اتفاقيات أبراهام: التطبيع وتوجهات الرأي العربي

25 سبتمبر 2022
من أمام السفارة الأميركية في تونس (ياسين غيدي/الأناضول)
+ الخط -

ارتبطت اتجاهات الرأي العربي نحو القضية الفلسطينية، في جانب منها، بظروف الصراع وبيئته المحيطة، بما فيها من محطات تاريخية ومواجهات وتغيرات طرأت على مواقف ومصالح أطراف الصراع. كما لم يقتصر تشكّل الرأي العام على الوقائع التاريخية، إذ يخضع إلى عمليات المعالجة والتوظيف والتزييف أحياناً، ما يخلق تفاوتاً في تقدير الرأي العام، بوصفه مرتبطاً بعوامل متشابكة قابلة للتغيير، حتى إن ظل في حالة ثبات نسبي لفترات طويلة.

كما تؤثر جولات المواجهة، بما فيها من محطات الانتصار والهزيمة، على الرأي العام. في السياق تأتي اتفاقيات التطبيع الإقليمي الأخيرة، المعروفة باسم أبراهام، لتستكمل مسيرة التطبيع المتنامية منذ مراحل التسوية، التي تزامنت مع تغيرات عميقة على المستوى الرسمي. في هذا السياق، لا يمكن تجاهل تبعات تلك الاتفاقيات على اتجاه الرأي العام بشأن القضية الفلسطينية، حتى إن فرضت تلك الاتفاقيات من قبل البناء الفوقي، أي أبرمتها نظم منفصلة في اتخاذ القرار عن شعوبها.

رغم صعوبة قياس اتجاهات الرأي العام بدقة، على اعتبار أن الشعوب "ليست كتلة صماء واحدة"، إلا أن هناك مؤشرين أساسيين، يمكن الاستناد إليهما من أجل قياس أثر اتفاقيات التطبيع على اتجاهات الشعوب، أولهما أبحاث ومؤشرات الرأي التي تقيس الاتجاهات والمواقف تجاه الصراعات في المنطقة، من ضمنها القضية الفلسطينية. الثاني مؤشرات تفاعل الشعوب مع نضال الشعب الفلسطيني، بما فيها مؤشرات التضامن من تعبير ومساندة في فضاءات متنوعة. يمكن من خلال المؤشرين بالتزامن مع قراءة محطات الصراع العربي الإسرائيلي، ومضامين ومستهدفات اتفاقيات السلام وأشكال التطبيع، التوصل إلى تبعات محطات التطبيع الأخيرة.

منطلقات رفض التطبيع رسمياً وتأثيرها شعبياً
بعد عقدين على اتفاقية كامب ديفيد؛ لم تستطع إسرائيل اختراق المجتمعات العربية، بل فوجئت بحضور القضية الفلسطينية القوي، حين اندلعت مظاهرات واسعة تساند الانتفاضة الفلسطينية الثانية. لم تحظ الأصوات الداعية إلى التطبيع بوزنٍ يذكر حتى منتصف التسعينيات، إذ قوبلت بالرفض والاستهجان (كما التطبيع الإلكتروني على فيسبوك اليوم)، وبقيت محدودة ومحاصرة، ومنها جماعة كوبهاجن في مصر، رغم محاولتها طرح التطبيع مقترنة بمفاوضات السلام العربي؛ اتفاق أوسلو ومدريد ووادي عربة وغيرها، في تشابه مع طرح اتفاقيات التطبيع الأخيرة، وربطها بتسوية القضية الفلسطينية ووقف الاستيطان.

ارتبط دعم القضية الفلسطينية بميراث طويل من العمل الثقافي والسياسي، تبلور مع تاريخ الصراع الممتد، شاركت بعض النظم العربية في صياغته عبر خوضها حروبا متتالية، تعبيراً عن أمنها القومي، أو بحثاً عن مكاسب سياسية تعزز شرعيتها نتيجة تبنّيها موقفا يرفض التطبيع، مثل دول الطوق التي دخلت في مواجهات عسكرية مع إسرائيل. رغم تراجع بعض المواقف الرسمية، ظلت هناك حسابات استراتيجية تعتبر الانجراف إلى علاقات تطبيع كاملة وشعبية أمراً خطيراً.

