"واقع شيزوفريني متشعب"، هكذا تصف الكاتبة الصحافية، يكاترينا بوليبوبوفا، المتحدرة من إقليم ترانسنيستريا في مولدوفا، حالة سكان المنطقة المنفصلة عن كيشيناو باسم "جمهورية بريدنيستروفيه" وغير المعترف بها. ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، تتزايد المخاوف من توسع رقعة أعمال القتال إلى الأراضي المولدوفية. وتقول بوليبوبوفا، في حديث مع "العربي الجديد" من مدينة تيراسبول عاصمة الإقليم: "يستعد السكان لموسم الزراعة من جهة، ويحضرون حقائبهم تحسباً لتصاعد النزاع من جهة أخرى".
وتضيف أن "الناس يعملون في ظلّ واقعين: العمل والأطفال والهموم المنزلية نهاراً، والأفكار القلقة اللامتناهية ومحاولات تحليل ما خرج عن إطار العقل السليم ليلاً". إلا أن بوليبوبوفا تقر بإجماع كيشيناو وتيراسبول على التسوية السياسية للخلافات، قائلة: "منذ الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، تطابقت المواقف الرسمية للقيادتين المولدوفية والترانسنيسترية على الحياد العسكري وأولوية التسوية السلمية لقضية ترانسنيستريا، واستقبال اللاجئين الأوكرانيين والدعم الشامل للمتضررين. وعقدت السلطات المولدوفية والترانسنيسترية مفاوضات أسفرت عن الإقرار بهذه المسائل".
توترات أمنية وحوادث عسكرية
وما يعزز المخاوف من التوترات الأمنية هو ما يتردد بين الحين والآخر من أنباء حول وقوع حوادث عسكرية متفرقة محدودة في ترانسنيستريا، تمثلت آخرها في أربعة انفجارات في محيط قرية فورونكوفو، وفق ما أعلنته "وزارة داخلية" الإقليم في 7 مايو/أيار الحالي. وعلى الرغم من نفيها حصول "تعبئة عامة"، إلا أن سلطات ترانسنيستريا أعلنت عن إسقاط مسيرة مفخخة في اليوم ذاته، وأن قنبلتين أُسقطتا على الأرجح بواسطة طائرة مسيرة ثم تكرر الهجوم بعد ساعة. وأشارت إلى أن هذه القذائف خلّفت حفراً عمقها نحو متر وقطرها الدائري نحو 25 سنتيمتراً، مضيفة أن فريق الخبراء يعمل على موقع الحادث.
تجمع كيشيناو وتيراسبول على حل قضية ترانسنيستريا سلمياً
ولم تشر "وزارة داخلية" الإقليم الانفصالي في بيانها إلى الجهة التي تعتبرها مسؤولة عن الهجوم. وفي نهاية إبريل/نيسان الماضي، أعلنت سلطات ترانسنيستريا عن ثلاث هجمات أسفرت عن إلحاق أضرار بثكنة عسكرية في قرية باركاني ومبنى وزارة أمن الدولة في العاصمة تيراسبول وبرج لمركز الإذاعة والتلفزيون في محيط بلدة ماياك، ساهمت جميعاً في تنامي التوتر بين سكان الإقليم.
ومع إطالة أمد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بلا وقف لأعمال القتال في الأفق، تتخوّف مولدوفا من توسع رقعة الحرب، لتشمل إقليم ترانسنيستريا.
وحذّر وزير الخارجية المولدوفي نيشو بوبيسكو، يوم الجمعة الماضي، من أن هناك "عناصر داخلية في المنطقة الانفصالية موالون لروسيا يحاولون زعزعة المنطقة وإثارة التوتر".
وأكدت مديرة أجهزة الاستخبارات الأميركية أفريل هينز، يوم الثلاثاء الماضي، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن ينهي حرب أوكرانيا بعملية دونباس، إذ إنه عازم على "إقامة جسر برّي إلى منطقة ترانسنيستريا"، فيما أبدى وزراء خارجية دول مجموعة السبع الكبرى الجمعة، من ألمانيا، قلقهم، من "المحاولات الأخيرة لزعزعة منطقة ترانسنيستريا"، كما أبدوا دعمهم لمولدوفا.
