تواصل الولايات المتحدة، منذ قمّة البيت الأبيض الأميركية - الأفريقية التي عقدها الرئيس جو بايدن في 13 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، محاولة جذب القارة السمراء إلى الحضن الأميركي، الذي يرى في هذه القارة اليوم فرصة جيّدة للاستثمار مع اقتصادات تشهد النمو الأسرع في العالم، وأدواراً جيوسياسية متنامية، ومنافسة دولية متعاظمة.
ورغم الانسحاب الفرنسي المتسارع من أفريقيا، والذي لا يعمل الأميركيون بمنطق ملء فراغه، إلا أن انجذاب الدول الكبرى إلى أفريقيا، لا سيما الولايات المتحدة والصين وروسيا، يبلغ مداه، مع عودة أميركية قد يراها البعض متأخرة، أو لا تحمل ملامح ما يشبه "خطة مارشال" واضحة لدعم القارة، إلا أنها تسعى للحاق بالركب الصيني والروسي، الذي استفاد من قلة اكتراث أميركية بأفريقيا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
يدرّب متعهدون مدنيون أميركيون الشرطة في بوركينا فاسو
ويسعى بايدن إلى استخدام سلاح الدبلوماسية والمساعدات في هذه العودة الأميركية، معزّزاً ذلك بخطة لمكافحة الإرهاب في دول الساحل الأفريقي، وخصوصاً بوركينا فاسو والنيجر، خشية تمدّد نشاط الجماعات "الجهادية" المتطرفة المتزايد إلى خارج المنطقة، الذي قد يستدعي تمدداً روسياً، فضلاً عن مواصلة صدّ النفوذ الصيني الناعم.
زيارات أميركية وتعهدات مالية
ولم تخف واشنطن اهتمامها بالقارة الأفريقية منذ وصول بايدن إلى الرئاسة. وبعد القمة الأميركية الأفريقية الثانية (عقدت الأولى قبل 8 أعوام)، توالت زيارات المسؤولين الأميركيين إلى القارة، وعلى رأسهم نائبة بايدن كامالا هاريس، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي أجرى زيارة "تاريخية" إلى النيجر في مارس/ آذار الماضي، هي الأولى لوزير خارجية أميركي إلى هذا البلد، علماً أن النيجر حظي باهتمام خاص خلال قمة البيت الأبيض.
وتدرك إدارة بايدن وقبلها إدارتا بيل كلينتون وباراك أوباما الديمقراطيتان، حجم التحديات التي تواجه القارة الأفريقية، وحجم المقدرات أيضاً، التي من الممكن أن تنعكس حتى استثماراً انتخابياً جيّداً في الداخل الأميركي. ووظّفت لذلك الإدارات الأميركية الديمقراطية ميزانيات بقيت محدودة مقارنة بحجم القارة، ومشاريع وخططاً ظلّت تسير ببطء خلال العقود الماضية، ودعماً عسكرياً ظلّ مقيّداً بالقوانين الأميركية الحاجبة للمساعدات عن الأنظمة العسكرية.
لكن تزايد النفوذين الروسي والصيني دفع إدارة بايدن إلى الإسراع في ولايتها الأولى، لرسم خطة للتحرك في أفريقيا، بدءاً بالتعهدات المالية التي قدّمتها القمّة، ولحقت بها ما أعلنت عنها هاريس خلال زيارتها في بداية إبريل/ نيسان الحالي إلى تنزانيا وغانا وزامبيا، وصولاً إلى ما كُشف عن دعم أميركي عسكري لبوركينا فاسو لمحاربة المتطرفين. وتحاول إدارة بايدن التوأمة بين دعم مالي في قارة لا يزال يشكل حجم التجارة الثنائية بينها وبين الولايات المتحدة أقل من 2 في المائة، وبين الدعم العسكري دون الحاجة إلى رفع عدد الجنود الأميركيين في المنطقة. وفي الحالتين، تبدو الاندفاعة الأميركية ناقصة أو مبتدئة في سياق محاولة إعادة رسم إطار للعلاقات، فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة في جعلها مستدامة أو "عادلة" وهو ما يشكو منه قادة أفريقيا.