التطبيع من مرحلة التسوية إلى اتفاقيات أبراهام
مع مراحل التسوية وتفكك النظام الرسمي العربي، بدأت دعاوى التطبيع تنشط مجدداً، لكن جددت الثورات العربية روح الشعوب في التحرر، عبر برنامج حمل أفقا اجتماعيا وعروبيا وإنسانيا، يربط بين مواجهة الاستبداد وقوى الهيمنة والصهيونية، وسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
رأت إسرائيل في الثورات العربية مخاطر وفرصاً في ذات الوقت، تؤثر على اتجاهات الرأي نحو القضية الفلسطينية، بل وحدود وجودها في المنطقة وتأثيرها.

أولاً: تمثلت المخاطر في احتمالية فرز نظم ديمقراطية تترجم مواقف الشعوب المعادية لإسرائيل، والمساندة للحقوق الفلسطينية، خاصة مع انتشار خطاب يربط بين برنامج الثورة والقضية الفلسطينية، ويرفع شعارات، لا تحرير لفلسطين إلا بإقامة الديمقراطية والتحرر من نظم الاستبداد. كما رفعت شعارات: تحرير فلسطين يبدأ من تحرير القاهرة، أو من أجل فلسطين نريد إسقاط النظام كما في سورية، مثلت هذه الشعارات مدخلاً لتحليل الوضع في إطار شامل، يربط بين ما هو ديمقراطي وتحرري.

التقت تيارات يسارية وإسلامية حول معاداة الاحتلال، كانت قضية فلسطين محورية ضمن خطابات الانتفاضات العربية، متجاوزة التصورات القُطرية، كما ظهرت فاعليات الاحتجاج بقوة أمام السفارات الإسرائيلية، بل واقتحام مقرها في القاهرة في سبتمبر 2011.

ثانياً: تجلت الفرص الإسرائيلية في فرض التطبيع، أولاً مع احتمالية تغيير بعض النظم التي اتخذت من القضية الفلسطينية إطاراً للحشد السياسي، وثانياً مع انهزامات وانكسارات الثورات، ومجيء نظم استبدادية، وثالثاً مع تضخم الأزمات المحلية.

ستؤثر اتفاقيات التطبيع فيما يخص مجالات الثقافة والتعليم بفاعلية عالية على المدى البعيد، إذا أخذت الدول المطبعة خطوات عملية في ذلك، محققة أهداف إسرائيل التي ضمنتها في أغلب اتفاقيات السلام

هذه الفرص تعمّق الانكفاء على الداخل، وتحدّ من حرية التعبير، ما يسمح لإسرائيل باستكمال مخططات التطبيع وشموله مجالات عدة. في هذا الإطار والظرف السياسي، حملت اتفاقيات أبراهام تحولاً ضخماً في مسيرة التطبيع، سيترك تبعات لاحقة في تفاعلها مع مجمل الظروف المذكورة مسبقاً.

اتفاقيات التطبيع واتجاهات الرأي نحو القضية الفلسطينية
تتوقف تبعات اتفاقيات التطبيع على اتجاهات الرأي العربي نحو القضية الفلسطينية بجملة من العوامل، أولها معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قدرة المقاومة على إنجاز نجاحات تحلق حولها. ثانيها قدرة حلفاء القضية الفلسطينية على مقاومة التطبيع، وانتزاع حق الشعوب في التعبير والتأثير على متخذي القرار، أو إبدال السلطات القائمة وتغير سياساتها تجاه إسرائيل. ثالثها مدى إمكانيات الأطراف الموقعة على اتفاقيات التطبيع تشكيل الرأي العام، وتنفيذ مخططاتها في فرض برامج ثقافية وتعليمية وإعلامية تروج للتطبيع.


