تعلن القيادات الإسرائيلية يومياً أن الحرب على غزة هي "حرب وجودية" و"حرب على البيت"، وأنها لن تقبل أن تنتهي من دون القضاء على حركة حماس. إعلان هذه الأهداف يأتي بعد وصف إسرائيل الإخفاق الكبير والضربة التي وجهتها "حماس" بأنها الأصعب منذ إقامة دولة إسرائيل.
فاجأت "حماس" الجيش الإسرائيلي واخترقت كافة الدفاعات على الحدود وعطلت أدوات الإنذار المبكر، والأهم أنها نجحت في عملية التمويه. فقد كشف الإعلام الإسرائيلي أن معلومات أولية عن تحركات غير طبيعية لحركة حماس قريبة من السياج الحدودي وصلت إلى الجيش الإسرائيلي ليلة الجمعة الماضي، وكان هناك تحذير من المخابرات المصرية قبل عدة أيام، إلا أن الثقة الزائدة بالنفس والقناعة الجماعية بأن "حماس" لن تجرؤ على المبادرة ومهاجمة الحدود، منع قيادات الجيش، التي قامت بمشاورات أمنية ليل الجمعة ـ السبت الماضي، من اتخاذ قرار برفع التأهب أو القيام بخطوات استباقية.
وصف الحرب بأنها وجودية، بالإضافة إلى رغبة الانتقام وترميم ثقة المجتمع الإسرائيلي بالنفس وبالجيش، شكّلا معاً تبريرا إسرائيليا لوحشية الهجوم على غزة وأهلها، والإشهار بإلغاء أي حواجز أو ضوابط لقوات الجيش في هجومه على غزة.
إسرائيل تعي أن القضاء على "حماس" في غزة ليس بالأمر السهل، وإخراجها كفاعل سياسي وعسكري من الشعب الفلسطيني يعني تدمير قطاع غزة. لذلك كانت أهداف الحرب الرسمية التي وضعتها الحكومة المصغّرة أكثر ضبابية وأقل حدة، وحددتها بـ"تدمير قدرات حماس العسكرية والإدارية".
دعم أميركي غير مشروط
تحقيق أهداف الحرب يحتاج بطبيعة الحال إلى دعم دبلوماسي واسع، أميركي خصوصاً، وترتيب البيت الداخلي، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، والتعامل مع الجبهة الداخلية. في الجانب الدبلوماسي، لم تكن هناك حاجة في هذه الحرب كي تعمل إسرائيل على تجنيد دعم دولي، تحديداً من الولايات المتحدة ورئيسها جو بايدن، وأصدقائها في أوروبا.
كلهم تجندوا مباشرة وطوعاً لدعم إسرائيل وتبنوا روايتها وموقفها. الإدارة الأميركية وقفت سريعاً إلى جانب إسرائيل وأعلنت دعمها اللامحدود، دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً.
الأميركيون قلقون من وضع إسرائيل العسكري ومن حجم الضرر الذي تعرّضت له
انعكس ذلك في كلمات الرئيس الأميركي اليومية تقريباً في الأيام الأولى للحرب واتصالاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (بلغت 5 اتصالات حتى مساء أول من أمس السبت)، وفي زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل، وآخرها في زيارة وزير الدفاع لويد أوستن.
هذا الدعم المباشر لا يعكس موقفاً سياسياً فقط، بل يشي بوجود قلق أميركي من وضع إسرائيل العسكري ومن حجم الضرر الذي تعرّضت له. في هذا السياق، قررت الولايات المتحدة إرسال أكبر وأحدث حاملة طائرات إلى سواحل فلسطين المحتلة، وفتح جسر جوي لنقل السلاح، على الرغم من عدم وجود نقص في العتاد والسلاح في إسرائيل.
تعكس هذه القرارات دعماً أميركياً سياسياً وعسكرياً غير مشروط، وشراكة حقيقة في إدارة الحرب، لكنها قد تكون أيضاً مؤشر قلق أميركي حقيقي على أمن إسرائيل، ويعبر عن حجم الإخفاق الإسرائيلي، إذ لم يعد الردع الإسرائيلي كافيا لمنع أي تطور أمني في جبهات أخرى، وكذلك لا يكفي الردع الكلامي للولايات المتحدة، بل هناك حاجة لتعزيزه بخطوات عملية.