ويشير النائب في المجلس الأعلى للإقليم، أنطون أونوفريينكو، إلى تخوف السكان المحليين من اندلاع القتال، على الرغم من إدراك طرفي قضية ترانسنيستريا أنه لن يكون هناك طرف رابح في أي حرب محتملة وإجماعهما على خيار السلام. ويقول أونوفريينكو في حديث مع "العربي الجديد": "يتابع الناس ما يجري بقلق بالغ، لأن إقليم ترانسنيستريا شهد في عام 1992 حرباً لا تزال حاضرة في ذاكرة السكان، بمشاهد الجثث الملقاة في الشوارع والمباني السكنية المدمرة. واستقبلنا نحو 30 ألف لاجئ أوكراني، يعيش العديد منهم على نفقة ميزانية ترانسنيستريا. نعلم حجم مصيبتهم، ونقدم لهم دعماً من القلب".
ويؤكد أونوفريينكو على إجماع كيشيناو وتيراسبول على رفض خيار الحرب، معتبراً أنه "بالنسبة إلى ترانسنيستريا إن الحرب هي ما قد عاشه سكان الإقليم، ولذلك لا يتمنى أحد تكرارها. وبالنسبة إلى مولدوفا فقد لا تسفر الحرب عن خسائر بشرية وتدمير البنية التحتية فحسب، وإنما أيضاً عن نهاية الدولة في حد ذاتها". ويقول: "إن النزاع، في حال اندلاعه، سيلفت حتماً نظر روسيا التي تُرابط قوات حفظ السلام التابعة لها في ترانسنيستريا، ويبدو أن القيادة السياسية المولدوفية تدرك ذلك جيداً".
وتعود جذور التوتر في مولدوفا إلى عام 1990، حين أعلنت "جمهورية بريدنيستروفيه" استقلالها عن جمهورية مولدوفا السوفييتية آنذاك، ما أسفر عن وقوع نزاع مسلح استمر بين 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 و21 يوليو/تموز 1992، وأدى إلى مقتل نحو ألفي شخص. بعدها، تجمّد النزاع بعد تحرك موسكو والتوقيع على اتفاق "مبادئ تسوية النزاع المسلح في منطقة ترانسنيستريا في جمهورية مولدوفا"، وإرسال جنود حفظ سلام روس إلى منطقة القتال، ولا تزال مجموعة للقوات الروسية مرابطة هناك، ويقدر عدد أفرادها بما بين 1500 و1700 عنصر.
في كيشيناو، يوضح المعلق السياسي المولدوفي، أندريه أندرييفسكي، أن سكان مولدوفا منقسمون في مواقفهم حيال روسيا وحربها على أوكرانيا، مستبعداً في الوقت نفسه إمكانية روسيا وقدرتها على غزو مولدوفا اليوم. ويقول في حديث مع "العربي الجديد" إن "مولدوفا ليست بلداً متجانساً من جهة استيعاب العمليات السياسية، وهناك قسم من السكان متعاطفون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويسعون حتى في ظروف الحرب، لإيجاد مبررات له، على الرغم من أنهم في موقع ضعيف لصعوبة تبرير العدوان الروسي، خصوصاً أننا نرى ما يجري في أوكرانيا على أرض الواقع". ويشير إلى أن "هناك قسما آخر من السكان يندد بالعدوان، وأغلب هؤلاء من أصحاب التوجهات الموالية للغرب وأوروبا، ويدعون لدعم أوكرانيا ويتعاطفون معها مثلما هو حال باقي أوروبا".
