كانت الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987، واحدة من أكبر التحدّيات التي واجهت دولة الاحتلال منذ تأسيسها، ودفعت إسحق رابين؛ وزير الحرب حين ذاك، للبحث عن خيارٍ سياسيٍ لاحتوائها، بعد فشله في إنهائها مع كلّ الوسائل العنيفة التي استخدمها، واعتبرت المعادل الموضوعي لحرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل في عام 1973، التي وقِّعَ بعدها بسنواتٍ اتّفاقية كامب ديفيد. ولاحقاً وقَّعت منظّمة التحرير الفلسطينية اتّفاق أوسلو مع دولة إسرائيل إثر حرب الخليج. وبينما كانت حرب 1973 التحريرية خيارًا سياسيًا عسكريًا مصريًا جاء بدولة الاحتلال لمفاوضاتٍ في وسط الطريق؛ بين معادلة النصر والهزيمة، أنتجت تسويةً مرضيةً نسبيًا لطرفي الحرب، لكنها كانت كارثيةً بالنسبة للعرب، بخروج مصر من الصراع. في حين كان توقيع اتّفاق أوسلو؛ من قبل القيادة الفلسطينية، مغامرةً كبرى في ظرفٍ دوليٍ وإقليميٍ صعبٍ، تفككت فيه منظومة حلفاء الفلسطينيين الدولية، وخسرت منظّمة التحرير الفلسطينية قواعدها العسكرية ووجودها على الأرض، ما أنتج معادلةً سياسيةً تميل كلّيًا لصالح دولة الاحتلال.
عمل إسحق رابين؛ عندما كان وزيرًا للدفاع أو رئيسًا للوزراء، على فتح ثلاث قنوات اتصالٍ بين السرية والعلنية لتحديد الخيار الأفضل، الذي يُمَكِّنُهُ من احتواء الانتفاضة الفلسطينية، والتعامل مع الضغوط الدولية التي أوجدتها، دون تقديم تنازلٍ جوهريٍ في قضايا الأرض والسيادة والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، خاصّةً حقّه في تقرير المصير. وكان جلَّ همه تجاوز منظّمة التحرير، لأنها تفتح الأسئلة الصعبة، المتعلقة بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وبالشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وحقوقه وهويته الوطنية التي ينكرها رابين، فبدأ بمحاولة الاتصال المباشر مع قيادة الانتفاضة، التي كان معظم قادتها في السجون الإسرائيلية، ذهب رابين بنفسه إلى سجن النقب وقابل الأخوة لؤي عبده، والمتوكل طه، ومحمد الحوراني، وموسى أبو صبحة، وكامل جبيل، ورضوان زيادة، وعز الدين العريان، ونايف سويطات، وجمال الديك، وبلال الشخشير، وثابت ثابت، وسامي الكيلاني، وبدران جابر، ممثلين عن جميع الفصائل الفلسطينية في السجن، وقال لهم "أنا هنا أريد أنّ أفتح حوارًا مباشرًا معكم، للوصول إلى اتّفاقٍ سياسيٍ ينهي الانتفاضة، ويمنحكم سلطات حكمٍ تحكمون فيها أنفسكم"، فرد لؤي عبده ردًا حاسمًا قاطعًا "لا يمكنك إجراء مفاوضات مع أيّ فلسطيني إلّا من خلال الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، منظّمة التحرير الفلسطينية، ورئيسها ياسر عرفات"، كان ثمن هذا الموقف إبعاد لؤي عبده، ورضوان زيادة، وبلال الشخشير إلى خارج الوطن، لكن رابين استمرّ بمحاولاته إيجاد قيادةٍ بديلةٍ للمنظّمة.