مع العلم أن إسرائيل امتنعت في السابق عن توقيع اتفاق دفاع مشترك مع الولايات المتحدة كي لا يكبلها سياسياً، مدّعية أنها قادرة وحدها على الدفاع عن نفسها، غير أن ما يحدث حالياً يثبت العكس.
إعلان حكومة الطوارئ
بعد انهيار الدفاعات العسكرية الإسرائيلية على حدود غزة واحتلال بلدات وقواعد عسكرية من قبل "حماس"، انهارت أيضاً معنويات المجتمع الإسرائيلي، وفقد الثقة بمؤسسات الدولة، وتهاوت الثقة بالحكومة والوزارات.
كان هذا جلياً في كافة وسائل الإعلام الإسرائيلية ومواقف المحللين، وفي تصريحات سكان الجنوب على مقربة من قطاع غزة. جميعهم أجمعوا أن إسرائيل كدولة ومؤسسات فشلت فشلاً ذريعاً في الدفاع عن المواطنين.
هذه الأجواء والحاجة إلى ضبط انهيار التماسك في المجتمع، ومحاولة رفع معنويات بشكل جماعي، خصوصاً بعد عام من التصدعات السياسية الشديدة داخل المجتمع الإسرائيلي، كانت الدوافع الأهم لتشكيل حكومة طوارئ لإدارة الحرب، بمشاركة حزب "المعسكر الوطني" بقيادة وزير الأمن السابق رئيس الأركان الأسبق بني غانتس، ورئيس الأركان السابق غادي أيزنكوت.
ابتعدت إسرائيل عن طرح الأسئلة الصعبة الحقيقية التي ساهت في الوصول إلى هذا الحال
لا يلغي هذا الأمر الأهداف الضيقة لنتنياهو من تشكيل حكومة الطوارئ، ومنها منع انهيار الحكومة، وحاجته إلى رجال من خلفية عسكرية إلى جانبه من أجل اتخاذ القرارات العسكرية، وشرعنتها في الخطوات المقبلة في الحرب.
وفي السياق، لا تختلف مواقف غانتس وأيزنكوت الأمنية عن مواقف الإجماع الأمني الإسرائيلي، ومنها الهجوم البري في غزة، والأهم، احتمال فتح جبهة ثانية على الحدود الشمالية مع "حزب الله".
تزداد في الأيام الأخيرة النقاشات في الإعلام الإسرائيلي حول التخبط لدى صنّاع القرار العسكري حول كيفية التصرف على ضوء تسخين جبهة الشمال، هل تبادر إسرائيل لضربة استباقية لـ"حزب الله"، مستغلة حالة التأهب القصوى وتجنيد عدد كبير من قوات الاحتياط والدعم الدولي الكبير، أم تُبقي إسرائيل على حالة التوتر والتأهب والرد على أي هجوم للحزب، كي لا تدخل في جبهتين في آن واحد.
تنظيمات مدنية تتجند في الجبهة الداخلية
تعرضت الجبهة الداخلية في مناطق الجنوب قرب غزة إلى ضرر بالغ، وهرب عدد كبير من سكان المنطقة إلى مناطق إيواء وفنادق في وسط إسرائيل. لغاية الآن، ومع حلول اليوم العاشر على الحرب اليوم الاثنين، لا تزال الحكومة تجد صعوبات في تأمين احتياجات هؤلاء اليومية. وفي هذا الوضع، تَجَنّد عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني ومبادرات من قطاع الأعمال لسد الاحتياجات.