عموماً تمثل اتفاقيات التطبيع الأخيرة نقلة ومرحلة تحمل مخاطر بما يختصم من حجم تأييد القضية الفلسطينية، خاصة إذا بنيت تحالفات مستفيدةً من أشكال التطبيع في مجالات الاقتصاد والاستثمار والثقافة والتعليم والاتصال، كونها سنداً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لمشروعات التطبيع، تؤثر في اتجاهات الرأي نحو القضية الفلسطينية، كما تطاول تبعات التطبيع المرتبطين بالأنشطة المشتركة بين إسرائيل والمطبعين، خاصة مع توجه إسرائيل ودعم أميركا مشروعات السوق الشرق أوسطية، التي تدمج إسرائيل وترسخ وجودها.

تبعات التطبيع الثقافي وتأثيرها على الرأي العام العربي
ستؤثر اتفاقيات التطبيع فيما يخص مجالات الثقافة والتعليم بفاعلية عالية على المدى البعيد، إذا أخذت الدول المطبعة خطوات عملية في ذلك، محققة أهداف إسرائيل التي ضمنتها في أغلب اتفاقيات السلام، بداية من كامب ديفيد إلى اتفاقية أبراهام، سواء في نصوص أو مبادئ الاتفاقيات، التي تشمل أهداف تعزيز الصداقة، ووقف أعمال التحريض وأشكاله، وإقامة علاقات حضارية وثقافية.

هناك تغيرات أوضح وسريعة الأثر، منها التغيير في الخطاب والمحتوى الإعلامي، رغم توفر وتنوع مصادر المعرفة فى ظل ثورة المعلومات، إلا أن هذا لا يلغي عمليات التأطير المنظمة التي تقودها مؤسسات وأجهزة الدولة، فهي تمتلك أجهزة تصيغ الثقافة وتخلق قابلية لدى مواطنيها على تقبل الأفكار وترويجها، إذ تخلق بيئة ثقافية تدعم توجهاتها.

في ضوء ذلك؛ تكون الكفة راجحة لصالح التطبيع على المدى البعيد، إن لم نقاوم هذا النهج، خاصة مؤسسات الإعلام والتعليم، التي تؤثر في تكوين وعي الأجيال والرأي العام، هنا تصبح مهمة مقاومة التطبيع وتزييف الوعي مهمة أساسية رغم التحديات، مثل ضعف مؤسسات حلفاء الشعب الفلسطيني، وسيادة نظم استبدادية قمعية لا تسمح بحرية التعبير، ما يجعل القدرة على التعبئة والحشد والتأثير في الرأي العام قياساً بالأجهزة الرسمية ضعيفا وغير متوازن.

تمثل طبيعة الكيان الصهيوني وممارساته العدائية والعنصرية المتجددة، أداة تجعل الشعوب قادرة على التقييم والقياس واتخاذ مواقف مبدئية، تنحاز إلى الحق الفلسطيني

أيضاً؛ معظم مؤسسات التعليم والإعلام تحت سيطرة السلطات الحاكمة، صحيح أن حجم التغييرات في المناهج التعليمية ما زال محدوداً، لكنه عرضة للتوسع. غيرت الإمارات؛ على سبيل المثال، الخطاب الإعلامي والمناهج الدراسية، إذ وظفت شعارات التسامح وقبول الآخر والتنوع الديني والثقافي، بغرض قبول التطبيع من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام والإنتاج الثقافي بسرعة لافتة.