بل وضع السلطة الفلسطينية كلّها في موضع المُعيق والمُعطل لاستكمال مشروع التحرر الوطني، ويكاد يضع منظّمة التحرير الفلسطينية نفسها أيضًا
كانت مفاوضات واشنطن تراوح في مكانها، بقرارٍ غير معلنٍ من رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ إسحق شامير، الذي قبِل المشاركة في مؤتمر مدريد عام 1991 بضغطٍ أميركيٍ، وبعد سقوطه راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على إمكانية الوصول لقيادةٍ فلسطينيةٍ محليةٍ تقبل شروط الحلّ الإسرائيلي، وتتجاوز منظّمة التحرير. غير أنّه أقرَّ بالحقيقة التي حاول تجاهلها وأكدتها التسريبات التي نشرت في الآونة الأخيرة في إسرائيل عن مفاوضات أوسلو، أنّ الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني، لم يكن سوى واجهةً لمفاوضاتٍ غير مباشرةٍ تقودها منظّمة التحرير، فأيقن رابين أن استراتيجيته ومحاولاته تجاوز المنظّمة قد اصطدمت بجدار حضورها الصلب في الوطن، وبين صفوف الشعب الفلسطيني عامةً. فما كان منه سوى أنّ يذهب إلى مفاوضاتٍ مباشرةٍ معها، بعد أنّ استخدمت قيادة المنظّمة تكتيك إعاقة التقدّم في مساري التفاوض، الثنائي في واشنطن برعايةٍ أميركيةٍ روسيةٍ، والمتعدد الذي كانت جلساته في أماكن عديدةٍ، خاصّةً بعد انطلاق قناة التفاوض السري بين منظّمة التحرير والحكومة الإسرائيلية برعايةٍ نرويجيةٍ، هذا ما قاله أحمد قريع نفسه لأوري سافير، في الجولة السابعة من المفاوضات السرية، وفق ما ورد في كتاب قريع "مفاوضات أوسلو"، الأمر الذي استخدمه الوفد الإسرائيلي، حين علم مدى قلق القيادة الفلسطينية من مفاوضات واشنطن، وحرصها على قناة التفاوض السرية المباشرة، فظلَّ طيلة الجولات العشر من تلك المفاوضات يضغط على وفد منظّمة التحرير، برئاسة أبو العلاء بالتلميح بوقف التفاوض بالقناة السرية، وفقًا لمحاضر جلسات تلك الجولات، وكان ذلك التكتيك يدفع القيادة الفلسطينية إلى تقديم تنازلاتٍ على كلّ مقترحٍ يتقدّم به الوفد الفلسطيني، خاصّةً في موضوعات الأرض والقدس واللاجئين والانسحاب والمستوطنات، وكلّ ما يضمن الحفاظ على المصالح الصهيونية، وحرية حركة الجيش الإسرائيلي، وتحويل فكرة الانسحاب إلى إعادة انتشارٍ للقوات الإسرائيلية، والسيطرة على المعابر، ورفض فكرة قواتٍ دوليةٍ، واستمرار السيطرة الإسرائيلية على الأرض والمياه، وتحديد صلاحيات المجلس المؤقت، في حدودٍ وظيفيةٍ بتفويضٍ من دولة الاحتلال.
صيغة التفويض لصلاحياتٍ بعينها للسلطة الفلسطينية الوليدة، منحت الاحتلال موقع الشرعية في تفويض الحكم للسلطة، وأفقدت منظّمة التحرير الفلسطينية صفتها كحركة تحررٍ وطنيٍ، فلا يمكن لحركة تحررٍ وطنيٍ تأخذ تفويضها من المحتل أن تحافظ على نفسها كحركة تحررٍ وطنيٍ، وغير ذلك من القضايا التفصيلية، التي مكَّنَت دولة الاحتلال من التحكم بكلّ مكوّنات الواقع، بما يشمل مراحل تنفيذ الاتّفاق، إلى أن انتهى إلى سلطةٍ بلا سلطة، كما قال الرئيس أبو مازن نفسه في أكثر من مناسبةٍ.
كانت اللحظة الحاسمة لتحوّل موقف رابين من منظّمة التحرير، بعد اللقاءات الاستطلاعية، التي فتحت بقنواتٍ خلفيةٍ، مع قياداتٍ فلسطينيةٍ مقربةٍ من الرئيس ياسر عرفات، كان أنجحها لقاءات أحمد قريع مع مائير هرتشفليد ورون بوندك، تبيّن لرابين فيها أن قيادة منظّمة التحرير لديها القدرة والمرونة للتعامل مع الأطروحات الإسرائيلية أكثر من وفد الداخل، الذي يفاوضه في واشنطن، كما أنّ قيادة المنظّمة؛ بما فيها الرئيس عرفات، أقدر على تحمّل مسؤولية الاتّفاق، بحكم مكانتها بين الفلسطينيين، وفي العالم العربي، وعلى المستوى الدولي، كذلك لا تحتاج المنظّمة إلى كثيرٍ من التحضير للقيام بمسؤوليات الأمن، بحكم قواتها العسكرية المدربة، وغير ذلك من المزايا التي لن تُنهي الانتفاضة فقط، بل ما عرف بالثورة الفلسطينية، وتعطي انطباعًا بانتهاء القضية الفلسطينية، وتفتح الطريق أمام الدول العربية لإقامة علاقاتٍ مع إسرائيل.
راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على إمكانية الوصول لقيادةٍ فلسطينيةٍ محليةٍ تقبل شروط الحلّ الإسرائيلي
من جهةٍ أخرى؛ وعلى خلفية قلق الرئيس عرفات من محاولاتٍ أميركية وإسرائيلية لتشكيل قيادةٍ فلسطينيةٍ من الداخل، عمل الرئيس عرفات وفق سياسةٍ تؤكد قيادته غير المباشرة لوفد واشنطن، ومنع أيّ تقدّمٍ حقيقيٍ في المفاوضات هناك، خاصّةً بعد سقوط حكومة شامير. وباتت الشكّوك حول محاولات إيجاد قيادةٍ بديلةٍ تضغط عليه وعلى قيادة المنظّمة، كان هذا القلق واحدًا من أقوى الدوافع التي دفعت الرئيس عرفات لقبول قناة الحوار المباشر والسري، وربّما كان لها الأثر الأكبر في قبوله توقيع اتّفاق أوسلو. ولم يكن ذلك بمعزلٍ عن الضغوط المالية والسياسية، التي رزحت تحتها القيادة الفلسطينية، من دولٍ عديدةٍ عربيةٍ وغير عربيةٍ، إلى جانب افتقاد القيادة إلى حلفائها التقليديين، خاصّةً بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، وهزيمة العراق، وانقسام العالم العربي والإسلامي بعد حرب الخليج بين معسكراتٍ دوليةٍ متصارعةٍ.
اليوم؛ بعد ثلاثين عامًا على الفشل في تحقيق أيٍّ من أهداف المغامرة السياسية، التي اندفعت إليها منظّمة التحرير، ورغم قرارات المجلس الوطني، واللجنة التنفيذية نفسها، بسحب الاعتراف بدولة الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، لا تكتفي القيادة الفلسطينية بالتسمك بما تسميه التزامات منظّمة التحرير الفلسطينية، بل تطالب حركة حماس، وجميع القوى الفلسطينية الإعلان على الموافقة على تلك الالتزامات، كأحد شروط الموافقة على المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، رغم تحلل حكومة الاحتلال من التزاماتها في اتّفاق أوسلو، وتبنّي خطة الحسم لتصفية القضية الفلسطينية، ما يجعل التزامات منظّمة التحرير من طرفٍ واحدٍ، وخلافًا لما يُوحي به اصطلاح التزامات منظّمة التحرير من شرعية التسليم بالمنظّمة ممثّلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، فهو اصطلاحٌ يستخدم بأسلوبٍ خطيرٍ هنا، يتخطى شرعية المنظّمة، وحقوق الشعب الفلسطيني، وفقًا للقانون الدولي، وقرارات الجمعية العامة، ومجلس الأمن الدولي، والثوابت الفلسطينية، إلى دعوةٍ مجانيةٍ دون مقابل، لفرض قيودٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ على الشعب الفلسطيني، ليس أقلّها وقف المقاومة الفلسطينية، إنّ المقصود بالتزامات منظّمة التحرير، هي نفسها نصوص اتّفاق أوسلو، التي باتت تُقيد التحرر الوطني، وتُنتجُ صيغة العدوّ الشريك الهجينة، التي لا يمكن أن تستمرّ، وجعلت اتّفاق أوسلو يحمل جينات فشله، بعد أن منح دولة الاحتلال الزمن اللازم لتغير الواقع الديمغرافي، والسياسي على الأرض، حيث توسع الاستيطان في الضفّة الغربية، ليحول دون قيام دولة فلسطين، والقدس عاصمتها، واستباح المسجد الأقصى، وقسمه زمانيًا ومكانيًا.
يفسّر بعضهم تمسك القيادة الفلسطينية باتّفاق أوسلو بفقدان الخيارات، كما جاء على لسان أحد أقطاب القيادة، غير أنّ الحقيقة تتعلق برفع قيمة الحكم على قيمة الأرض والتحرير لديهم، التي تستخدم سياسةً انتظاريةً، تعتمد على وهم انتظار تغيراتٍ في الواقع الإقليمي والدولي والإسرائيلي، خاصّةً باتجاه الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، للانتقال دون مخاطرةٍ من استراتيجيةٍ سياسيةٍ إلى أخرى. الأمر الذي بات واحدًا من أهمّ عوائق التحرر الوطني، بل وضع السلطة الفلسطينية كلّها في موضع المُعيق والمُعطل لاستكمال مشروع التحرر الوطني، ويكاد يضع منظّمة التحرير الفلسطينية نفسها أيضًا، بل وحركة فتح؛ التي تُؤخذ بكلّ قوةٍ خارج وظيفتها التحررية. ولا يبدو أنّ القيادة الفلسطينية تعمل على الاستفادة من التغيرات الدولية، على خلفية الحرب الأطلسية الروسية، ربّما لأنّها غير مقتنعةً أنّ الواقع الجديد قد رفع وزن القضية الفلسطينية دوليًا؛ عكس ما يروج له بعضهم، فحالة الاصطفاف الدولي تتجه إلى عالمٍ متعدد الأقطاب، ما يخلق فرصًا حقيقيةً، لدولٍ عربيةٍ وإقليميةٍ لتكون ضمن أحد الأقطاب الكبرى، وربّما في قيادته، وهذا يضع فلسطين في صف العالم الناهض، كما تدخل دولة الاحتلال إلى أزمةٍ داخليةٍ عميقةٍ، بشأن سؤال الهوية بين الصهيونية الدينية والقومية.