وبرز الدور التي تقوم به مجموعات الاحتجاج التي انتظمت في العام الأخير ضد حكومة نتنياهو للتزويد بهذه الاحتياجات، منها مجموعة "الأمنيين" ومجموعات "التقنيات الحديثة"، التي بدأت على سبيل المثال بجمع تبرعات لتمويل تكلفة طائرات خاصة لإعادة الإسرائيليين من خارج إسرائيل، فضلاً عن شراء معدات شخصية للجنود وتزويدهم بها، وتوفير الأغذية والمنازل البديلة لسكان الجنوب.
هذه التنظيمات استبدلت الحكومة في الكثير من الحالات. هذا مؤشر آخر على ضعف الأداء الحكومي ومؤسسات الدولة الرسمية، ودليل على عدم جهوزية إسرائيل لدخول حرب بهذا الحجم، ما أدى إلى انتقادات شديدة للحكومة في تعاملها أيضاً في الجانب المدني ومع الأزمة عموماً، وليس فقط في الإخفاق العسكري.
لنتنياهو أهداف ضيقة من تشكيل حكومة الطوارئ، ومنها منع انهيار حكومته في الأساس
فشل الحكومة يطرح في إسرائيل سؤالا حول قدراتها على التعامل مع تداعيات الإخفاق العسكري في اليوم التالي لانتهاء المعارك، خصوصاً في الجوانب الاقتصادية. وتشير التقديرات إلى أن كلفة الحرب والخسائر ستكون هائلة، ومنها خسائر مادية مباشرة كبيرة في البلدات الإسرائيلية في الجنوب، التي لم تعد صالحة للسكن.
كما أن الخسائر تطاول الناتج المحلي بسبب تعطل الاقتصاد في جنوب إسرائيل بشكل كامل تقريباً، وبشكل جزئي في كافة البلدات الإسرائيلية. كما تحتاج إسرائيل إلى صرف تعويضات مالية لقطاع الأعمال، وتعويض الموظفين عن خسارة أيام العمل.
ناهيك عن التكلفة العسكرية الكبيرة نتيجة خسائر الذخائر والمعدات العسكرية، وتآكل مخزون صواريخ القبة الحديدة، وتجنيد نحو 360 ألف جندي من قوات الاحتياط. وتتعرض أسواق الأسهم أيضاً لخسائر كبيرة مع تراجع سعر صرف الشيكل، ما اضطر المصرف المركزي الإسرائيلي إلى طرح 30 مليار دولار في السوق، الاثنين الماضي، لمنع تدهور سعر الصرف.
الإخفاق والصدمة
على الرغم من الإخفاق العسكري الكبير والصدمة التي تعرضت لها إسرائيل، وعلى غرار حالات سابقة، تبتعد إسرائيل عن طرح الأسئلة الصعبة الحقيقية التي ساهمت في الوصول إلى هذا الحال، أهمها سؤال الاحتلال وسؤال حصار غزة، واستراتيجية إسرائيل لإضعاف السلطة الفلسطينية والحفاظ على سلطة "حماس" في غزة.
كما أن هناك وهماً كبيراً بأن الجوانب الاقتصادية والتحسين الطفيف لحياة الناس اليومية في غزة يمكن أن يكون بديلاً عن المطالب القومية، أي "عقيدة السلام الاقتصادي" أو "الهدوء الاقتصادي"، الذي يمكن أن يستبدل الحاجة إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية.
هذا الجانب يشكّل إجماعاً لدى كافة الأحزاب الإسرائيلية ولا يقتصر على حزب الليكود. فقد طرح هذا التصور أيضاً رئيس الوزراء الأسبق يئير لبيد قبل عامين.
في الأجواء الحالية في إسرائيل، لم يطرح أحد هذه الأسئلة، لا الإعلام ولا المحللين ولا السياسيين. الجميع يتحدث فقط عن الحاجة إلى استخدام أقصى درجات العنف من دون أي رادع أو قيود، أي تبنّي الحل الأمني بأقصى حدود، على الرغم من أن هذه الحلول فشلت على مدار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكذلك في تجارب شعوب أخرى. على ما يبدو، فإن الصفعة التي تلقتها إسرائيل لم تؤدِ إلى تغيير، ولو طفيف، في الذهنية الاستعلائية والأمنية لغاية الآن.