بلا ضجة وبشكل بعيد عن الإعلام، مررت السلطات الحاكمة في السودان، أول من أمس الإثنين، قرار إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل في صيغته النهائية، لتُسجِل الحكومة المدنية تناقضاً جديداً في ملف التطبيع مع إسرائيل، ولتزيد من الاتهامات الموجّهة لها بتنفيذ إملاءات خارجية، تستهدف عبرها تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد. وليست الحكومة وحدها متهمة، بل أيضاً الأحزاب المكونة لها، وخصوصاً التي لها مواقف ثابتة وعلنية برفض التطبيع مع الاحتلال، والتي لم يُسجل لها أي اعتراض واضح على هذا المسار.
وجاء إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل في جلسة مشتركة أول من أمس الإثنين، بين مجلسي السيادة والوزراء، ترأسها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان. ويُعد اجتماع المجلسين بمثابة سلطة تشريعية في ظل غياب البرلمان، مع عدم تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية لعام 2019 والتي تحكم عمل الفترة الانتقالية الحالية. وكان مجلس الوزراء برئاسة عبد الله حمدوك قد أجاز أولاً مشروع إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل، وذلك في السادس من إبريل/ نيسان الحالي، قبل أن يحيله إلى اجتماع المجلسين الإثنين.
وصدر قانون مقاطعة إسرائيل في عام 1958 أثناء حكم رئيس الوزراء عبد الله خليل، الموالي لحزب الأمة القومي، ويتكوّن من 7 مواد أساسية تحظر جميعها كافة أشكال التواصل مع إسرائيل. ويحدد القانون عقوبات للمخالفين تصل إلى السجن 10 سنوات، أو غرامة مالية تحددها المحكمة، أو العقوبتين معاً.
تأخر أعضاء مجلسي السيادة والوزراء في الإعلان الرسمي عن إقرار قانون إلغاء المقاطعة
وعلى الرغم من تبعات المصادقة النهائية على قانون إلغاء المقاطعة، فإن أعضاء مجلسي السيادة والوزراء تأخروا كثيراً في الإعلان الرسمي عن ذلك، حتى خرج وزير العدل نصر الدين عبد الباري بتغريدة على حسابه في "تويتر"، يعلن فيها إجازة الهيئة التشريعية لجملة من القوانين، ذاكراً منها بشكل عرضي مشروع قانون مقاطعة إسرائيل. من جهته أصدر المتحدث الرسمي باسم مجلس السيادة محمد الفكي سليمان بياناً تطرق فيه باستفاضة لكل القوانين التي أجيزت في ذلك الاجتماع، لكنه مرّ عرضاً وبطريقة مبهمة على إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل، وأشار فقط إلى أن الاجتماع ناقش إلغاء القانون، والذي جاء نتيجة ثمرة نقاشات طويلة بين مجلسي الوزراء والسيادة، على حد ما جاء في البيان، بينما لم يُصدر مجلس الوزراء أو المتحدث باسمه أي توضيح في هذا الخصوص.
ولمجلس الوزراء السوداني ذي الصبغة المدنية تاريخ من التناقض في موضوع التطبيع، إذ رفض في البداية تماماً فكرة التطبيع مع إسرائيل، وذكر في بيان له عقب لقاء البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير/ شباط من العام الماضي أن أمر العلاقات مع إسرائيل هو شأن يتعدى اختصاصات الحكومة الانتقالية ذات التفويض المحدود، ويجب أن ينظر فيها الجهاز التشريعي والمؤتمر الدستوري. لكن مجلس الوزراء حاد عن ذلك بموافقته على مبدأ التطبيع وشارك حمدوك في مكالمة هاتفية جماعية في أكتوبر/ تشرين الأول مع نتنياهو والبرهان، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
الانتكاسة الثانية، بتقدير البعض، من قِبل الحكومة المدنية، حينما اعترضت بصورة مستمرة على تدخّل العسكريين في مجلس السيادة، وأولهم البرهان، في اختصاصات مهام مجلس الوزراء فيما يخص إدارة العلاقات الخارجية. لكن ذلك الاعتراض تلاشى، حين صمتت عن مواصلة البرهان عمله في الملف والإشراف عليه، وعدم الاكتفاء باللقاء الأول مع نتنياهو، إذ توجّه إلى الإمارات في سبتمبر/ أيلول الماضي، وقاد بنفسه مفاوضات التطبيع التي شارك فيها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون بقوة دفع إماراتية أرادت إلحاق السودان بعمليات التطبيع تحت مظلة ما سمي بـ"اتفاقيات ابراهام". كذلك سمح المكون العسكري بزيارة وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الخرطوم في يناير/ كانون الثاني الماضي، ولقاءاته المحصورة مع العسكر.
