتي تعترض القاهرة على إتمامها قبل التوصل إلى اتفاق قانوني بين مصر والسودان باعتبارهما دولتي المصب لنهر النيل، وإثيوبيا باعتبارها دولة المنبع.
وبحسب مصادر دبلوماسية مصرية، فإن القاهرة جددت مطالبها أخيراً للإدارة الأميركية، بضرورة تكثيف ضغوطها على الحكومة الإثيوبية من أجل إطلاق جولة مفاوضات جديدة قبل البدء في الملء الثالث للسد، في ظل حالة التجاهل الإثيوبي التامة للنداءات المصرية والسودانية.
جددت القاهرة الطلب من واشنطن تكثيف الضغوط على الحكومة الإثيوبية لإطلاق جولة مفاوضات جديدة
ولفتت المصادر إلى أن قضية السد كانت من بين الملفات الرئيسية على أجندة وزير الخارجية المصري سامح شكري، خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الأميركية واشنطن، كاشفة أنه طالب نظيره الأميركي أنتوني بلينكن خلال لقائهما في 13 إبريل/نيسان الحالي، بضرورة التحرك العاجل على صعيد الأزمة بين مصر وإثيوبيا، مشدداً على أن الأوضاع في مصر لن تحتمل أي هزات متعلقة بالأمن المائي والغذائي للمصريين في ظل الأزمة العالمية التي تعاني منها الاقتصادات الناشئة بسبب التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا.
وأشارت المصادر إلى أن القاهرة لم تنجح حتى اللحظة في إقناع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بتصدّر أزمة سد النهضة، لتكون في مقدمة "أجندة" اهتماماتها بشأن المنطقة، لما تمثله من تهديد حقيقي لأمن المنطقة.
مصر تخشى فتح خطوط مع روسيا والصين
وكشفت المصادر أن القيادة السياسية المصرية تلقت مقترحات بشأن فتح خطوط مع كل من الصين، التي تملك نفوذاً واسعاً في إثيوبيا، وروسيا بشأن أزمة سد النهضة، خصوصاً في ظل إمكانية سعي موسكو للخروج من أزمتها الراهنة على حساب لعب أدوار دولية.
وأشارت إلى أن تلك المقترحات لم تلقَ ترحيباً من قِبل الرئاسة المصرية، خشية عدم القدرة على مواجهة الغضب الأميركي جراء ذلك، في ظل حالة المنافسة بين واشنطن وبكين من جهة، وحالة الصدام الأميركي الروسي من جهة أخرى على وقع الحرب الروسية في أوكرانيا.
ولفتت المصادر إلى أن المقترح جاء من منطلق التحركات الخليجية الأخيرة المناوئة للإدارة الأميركية عبر التوسع في العلاقات مع الصين، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن القوى الخليجية تملك من الإمكانيات ونقاط القوة ما يساعدها على مثل تلك المناورات، بخلاف مصر، التي لا تزال تراهن بدرجة كبيرة على دعم الولايات المتحدة لها في الملفات الاقتصادية.
وكانت مصادر مصرية خاصة قد كشفت في وقت سابق أن عدداً من الدول الأفريقية، من أعضاء تجمع حوض النيل، رفضت دعوة مصرية للمشاركة في مناورات عسكرية، وهي الخطوة التي كانت تراهن من خلالها القاهرة على فرض ضغوط على حكومة أديس أبابا.
وأشارت إلى أن الأمر اقتصر، بعد فشل إطلاق المناورات، على لقاءات مع مسؤولين عسكريين لبعض الدول الأفريقية في القاهرة، كان من بينهم قائد القوات البرية الأوغندية موهوزي موسيفيني، ورئيس الأركان السوداني محمد عثمان الحسين، خلال الشهر الماضي.
مصر تطرق الأبواب الإسرائيلية
مقابل ذلك، كشفت مصادر مصرية خاصة مطلعة على ملف الاتصالات بين القاهرة والحكومة الإسرائيلية، لـ"العربي الجديد"، عن تجديد مصر طَرق الأبواب الإسرائيلية، في محاولة لطلب الدعم والمساعدة.
وأشارت إلى أن كافة الجهود المصرية بشأن أزمة سد النهضة باتت تنحصر في محاولات فرض الضغوط على أديس أبابا من جانب الحلفاء الدوليين، لافتة إلى أن القاهرة ليست في جعبتها أي أدوات للضغط الحقيقي على إثيوبيا بخلاف ذلك، خصوصاً بعدما استبعدت القاهرة الخيار العسكري من حساباتها، بحسب المصادر نفسها. وأكدت ان ذلك الخيار من الناحية النظرية لا تزال فرصه قائمة طالما أنه لم يتم الوصول إلى مستوى 14 مليار متر مكعب من المياه المخزنة خلف السد، بحسب تقديرات فنية، ودراسات موقف أجريت في وقت سابق.
جددت مصر طَرق الأبواب الإسرائيلية، في محاولة لطلب الدعم والمساعدة بقضية سد النهضة
وأشارت المصادر إلى أن تجدد المطالبات المصرية أخيراً لكل من الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية، نابع بالأساس من اتصالات إثيوبية أخيراً مع الصين وأطراف دولية أخرى بشأن إقامة استثمارات متعلقة بمشروعات جديدة على نهر النيل، وهي في حال تنفيذها بدون التوصل إلى اتفاق ملزم بشأن النهر ستؤثر بالسلب على الأمن المائي المصري.
وحسب مصادر فنية، فإن هناك تخوفات مصرية، كشفتها أجهزة استخباراتية بشكل رئيسي من إمكانية بناء سدود أخرى في المستقبل، سواء في إثيوبيا، ومن جانب بعض دول حوض النيل التي قد تسعى لاستنساخ تجربة أديس أبابا، وعدم التنسيق معها، وعدم تطبيق الاتفاقيات المعترف بها.قضية دير السلطان