تسود حالة الضبابية جوانب كثيرة في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وكذلك في المعارك على الجبهة الشمالية، وما سينجم عن كل ذلك في نهاية المطاف في ظل تشكيك المزيد من المعلّقين الإسرائيليين في إمكانية تحقيق الحرب أهدافها.
ويعتقد عدد منهم بتورط جيش الاحتلال في حرب استنزاف قد تكون طويلة، ووقوعه في فخ استراتيجي على الجبهتين، خاصة مع غياب أي تصوّر مستقبلي، لا سيما في قطاع غزة، وفي ظل استمرار سكان المناطق الحدودية القريبة من لبنان بالوجود خارج مناطقهم منذ أكثر من شهرين ونصف.
بدأت تطفو في الآونة الأخيرة مجدداً الخلافات الداخلية الإسرائيلية في عدة مجالات، لتعيد إلى أذهان الإسرائيليين الانقسام الكبير الذي سبق عملية "طوفان الأقصى"، على خلفية خطة التشريعات القضائية التي يقودها الائتلاف الحاكم لتقويض القضاء.
هذا عدا عن الاعتبارات السياسية التي تؤثر في الحرب وتوجهاتها، سواء تلك المتعلقة برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بشكل خاص، أو بآخرين من مركبات حكومته، والتي تنعكس من خلال المواقف المختلفة التي يحاول كل طرف من خلالها الحفاظ على جمهوره أو استقطاب المزيد منه.
وتواصل المصيدة التي وقعت فيها إسرائيل، استراتيجياً وعسكرياً، التسبب بالمزيد من الخسائر في صفوف جنود الاحتلال بين قتيل وجريح، يضافون إلى القائمة التي تطول في كل يوم يمر، سواء كان ذلك على الحدود الشمالية جراء المعارك مع "حزب الله"، أو داخل قطاع غزة في المعارك الضارية مع المقاومة الفلسطينية.
وأشار العديد من التحليلات، في الأيام الأخيرة، إلى انتظار جيش الاحتلال الإسرائيلي العديد من قرارات المستوى السياسي بشأن المعارك في لبنان وفي غزة، كما ينتظر قرارات المستوى السياسي بشأن اليوم التالي للحرب، على اعتبار أن الجيش يقوم بدوره عسكرياً، ويحقق "إنجازات"، لكن عدم اتضاح الرؤية والتصور بشأن "اليوم التالي" للحرب يبدد أي نصر عسكري محتمل، من المنظور الإسرائيلي.
وكتب المحلل العسكري في صحيفة هآرتس عاموس هارئيل، اليوم الجمعة، أن إسرائيل وقعت في مصيدة استراتيجية جراء عملية طوفان الأقصى، التي نفّذتها حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في إشارة منه إلى التهديدات الأمنية التي يواجهها الإسرائيليون في حياتهم اليومية منذ تلك العملية، مضيفا أنه ليس واضحاً في هذه المرحلة إن كان بالإمكان الخروج من هذا المأزق أو تلك المصيدة.
ويعتقد الكاتب أن "إسرائيل ربما تتورط في حرب استنزاف على جبهتين على الأقل، فهناك احتمالات بأن تتصاعد الأمور أكثر على الجبهة اللبنانية مع حزب الله، وقد تتسع إلى مواجهة أوسع مع إيران والمليشيات التي تقوم بتفعيلها وعلى رأسها حزب الله".
ولفت إلى أن الصراع مع الفلسطينيين وكذلك المواجهة مع حزب الله عادا إلى مركز الخريطة الإقليمية.
واعتبر هارئيل أنه "لا يمكن الاستخفاف بما حققه الجيش الإسرائيلي في غضون 12 أسبوعاً من المعارك في قطاع غزة"، وأن "إسرائيل لديها أفضلية واضحة بالقوة النارية والتكنولوجيا والاستخبارات وربط كل هذه المركبات معاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى، تجعل خسائر حماس أكبر من تلك التي تلحق بالجيش الإسرائيلي، ولكن في ذات الوقت، يجب التعامل بحذر مع أعداد جثامينهم (أي أعداد الشهداء في صفوف المقاومة، التي تصر عليها إسرائيل من أجل وصف إنجازاتها العسكرية، ويتطرق إليها الناطق بلسان جيش الاحتلال يومياً".