تناقض ثالث اعترى سلوك الحكومة المدنية في التعاطي مع ملف التطبيع مع إسرائيل، فبعد أن اعتبرت كل ما حدث من خطوات إجراءات أولية، تعهدت للرأي العام بترك ملف التطبيع بعد ذلك للمجلس التشريعي، غير أنها لم تلتزم بذلك وواصلت السير في ذات الاتجاه، وصادقت على إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل قبل مصادقة مجلس السيادة.
عدم اتساق من نوع آخر، لا يختص بمجلس الوزراء، إنما بالأحزاب المُكونة له، فبعضها لديها مواقف ثابتة ومبدئية من رفض التطبيع مع إسرائيل، وتعلن ذلك صراحة في بياناتها الصحافية، وفي الوقت نفسه لا يذكر لها اعتراض قوي في الاجتماعات الرسمية، مثل حزب الأمة القومي الذي له أدبيات سياسية في مقاطعة إسرائيل، وتشغل نائب الرئيس فيه مريم الصادق المهدي منصب وزيرة الخارجية الحالية، ويتم كل شيء خاص بالتطبيع تحت سمعها وبصرها. وحتى بعد إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل، لم يُصدر الحزب أي بيان أو ردة فعل، وكذلك حال أحزاب أخرى، مثل أحزاب البعث بمسمياتها المختلفة والحزب الناصري.
ومهما يكن من أمر، فإن مشروع إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل سيصبح أمراً واقعاً بمجرد نشره في الجريدة الرسمية ليدخل بعد ذلك حيز التنفيذ. ومع ذلك التسارع، تُنتظر خطوات أخرى في مسار التطبيع، قد تبدأ بزيارة وفد رسمي حكومي سوداني إلى إسرائيل، إذ تشير بعض المعلومات إلى أن الوفد سيكون برئاسة وزير الدفاع أو مدير المخابرات، وأن الوفد كان على أهبة الاستعداد للسفر إلى تل أبيب في الفترة الماضية، قبل أن يتلقى نصائح بتأجيل الزيارة إلى حين إلغاء قانون المقاطعة. كما يتأهب مناصرون للتطبيع مثل أبو القاسم برطم، النائب البرلماني في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، لزيارة "ذات طابع شعبي" إلى إسرائيل، كما أعلن في وقت سابق.
أما المتوقع الثاني، فهو زيادة وتيرة التعاون الأمني بين البلدين، خصوصاً في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية، وفي مكافحة الهجرة غير النظامية وتجارة السلاح، وفي هذا المضمار قد يبدو واضحاً أن أحد أهداف إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل هو السماح بعودة آلاف اللاجئين السودانيين في إسرائيل، والتي تنوي تل أبيب إبعادهم، لكنها تخشى من ردة فعل المنظمات الدولية، إن أعادتهم إلى الخرطوم وواجهوا عقوبات بسبب قانون مقاطعة إسرائيل.
النقطة الأهم في طريق التطبيع مع إسرائيل، هي نقطة تبادل فتح المكاتب التجارية بين الخرطوم وتل أبيب، والتي تعد خطوة قبل الأخيرة لتبادل السفارات. وطبقاً لمعلومات "العربي الجديد"، فإن توجّه الحكومة السودانية ينصبّ حالياً على تبادل المنافع التجارية، على أن تتمسك بالحد الأدنى من وعودها بترك التقرير بشأن الإعتراف الكامل بإسرائيل، واتخاذ القرار بشأن تبادل السفارات، للمجلس التشريعي، هذا إذا لم يطرأ جديد يدفعها للتراجع كما حصل في السابق.
