يسعى النظام السوري لاستغلال قضية الصحافي الأميركي أوستن تايس، المفقود في سورية منذ أكثر من 10 سنوات، والذي يعتقد أنه معتقل لدى النظام، لتحقيق أهداف سياسية، تتصل برفع، أو تخفيف العقوبات الأميركية المفروضة عليه، خاصة في ظل أجواء الانفتاح العربي والإقليمي الأخير عليه.
وذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، الأربعاء الماضي، أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، جددت محادثاتها المباشرة مع النظام السوري لتحديد مصير أوستن تايس، وهو جندي سابق في البحرية الأميركية، عمل بعد تقاعده مصورا صحافيا مع وكالة "فرانس برس" وصحيفة "واشنطن بوست"، وغيرهما، واختار السفر لسورية لنقل ما يجري فيها إلى العالم بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وقد اعتقل عند حاجز خارج دمشق في 13 أغسطس/ آب 2012.
محمد جرار: للنظام خبرة كبيرة في المساومة بخصوص أشخاص تبحث عنهم الولايات المتحدة
وقال ناشطون إن تايس التقى قبل اختفائه بمجموعة من الناشطين المدنيين وعناصر من "الجيش الحر" في مدينة داريا قرب دمشق، وأجرى معهم لقاءات، وانقطعت أخباره بعد ذلك، ليظهر في مقطع فيديو بعد شهر من اختفائه، وهو مكبل اليدين ومعصوب العينين، برفقة رجل مسلح.
اجتماعات بين مفاوضين أميركيين وسوريين
ونقلت "وول ستريت" في تقريرها عن مسؤولين في الشرق الأوسط مطلعين على الملف قولهم إن المفاوضين الأميركيين عقدوا سلسلة اجتماعات مع مسؤولين أمنيين وسياسيين في حكومة النظام السوري، بعد أن طلبت واشنطن، نهاية العام الماضي، من سلطنة عمان تسريع جهود الوساطة مع النظام في هذا الملف، الذي يشمل أيضاً أميركيين آخرين مختفين في سورية، منهم الطبيب مجد كم ألماز، وهو سوري أميركي اختفى بعد إيقافه في 2017، على نقطة تفتيش تابعة للنظام في دمشق.
وأكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن بلاده تعمل مع دولة ثالثة لإعادة تايس إلى الولايات المتحدة، فيما تعامل البيت الأبيض بحذر مع ما ذكرته "وول ستريت".
وقالت المتحدثة باسمه كارين جان بيير، خلال مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي، إن "واشنطن لا تؤكد حصول أي اجتماعات في الماضي أو الحاضر مع دمشق، في إطار حوار مباشر حول مصير الصحافي المفقود أوستن تايس". وأضافت: "كما تعلمون، فإن الاجتماعات العامة والمفاوضات لتأمين الإفراج عن الأميركيين المحتجزين بشكل غير قانوني، قضية حساسة جداً".
النظام تشجع على التعامل بجدية مع الأمر
ووفق المسؤولين الذين تحدثت إليهم "وول ستريت جورنال"، فإنه من المتوقع استئناف المحادثات خلال الأسابيع المقبلة، حيث تشجع النظام السوري على التعامل بجدية مع الأمر، بعد أن أبلغه الوسطاء بأن حل القضية يمكن أن يساعد في إنهاء العزلة الدولية المفروضة عليه.
ووفق الصحيفة، فقد نقل الوسيط العُماني عن مسؤولين في حكومة النظام رغبتهم في تخفيف أو تأخير العقوبات الأميركية التي تستهدفه جراء دوره في تهريب المخدرات، مشيرين إلى أن رأس النظام بشار الأسد قلق من أن قانون "الكبتاغون"، الذي سيدخل حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران المقبل، قد يعرض للخطر الانفتاح العربي على النظام.
وذكرت أن الأسد جدد خلال لقائه بسلطان عمان هيثم بن طارق، في فبراير/ شباط الماضي، رغبته بربط المحادثات حول مصير تايس بتخفيف العقوبات، ودفع الولايات المتحدة للانسحاب من سورية، لكن السلطان العماني طلب من الأسد تخفيف توقعاته وأخذ المحادثات بجدية أكبر.
أما النظام السوري الذي يتعامل عادة بحذر مع مثل هذه القضايا، فقد نفى أيضاً وجود مفاوضات مع الأميركيين بهذا الشأن، وهو ينفي أصلاً أن يكون الصحافي الأميركي محتجزا لديه. وفي تصريح لـ"تلفزيون سوريا"، قالت المتحدثة الإقليمية باسم وزارة الخارجية الأميركية هالة غريط، أمس الأول الخميس، إنّ النظام السوري لم يعترف باحتجاز الصحافي الأميركي، معتبرة أن التعامل مع الحكومة السورية هو الخيار الأمثل لإعادته الى بلاده.
