بدأت الأربعاء الماضي الحملة الانتخابية للاستفتاء الشعبي حول مسودة الدستور الجديد في الجزائر، والمقرر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وعلى مدار 21 يوماً، تستعرض الأحزاب والقوى السياسية والمدنية مواقفها من الدستور، وسط تباين لافت في هذه المواقف؛ بين كتلة رافضة رفضاً قاطعاً لمضمون المسودة وأخرى مؤيدة لها، فيما اختارت كتلة ثالثة مقاطعة الاستفتاء وعدم المشاركة فيه.
في كل من الكتل الثلاث المؤيدة والرافضة والمقاطعة، توجد قوى إسلامية حددت موقفها على أساس قراءات سياسية متباينة. ويطرح انقسام مواقف التيار الإسلامي في الجزائر، في محطة مفصلية تتعلق بالدستور، وليس بانتخابات نيابية أو رئاسية، أكثر من سؤال حول خلفيات هذا الانقسام، والذي بدأ أولاً في مرحلة المشاورات حول الدستور. شاركت أحزاب إسلامية في هذه المشاورات، وقدّمت مقترحات كحركة "مجتمع السلم" وحركة "البناء الوطني"، فيما قاطعتها أخرى، كـ"جبهة العدالة والتنمية" بسبب ما اعتبرته "آلية صياغة الدستور غير التوافقية".
وتجسّد انقسام مواقف الكتلة الإسلامية لاحقاً عند طرح مسودة الدستور النهائية في البرلمان. ففيما رفضت كتلة حركة "مجتمع السلم"، كبرى الأحزاب الإسلامية، التصويت لصالح المسودة وأرجأت اتخاذ الموقف النهائي من التصويت في الاستفتاء إلى مجلس الشورى، صوّت نواب حركة "البناء الوطني" لصالح المسودة، وقاطع نواب "جبهة العدالة والتنمية" جلسة التصويت. وانعكست هذه المواقف في البرلمان على المواقف النهائية التي اتخذتها قوى التيار الإسلامي من الدستور واستفتاء الأول من نوفمبر المقبل. قرّرت حركة "مجتمع السلم" المشاركة في الاستفتاء ودعوة الناخبين إلى التصويت ضدّ الدستور بصيغة الرفض (لا). ووصف رئيس الحركة، عبد الرزاق مقري، في آخر مؤتمر صحافي له هذا الدستور بأنه "ساقط أخلاقياً وسياسياً، ولا يستجيب لمطالب الحراك الداعي إلى التغيير الجذري وتجسيد الإرادة الشعبية". وسارت حركة "النهضة" الجزائرية في الاتجاه نفسه، وحددت موقفها بالتصويت ضدّ الدستور. كما دعت جبهة "العدالة والتنمية"، والتي يقودها عبد الله جاب الله، إلى التصويت بـ(لا) على الدستور.
صادوق: هناك من داخل التيار الإسلامي من لا يزال يؤمن بعطايا السلطة
في مقابل هذه المواقف، تبرز مواقف لقوى إسلامية أخرى تعتبر أنّ الدستور على ما فيه من علل سياسية، هو مكسب ويمكن أن يكون خطوة أولى لتحقيق مكاسب ومطالب أخرى وإحداث التغيير المطلوب. خطابات قيادات حركة "البناء الوطني" تذهب في هذا الاتجاه، وقد تأسس تصويت نوابها على الدستور على هذا الأساس. وهو موقف تذهب التقديرات إلى تكريسه من قبل مجلس شورى الحركة في اجتماعه نهاية الأسبوع الحالي.
بدورها، أعلنت حركة "الإصلاح الوطني" عن موقف داعم للدستور ولخيارات الرئيس عبد المجيد تبون، وإن كانت مواقف هذه الحركة الإسلامية ذات التأثير المحصور، استمرارا لمواقفها الموالية للسلطة في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ثمّ دعمها لتبون حين كان مرشحاً في الانتخابات الرئاسية.
