سئلت وزارة الخارجية الأميركية، الأسبوع الماضي، عن موقفها من أزمة لبنان الذي يواجه خطر "الانهيار" التام، فكان الجواب أنّ الإدارة "تشعر بالقلق" إزاء هذا الوضع، وأنها تتابع "رصد" تطوراته مع تشديدها على أهمية الإسراع في "تأليف حكومة لبنانية لإجراء الإصلاحات ومحاربة الفساد واسترجاع الثقة...". السؤال نفسه تكرّر أربع مرات هذا الشهر، من دون أن يخرج الناطق الرسمي في ردّه عن هذا الخط، مردداً المعزوفة نفسها وبالمفردات ذاتها تقريباً.
عادةً، عندما يتعرض بلد محسوب في خانة "الصديق" لأميركا لمخاطر كالتي تحيط بلبنان في الوقت الراهن، تبادر واشنطن إلى إرسال مبعوث أو مسؤول كبير إلى البلد المعني في مهمة للتوسط وبذل المساعي، أو لممارسة ما أمكن من الضغوط للمساعدة في تدبير المخارج وحتى ضمانها، أو في أقلّه تبدي الإدارة الأميركية حرصها، ولو اللفظي، على سلامة البلد وإبداء الرغبة في دعمه ومؤازرته ليخرج من دائرة الخطر الذي يهدّده. لكن لا شيء من هذا حصل تجاه لبنان هذه المرة، وكأن مشكلته المستعصية مسألة عابرة لا تحتاج إلى أكثر من الوعظ والتمنيات من بعيد.
خطابها الباهت هذا غير المتناسب مع المحنة، يثير التساؤلات عما إذا كانت وراءه حسابات أبعد من لبنان، خصوصاً أنه يتردد أنّ هذا الأخير قد يتحوّل إلى ورقة في البازار النووي الأميركي – الإيراني. وبحسب هذا السيناريو، قد يكون موقف الإدارة غير المهتم بالوضع اللبناني مجرّد تلويح باستعدادها لتقديم تنازل لطهران، يتمّ بمقتضاه صرف النظر عن دور هذه الأخيرة في لبنان مقابل دخولها في المفاوضات. تماماً كما لوّحت بطريقة غير مباشرة بالتساهل مع الحليف الإيراني في اليمن عبر حذف اسم الحوثيين من لائحة الارهاب.
رافقت هذه التسليفات المسبقة تلميحات بالاستعداد لتقديم تنازلات، ولو أنّ ذلك مرهون بجلوس إيران على الطاولة، كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في إفادته، الأسبوع الماضي، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب.
وفي هذا السياق، ولتشجيع طهران على التفاوض، اعترف المبعوث الخاص روبرت مالي بأنّ الإدارة الأميركية السابقة ارتكبت خطأ تجاه إيران. إشارة تفهم بأنها تنطوي على انفتاح ورغبة بتغيير المسار. كما تحرص الإدارة على التحدث بلغة مطاطة عن رغبتها "بتقوية الاتفاق النووي وتمديد فترته" عبر المفاوضات الجديدة، ولو أنها تشير في هذا المجال إلى موضوع الصواريخ ودور إيران "الشرير" في المنطقة، لكن من دون تحديد ساحات هذا الدور بحيث تبقى، ومنها الساحة اللبنانية، مادة للمساومة.
ما لا تخفيه إدارة بايدن أنها جادة في سعيها إلى التوصل لاتفاق نووي جديد مع إيران. وما لا يخفى أيضاً في كلام المسؤولين أنها منفتحة على الأخذ والرد في الموضوع. تتصرف وكأن هذا الملف هو فرصتها الأهم لترجمة خيار الرئيس بايدن باعتماد الدبلوماسية لحلّ الخلافات الدولية، خصوصاً بعدما سدّ بايدن، خلال الأسبوع الماضي، طريق هذا الخيار مع الصين وموسكو وحتى إشعار آخر.
نعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ"القاتل"، واتهم الصين في لقاء آلاسكا بأنها "تهديد للاستقرار العالمي". خطاب أثار انتقادات جهات ودوائر مختلفة، ومنها متعاطفة ومؤيدة للرئيس، من باب أنّ تعامله بهذه الطريقة مع العاصمتين "كان بداية غير موفقة"، إذا لم يكن ضرباً من "التهور" المتضارب مع مقاربته للشؤون الخارجية أصلاً. بل إنه قد يعيق معالجاته لملفات أخرى تحتاج فيها واشنطن إلى مساعدة الكرملين وبكين، مثل كوريا الشمالية وسورية وحتى إيران.
وفي ظل هذا الوضع، تصبح واشنطن مضطرة لتوسيع باب المساومة وبالتالي التنازلات في قضايا مثل النووي الإيراني، وبما يجعل تحويل لبنان إلى ورقة لصالح طهران مسألة غير مستبعدة.