خبرة النظام في المساومة
ورأى الصحافي محمد جرار، في حديث مع "العربي الجديد"، أن للنظام خبرة كبيرة في المساومة بخصوص أشخاص تبحث عنهم الولايات المتحدة، سواء كانوا مواطنين أميركيين أم مطلوبين أمنيين، وعادة ما يتوج التعاون بين الجانبين بحصول الأميركيين على ما يطلبون مقابل تنازلات معينة، قد تكون مجرد إبقاء النظام بعيداً عن العقاب الأميركي.
واستذكر جرار حادثة إطلاق سراح طيار أميركي مطلع عام 1984 بوساطة من القس الأميركي جيسي جاكسون الذي كان مرشحاً للرئاسة الأميركية حينها، وذلك بعد إسقاط طائرة أميركية قرب الحدود السورية اللبنانية نهاية 1983، كانت تُغير على القوات السورية المنتشرة في لبنان آنذاك.
وائل علوان: النظام يريد أن يحتفظ بورقة تايس لمراحل لاحقة
وقال جرار: لقد حرص حافظ الأسد آنذاك على أن يصطحب جاكسون الطيار الأميركي معه في رحلة عودته إلى الولايات المتحدة، وهو ما دفع الرئيس الأميركي آنذاك رولاند ريغان إلى الاتصال بحافظ الأسد لشكره، ليتلو ذلك تحسن في العلاقات بين الطرفين بعد أن كانت متوترة للغاية.
وأعرب جرار عن اعتقاده بأن بشار الأسد ربما يريد تكرار ما فعله أبيه، حيث يقدم إشارات متناقضة للأميركيين بشأن مصير تايس وبقية المختفين الأميركيين، ولعله ينتظر قدوم مسؤول أميركي إلى دمشق بشكل علني، ليقدم له هذه المكافأة، ويكون ذلك إيذاناً ببدء تداعي العقوبات الأميركية على النظام.
من جهته، رأى الباحث في مركز "جسور" للدراسات وائل علوان أن الولايات المتحدة تبدي بالفعل مرونة كبيرة في التعامل مع النظام السوري في قضية المختطفين الأميركيين، وهم عشرة، قدم النظام السوري بيانات بشأن 5 منهم فقط. واعتبر أن واشنطن مهتمة بإطلاق سراح تايس على وجه الخصوص، لأنه من أصول أميركية، أما البقية فهم من أصول سورية.
لا ضغوط أميركية على الدول المطبعة
وأضاف علوان، في حديثه مع "العربي الجديد"، أن قانون قيصر "مجمد بعد الزلزال، والهوامش التي تتحرك بها الدول مع النظام كبيرة ولا تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً جدية على الدول المطبعة مع النظام، وحتى سلطنة عمان الدولة الوسيطة والحليفة للولايات المتحدة استقبلت بشار الأسد ببروتوكول رسمي".
وتابع أن "النظام يتعامل مع قضية الصحافي الأميركي كورقة تفاوضية، خصوصاً في حال عودته إلى جامعة الدول العربية، وهو يريد أن يحتفظ بهذه الورقة لمراحل لاحقة، حين يتبلور موقف عربي ضاغط باتجاه رفع العقوبات عن النظام، فيكون لديه ورقة لدفع هذه الجهود وإنجاحها، بأن يطلق سراح المعتقلين الأميركيين كجزء من صفقة إنهاء العقوبات".
وبشأن إمكانية أن تكون هذه المسألة مدخلاً للنظام لمحاولة تحسين العلاقات مع واشنطن، رأى الباحث رضوان زيادة، المقيم في واشنطن، أن "الاجابة معقدة بعض الشيء. واجب وزارة الخارجية الأميركية أن تبحث مصير المختطفين وتردهم إلى بلادهم سالمين، ولذلك كل إدارة تضع هذا الأمر على رأس أولوياتها".
وأضاف زيادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه بسبب هذا الأمر، أرسلت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب على سبيل المثال مسؤولاً في مجلس الأمن القومي لدمشق من أجل البحث بمصير الصحافي، لكن المشكلة أن إدارة بايدن ضعيفة جداً في الملف السوري، وربما يستغل النظام هذا الموضوع من أجل تخفيف العقوبات عنه أو البحث في ملفات أخرى.