حزب "الأمة": لن نسكت على ما حدث، وقد نعيد النظر بالعلاقة مع الحكومة
وتعليقاً على هذا التطور، قال حزب الأمة القومي، الشريك الرئيس في الحكومة، إن موقفه المعارض للتطبيع لم يتزحزح، وإن ما أقدمت عليه الحكومة قد يدفعه إلى إعادة النظر في العلاقة بينه وبينها. وأوضح الأمين العام للحزب الواثق البرير، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الحكومة بشقيها السيادي والتنفيذي تتجاهل كل الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وتمضي في ملف بعيد تماماً عن اهتمامات المواطن مثل موضوع التطبيع، الذي قال إنه يزيد الانقسام وسط الشعب ووسط القوى السياسية بصفة خاصة.
وأعلن البرير أن مؤسسات الحزب ستجتمع في الساعات المقبلة لتحديد موقف واضح من التطورات السياسية الأخيرة في ملف التطبيع، كاشفاً أن مريم الصادق المهدي، نائب رئيس الحزب، سجلت اعتراضاً قوياً على إجازة مشروع قانون إلغاء مقاطعة إسرائيل، من بين عدد من الوزراء، متعهداً بعدم صمت الحزب بعد الآن على ما حدث، مع عدم استبعاده أن يعيد الحزب النظر بعلاقته كلياً بالحكومة.
ولفت إلى أنه مع التطورات المتسارعة باتت الاحتمالات مفتوحة على كل شيء، ما يقود الحزب إلى التفكير في سياقات مختلفة لمعارضة التطبيع، منتقداً بشدة عدم الشفافية الحكومية التي لم تكشف للرأي العام حتى الآن المصالح التي تُجنى من العلاقة مع إسرائيل أو الملفات والاهتمامات المشتركة بينها وبين السودان. كما انتقد الحكومة لعدم اتّباعها الخطوات المؤسساتية في صنع القرار، ما يؤكد، حسب قوله، على حقيقة واحدة وهي أن هناك مخططاً يعد للسودان ويتم تغييب القوى الرئيسية ذات الثقل السياسي والشعبي منه، دون التوافق على برنامج الحد الأدنى، هذا إن لم تترك المواضيع الحساسة إلى الحكومة المنتخبة.
أما المحلل السياسي عبد الله رزق فقال لـ"العربي الجديد" إن تعجيل الخطى والهرولة نحو إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل تعني أن أصحاب القرار أرادوا الوصول بالملف إلى محطته الأخيرة، وفي الوقت نفسه يدل ذلك على أن القرار عبارة عن إملاء خارجي بعيد عن أجندة الوطن والثورة، مشيراً إلى أنه من الصعب التكهن بالخطوة المقبلة وإمكانية عقد اتفاقات تعاون، فربما البرهان وحمدوك لا يعلمان بذلك لأن كل شيء يُطبخ في الخارج من قوى إقليمية ودولية على رأسها دولة الإمارات.
واستنكر رزق بشدة أسلوب التضليل وحجب المعلومات الذي تمارسه الحكومة في ملف التطبيع، وزياراته المتبادلة، لدرجة أن السودانيين صاروا يجدون المعلومات في الصحف الإسرائيلية، مضيفاً أن الحكومة المدنية لا تلام ككل، إنما يلام رئيسها عبد الله حمدوك الذي تماهى مع ما يقوم به البرهان من استجابة لمطالب الخارج، ليس في العلاقة مع إسرائيل فقط، بل كذلك في مجال تطبيق الوصفة الاقتصادية لصندوق النقد الدولي.
وحول موقف أحزاب "قوى الحرية والتغيير" التي تعارض فكرة العلاقات مع إسرائيل، أشار إلى أن تلك الأحزاب اكتفت ببيانات، منبهاً إلى أن عدداً من الوزراء ومن خلال اجتماع مجلس السيادة والوزراء عبّروا صراحة عن رفضهم، لكنه أوضح أن "قوى الحرية والتغيير" تحتاج إلى إعادة فحص علاقتها بالحكومة لأن الكثير من أحزابها اكتشف أن الجهات التي تصنع القرار ليست "الحرية والتغيير"، إنما جهات أخرى حوّلت بعض القوى إلى أدوات تُنفذ ما يطلب منها.