إدارة بايدن تساعد بصمت الطغمة العسكرية الحاكمة في بوركينا فاسو على محاربة "القاعدة" و"داعش"
ويدخل الشقّ العسكري في صلب خطة بايدن الذي يرى انسحاباً فرنسياً مدفوعاً بعوامل عدة، منه فشل باريس في محاربة الإرهاب طوال العقد الماضي. وتحاول واشنطن ملء الفراغ الفرنسي لاحتواء تمدد مرتزقة "فاغنر" في منطقة الساحل الأفريقي. ورغم الانسحاب الفرنسي، إلا أن القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، تعوّل على التعاون الاستخباري الأميركي الفرنسي للتحضير لدعم عسكري طويل الأمد لدول ساحل العاج وبنين وتوغو، المهدّدة بتمدد "جهادي" من دول الساحل، بحسب مسؤولين أمنيين أميركيين تحدثوا لوكالة "فرانس برس" قبل أيام، مؤكدين أن هذا الدعم "يعد مفصلياً" أيضاً لوقف تمدد عناصر "فاغنر" الموجودين في مالي، فيما تصف القيادة العسكرية الحاكمة في بوركينا فاسو الوجود الروسي العسكري غير النظامي على أراضيها، بـ"التدريب".
دعم إضافي من الخارجية الأميركية
وكانت هاريس قد تعهدت من غانا بتقديم مائة مليون دولار أميركي تُنفق على 10 سنوات لبناء مقاومة في أفريقيا الساحلية لتمدد الإرهاب من غرب أفريقيا، فيما تحاول وزارة الخارجية الأميركية تأمين دعم إضافي عبر ميزانية مكافحة الإرهاب الخاصة بها. وقال مساعد بلينكن لمنطقة غرب أفريقيا مايكل هيث: "نحاول الوقوف على احتياجاتهم". وفي ما خص "فاغنر"، أضاف: "ليسوا موجودين حتى الآن في مناطق غرب أفريقيا الساحلية (ساحل العاج، نيجيريا، موريتانيا،...)، لكننا نعلم أنهم يبحثون عن فرص لاستغلال عدم الاستقرار". ويعتقد المسؤولون الأميركيون أن مناطق غرب أفريقيا الساحلية قد تغرق بالعنف، إذا ما تمدّد من منطقة الساحل.
وفي هذا الإطار، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال"، في 8 إبريل الحالي، أن إدارة بايدن تساعد بـ"صمت" الطغمة العسكرية الحاكمة في بوركينا فاسو على محاربة "القاعدة" و"داعش"، رغم القوانين الأميركية التي تحظر معظم المساعدات العسكرية عن الأنظمة العسكرية، وبعد استبعاد قيادة هذا البلد التي جاءت بانقلاب عسكري في بداية العام الماضي، من اجتماعات دفاعية بقيادة أميركية.
وبحسب الصحيفة، فإن المساعدة يصعب توسيعها، وهناك قوات أميركية موجودة في واغادوغو، لكنها ممنوعة من تدريب نظيرتها المحلية، ما جعل الخارجية الأميركية تدفع لمتعهدين مدنيين لتدريب شرطة بوركينا فاسو على قتال المتطرفين. وبحسب الصحيفة، فإن إدارة بايدن تأمل بأن يكون هذا الدعم "المنخفض المستوى" كافياً لإقناع قادة هذا البلد بعدم توظيف "فاغنر". لكن نائبة بلينكن فيكتوريا نولاند قالت للصحيفة إن الهدف أيضاً "دعم بوركينا فاسو بالتزامها إجراء انتخابات ديمقراطية في 2024".
ويثير التوجس من دعوات الديمقراطية الأميركية قلق عسكر أفريقيا وقادتها، فيما ترى دول عدة من القارة، لديها سجل ديمقراطي "جيّد"، مثل نيجيريا، نفسها مهمشة من الاهتمام الأميركي المستجد. لكن ضابطاً كبيراً من بوركينا فاسو أكد للصحيفة "أنه بسبب وضعنا لا نزال بحاجة للأميركيين، لدينا علاقات جيّدة معهم". وبسبب العقوبات الأميركية بعد الانقلاب، فإن معظم العلاقات لا تجري عبر البنتاغون، بل عبر الخارجية. وقال مسؤول أميركي إن هذا البلد "لم يستسلم لفاغنر بعد"، وهو وضع يبدو مشابهاً في النيجر.
(العربي الجديد، فرانس برس)