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى استشهاد نحو 8 آلاف مقاوم، "ولكن تقارير الاستخبارات تقول إن المعلومات تستند إلى درجة مصداقية متوسطة"، بحسب ما ذكره هارئيل: "وبكلمات أخرى ربما يقع الجيش في فخ المبالغة في التقدير، كتلك التي وقع فيها الجيش الأميركي خلال حرب فيتنام".
ولفت الكاتب إلى "الإنجازات المتراكمة التي يحققها الجيش الإسرائيلي" على حد وصفه، من اكتشاف وتدمير المزيد من الأنفاق وفتحاتها وقتل المزيد من المقاومين، "لكن داخل هذه المعادلة، هناك وزن كبير لرأي الجمهور الإسرائيلي، فجزء منه يتأثر سلباً جراء الخسائر المتزايدة، ورويداً رويداً يتفاعل أقل مع الإنجازات المتراكمة حتى لو كان الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي يعلن بحماسة عن المزيد من العمليات العسكرية"، كما يقول.
وفيما تتوالى خسائر الجيش الإسرائيلي، يعتقد الكثير من المعلقين، وحتى الجنرالات وقيادات في الجيش، أن الحرب البرية قد استُنفدت، ويجب الانتقال إلى المرحلة الثالثة.
ومن بين من أشاروا إلى ذلك في لقاءات ومقالات، في اليومين الماضيين، الجنرال في الاحتياط يتسحاك بريك، الذي شكك أيضاً في المعلومات التي يقدمها جيش الاحتلال بشأن المعارك ومواجهة المقاومين وجهاً لوجه.
وترى أوساط عسكرية إسرائيلية أنه يجب الانتقال إلى المرحلة الثالثة من القتال، وهي المرحلة التي تعتمد على مداهمات وعمليات موضعية تختلف عن شكل القتال الحالي، الذي يستخدم فيه جيش الاحتلال قوة نارية مكثّفة.
لكن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يحول دون ذلك حالياً، برأي الكثيرين، بسبب العديد من الحسابات، من بينها سياسية، وتحذيره من قبل الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير من وقف الحرب وسحب القوات، حيث وصلت بعضها إلى حد التهديد بالاستقالة من الحكومة، خاصة من قبل بن غفير.
وبالمقابل، يواصل الوزيران في كابينيت الحرب بني غانتس وغادي أيزنكوت، من حزب "همحني همملختي" (المعسكر الرسمي)، دفع نتنياهو نحو الانتقال إلى المرحلة الثالثة.
كما تزداد أصوات المعلقين الذين يرون أنه لا مجال لنجاح أي عملية عسكرية من دون أن ترافقها عملية سياسية واضحة في نهاية المطاف، وهو الأمر الذي يعيقه نتنياهو أيضاً، خشية انهيار إئتلافه الحكومي وإغضاب الأوساط اليمينية المتطرفة التي تؤيد مواصلة الحرب بقوة.
ولا تزال قضية الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة تشكل معضلة كبيرة بالنسبة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع تعثّر المفاوضات وازدياد الضغط الداخلي.
وفي حين تزداد ضغوطات أهاليهم وشرائح أخرى واسعة داعمة لمنح صفقة جديدة أولوية، تعرض الحكومة وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار مع الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، لكن حركة حماس تؤكد موقفها أن "لا مفاوضات بشأن الأسرى قبل وقف كلي لإطلاق النار"، ما يشكل معضلة أخرى للاحتلال الإسرائيلي، الذي راهن بأن تكثيف القصف والقوة العسكرية سيؤدي إلى إخضاع المقاومة وتقليل مطالبها وشروطها.
تضاف إلى ذلك كله الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تلحق بالاقتصاد الإسرائيلي، خاصة في ظل وجود عدد كبير من الجنود في قوات الاحتياط، ما يعيق الكثير من قطاعات العمل، فضلاً عن تكاليف الجيش والحرب والميزانيات الضخمة المخصصة للأسلحة.
ويدخل ضمن الحسابات الإسرائيلية أيضا ما أشارت إليه تقارير في الأسبوع الماضي بشأن "الاقتصاد في الذخيرة" الذي تديره إسرائيل، خشية تطور القتال على جبهات أخرى ومنها لبنان.