رغم كل ذلك؛ هناك عدد من الحقائق والفرص المرتبطة بسيناريو مقاومة التطبيع والحفاظ على اتجاهات الرأي الداعم للقضية الفلسطينية، منها:

أولاً: وجود مخزون معطل من الغضب ضد إسرائيل، يتخفى أحياناً في ظل حكم النظم السلطوية، لكنه يعلن عن نفسه في مواقف المواجهة مع العدو، تمثله حالات التضامن مع تفاعلات ونضال أطراف الساحة الفلسطينية، سواء في الداخل المحتل أو في قطاع غزة، يترجم التضامن عبر وسائل متعددة، منها فاعليات منظمة أو عبر ساحات التواصل الاجتماعي، كلاهما يظهر ما يمكن من تضامن، ويرفض التطبيع، فضلاً عن مظاهرات؛ بعضها محدود، شهدها الأردن والمغرب والسودان والبحرين وقطر ضد التطبيع، تحمل مؤشراً عن توجهات الرأي نحو القضية الفلسطينية في ظل التطبيع.

ثانياً: تمثل طبيعة الكيان الصهيوني وممارساته العدائية والعنصرية المتجددة، أداة تجعل الشعوب قادرة على التقييم والقياس واتخاذ مواقف مبدئية، تنحاز إلى الحق الفلسطيني، في مواجهة الاعتداء والقمع وسياسة حرق الأرض والاستيلاء عليها والتهجير.
هناك حقيقة أخرى، إسرائيل تواجه الدول العربية عموماً، تسعى إلى الهيمنة على المنطقة ككل، بوصفها كياناً استعمارياً، المشروع الصهيوني يتجاوز أراضي فلسطين التاريخية بمطامع أوسع، تأخذ بعض الدول ذلك في الاعتبار، خاصة فيما يؤثر على وزنها الإقليمي، يلحظ ذلك مثلاً في موقف مصر والسعودية المتحفظ على مشروع الناتو العربي، الذي تأجل، أي أن الواقع بتجلياته؛ من استمرار ممارسات الاحتلال، يظل مورداً لتشكيل اتجاهات الرأي الشعبي العربي، بل والعالمي.

ثالثاً: تمثل قياسات ومؤشرات الرأي العربي وأبحاث تختص بقياس الاتجاهات نحو القضية الفلسطينية أداة استبصار، لمعرفة تبعيات التطبيع على توجهات الشعوب العربية، تظهر معظمها؛ على اختلاف القائمين عليها، أن الاتجاه الغالب لدى الشعوب العربية ما زال يرفض التطبيع ويساند القضية الفلسطينية.
هناك مؤشر ثالث بالغ الأهمية، اعتبار الشعوب العربية إسرائيل في موقع العدو، يمكن الارتكاز هنا على المؤشر العربي، الذي يصدره المركز العربي للسياسات، إذ توضح بياناته في الفترة من 2011 وحتى 2020 موقف الشعوب العربية الرافض للاحتلال، وتقديرا عاليا للنضال الفلسطيني، واعتبار إسرائيل ضمن الدول الأكثر عداء للعرب، أي خطراً استراتيجياً، ما يعني رفضا واسعا للتطبيع وتأييداً لقضية الشعب الفلسطيني.

رابعاً: يتزامن توسع الدعم الشعبي مع تطور الأحداث وقدرة القوى الفلسطينية على المواجهة وعلى تحقيق الانتصارات في مواجهة إسرائيل، كان استشهاد شيرين أبو عقلة ونضال أهالي القدس والشيخ جراح والمقاومة الباسلة في غزة ضد الاحتلال، حدثاً عربياً وعالمياً مؤثراً في حركة التضامن، كما عادت قبل سنوات أنشطة مقاطعة إسرائيل على مستوى دولي إلى واجهة الأحداث.

إجمالاً؛ هناك فرص ومؤشرات إيجابية على قدرة مقاومة التطبيع شعبياً، وعلى وقف آثاره السلبية على الاتجاهات الداعمة للقضية الفلسطينية، انطلاقاً من حقائق الواقع، ومن حقوق الشعب الفلسطيني العادلة، واعتماداً على قدرة الشعب الفلسطيني على النضال والصمود، الذي يبقي على الدعم الشعبي العربي والعالمي.