حجج بوتين غير مقنعة
ويلفت أندرييفسكي إلى أن أغلب المولدوفيين يدركون نطاق التضخيم الروسي لمن يسميهم الكرملين "النازيين الجدد" في أوكرانيا. ويشير إلى أن "لأغلب سكان مولدوفا صلات مع أوكرانيا، ولنا هناك أصدقاء أو زملاء سابقون في الدراسة أو حتى أقرباء. كما نسافر إلى هناك كثيراً سواء بهدف السياحة أو العمل، ونعلم أنه لا وجود للفاشيين الذين يتحدث عنهم بوتين، فحجج الكرملين بأن الحرب بدأت بسبب وجود فاشيين أو نازيين، لا تبدو مقنعة للمواطن المولدوفي".
روسيا غير قادرة على غزو مولدوفا حتى لو رغبت بذلك
وحول المخاوف من إمكانية انتقال رقعة أعمال القتال إلى ترانسنيستريا، يرى أندرييفسكي أن "لهذه المخاوف مبررات، لأن هناك تصريحات صريحة من نائب قائد قوات الدائرة العسكرية الوسطى الروسية، رستم مينيكايف، بأن أحد أهداف العملية العسكرية هو الوصول إلى ترانسنيستريا التي يتم فيها التضييق على الروس، على حد زعمه. لكن من جانب آخر، هناك إدراك بأن روسيا غير قادرة على غزونا اليوم، حتى لو كانت راغبة في ذلك، بل هدفها هو إنشاء بؤرة توتر مستمر حول إقليم ترانسنيستريا الذي يحتضن قاعدة عسكرية روسية، وحثّ أوكرانيا على الإبقاء على جزء من قواتها على الحدود مع مولدوفا خشية من الهجوم من الإقليم".
ومع ذلك، يقلل أندرييفسكي من أهمية الادعاءات بإمكانية اندلاع حرب كبرى، قائلاً: "عدد القوات الروسية المرابطة في ترانسنيستريا قليل جداً وحتى لو انضمت إليها القوات المحلية للانفصاليين، فذلك لن يشكل قوة كبيرة، وليس من مصلحتهم بدء حرب واسعة النطاق في المنطقة". ويستدرك: "لكن محاولات الاستفزاز قد تستمر وتسفر في نهاية الأمر عن نفاد صبر أوكرانيا لتقرر تحرير هذه المنطقة من النفوذ الروسي بشكل كامل، وفي هذه الحالة، قد يبدأ نزاع مكثف".
وعلى الرغم من إعلان مينيكايف أن موسكو تسعى من خلال المرحلة الثانية من عمليتها العسكرية، إلى بسط السيطرة الكاملة على دونباس ومناطق جنوب أوكرانيا، وإقامة ممر برّي إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها في عام 2014، والوصول إلى ترانسنيستريا، إلا أن مدينة أوديسا المطلة على البحر الأسود لا تزال تقف عائقاً في هذا المسار.
ويستبعد الإعلامي الأوكراني، فيتالي بورتنيكوف، احتمال توجه القوات الروسية نحو مولدوفا إلا في حال سيطرت على مناطق جنوب أوكرانيا، بما فيها أوديسا، مما قد يشق لها طريقاً إلى ترانسنيستريا. ويقول بورتنيكوف في حديث مع "العربي الجديد": "لن يصبح انتقال أعمال القتال من أوكرانيا إلى مولدوفا واقعياً إلا في حال خسرت القوات الأوكرانية أمام الروسية في جنوب أوكرانيا، وتمكنت القوات الروسية من احتلال أوديسا والمناطق المجاورة. وفي هذه الحالة فقط، يمكن لشرارة الحرب أن تنتقل من أوكرانيا إلى مولدوفا".
ولعل هذا ما دفع بالقوات الروسية لتكثيف ضرباتها في محيط أوديسا في الأيام القليلة الماضية، مع بقاء عقبات أمام السيطرة على ثالث أكبر مدينة أوكرانية، بما فيها قيام القوات الأوكرانية بزرع ألغام في البحر الأسود وشواطئه، مما يمنع الجيش الروسي من تنفيذ عمليات إنزال من البحر.