في السياق، لا يجد القيادي في حركة "مجتمع السلم"، أحمد صادوق، مشكلة في اختلاف المواقف بين قوى التيار الإسلامي في الجزائر إزاء مسودة الدستور، الذي تحوّل مع تصاعد النقاشات إلى مشكلة سياسية، وخلق حالة من التراشق بين كوادر ومناضلي هذه الأحزاب في المستويات الدنيا. ويقول صادوق في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "من الطبيعي أن تختلف المواقف والقراءات بين أحزاب التيار الإسلامي، ذلك لأنّ المقاربات مختلفة؛ فهناك من داخل التيار الإسلامي من لا يزال يؤمن بعطايا السلطة ويراهن على الاقتراب منها، حتى ولو على حساب بعض القضايا الحيوية، كما هو الحال بالنسبة للدستور الذي يكاد يجمع الجزائريون على أنه ليس بمستوى التطلعات، ويمثّل خطراً على بعض قضايا الهوية، إضافة إلى مسألة الحريات والتوازن بين السلطات". ويتابع "هناك من داخل التيار الإسلامي أيضاً من يؤمن بأنّ صاحب السيادة هو الشعب والرهان دائماً على البعد الشعبي"، مضيفاً: "مثلاً نحن في حركة مجتمع السلم نقدر أن مشروع الدستور فيه رضوخ واستجابة وتمكين لتيار معيّن يضع رجلين في السلطة ولساناً طويلاً في المعارضة، ويمارس الابتزاز مع النظام السياسي ويتقن فنّ تبادل الأدوار؛ فمن جهة يدعو لمقاطعة النظام وكل مخرجاته بما فيها الاستفتاء على الدستور، ومن جهة أخرى يشارك بقوة في الحكومة ويساهم في تمرير مشروع الدستور لأنه يخدم توجهاته ويمثّل له اختراقاً متقدماً".
لكن الاختلاف في المواقف وتباينها بين القوى الإسلامية إزاء الدستور، كان متوقعا مسبقاً لعوامل عدة، بعضها تاريخي يرتبط بحالة انقسامات أفقية وعمودية مسّت كل قوى التيار الإسلامي، وانشقاقات شملت الأحزاب الإسلامية منذ عقدين. إذ تعرّضت حركة "مجتمع السلم" عام 2008 إلى انقسام حاد أفرز حزباً آخر هو "جبهة التغيير"، وما لبث هذا الأخير أن عرف انقساماً مجدداً لتتأسّس حركة "البناء الوطني"، وتعود الكتلة المتبقية من "جبهة التغيير" إلى الحركة الأم. أمّا حركة "النهضة"، فقد عرفت تشققات هي الأخرى، وانبثقت منها حركة "الإصلاح الوطني" التي انشقت على نفسها أيضاً ليؤسس عبد الله جاب الله "جبهة العدالة والتنمية". ومع كل هذه الانشقاقات، كانت المواقف والقراءات السياسية متباينة بشأن كيفية التعاطي مع خيارات السلطة والتعامل مع الأحداث والمحطات السياسية المفصلية.
تناقض مواقف الإسلاميين يعود لمدى قرب وابتعاد هؤلاء عن النظام
ويربط مراقبون لتطورات الشأن السياسي، الانقسام في مواقف الإسلاميين بالموقف من السلطة والمصالح السياسية. ويعتبر المحلل السياسي المتابع لحركية الأحزاب الإسلامية في الجزائر، مروان لوناس، في حديث مع "العربي الجديد" أنّ "تناقض مواقف الإسلاميين يعود لمدى قرب وابتعاد هؤلاء عن النظام، أي أنّ جزءاً منهم في الموالاة مثل حركة البناء التي ينتسب إليها رئيس البرلمان سليمان شنين، والجزء الآخر محسوب على المعارضة مثلما هو حال حركة مجتمع السلم، أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان بثلاثة وثلاثين نائباً". ويضيف: "هذا يعني أنه لا علاقة للحسابات الإيديولوجية بتفسير هذا الانقسام والتباين بين القوى الإسلامية التي أطلقت قبل سنوات فكرة التقارب بينها على أسس فكرية وعقائدية، ولكنها اختارت المصلحة السياسية في تبني المواقف".
ويشير لوناس إلى أنّ "وجود المحدد السابق (المصلحة السياسية) برز أكثر من مرة وتكرر في المواقف من التعديلات الدستورية التي كان من المفترض أن تجمع كل الإسلاميين في موقف مشترك، لا سيما أنّ هناك مواد تمسّ الهوية والشخصية الوطنية، وهو بُعد حساس في ثقافة الإسلاميين، لكن ذلك لم يحصل لأنّ المحدد الرئيسي هو مدى القرب والبعد من السلطة".