جدد الغزو الروسي لأوكرانيا، الاتهامات الغربية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يريد إعادة إحياء الاتحاد السوفييتي. وكان أبرز المعبّرين عن ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أشار ليل الخميس الجمعة إلى أن "بوتين لديه طموحات أكبر من أوكرانيا"، مرجحاً أن "لديه طموحات بإعادة تأسيس الاتحاد السوفييتي"، معتبراً أن الطموحات "تتناقض مع مبادئ العالم الحديثة".
تصريحات بايدن هذه ليست الوحيدة من نوعها، وكانت متوقعة بعد كلمة بوتين في تبرير اعترافه بـ"جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" الانفصاليتين عن أوكرانيا، والتي اتسمت عن سابقاتها باستخدام عبارات نفت وجود أي أساس للدولة الأوكرانية في سردية بوتين التاريخية، ولمحت إلى تشكيك بشرعية الدول التي استقلت بعد انفراط عقد الدولة الشيوعية في 1991، وأحقيتها في الوجود ضمن حدودها الحالية.
وبعدما أثارت الكلمة جدلاً واسعاً حول نوايا روسيا بشأن دول أخرى كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، أو كسبتها الإمبراطورية الروسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، انتهز بوتين فرصة اللقاء في الكرملين مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف، الثلاثاء الماضي، للتأكيد أنه لا يسعى لاستعادة الإمبراطورية الروسية.
وأضاف: "توقعنا أن تكون هناك تكهنات بأن روسيا تعتزم إعادة بناء إمبراطورية"، مشدداً على أن "هذا لا يتوافق إطلاقاً مع الواقع". واستشهد بتعاون بلاده مع أذربيجان لتحقيق الاستقرار في بحر قزوين، ليبدو أن "سيد الكرملين" يسعى إلى تخفيف مخاوف دول الجوار.
بين الأفعال والأقوال
باعتراف روسيا بـ"جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك"، يرتفع عدد الجمهوريات الانفصالية التي تعترف بها وتدعمها موسكو في الفضاء السوفييتي إلى خمسة كيانات، هي إضافة إلى لوغانسك ودونيتسك، أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا التي انفصلت عن أوكرانيا بعد حرب الأيام الخمسة جنوب القوقاز في 2008.
إضافة إلى جمهورية بريدنيستروفيه الانفصالية عن مولدافيا التي رفضت في استفتاء شعبي الانفصال عن الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات، ولاحقاً دعمتها موسكو سياسياً واقتصادياً، وحوّلتها إلى مستودع ضخم للأسلحة والعتاد الروسي الذي كان منتشراً في أوروبا الشرقية.
وعلى الرغم من أن هذه الجمهوريات تستمد "أوكسجين الحياة" من روسيا، وتُحكم من الكرملين بطريقة أقرب إلى ما كان عليه الوضع في زمن السوفييت الغابر، فإن روسيا لم تضمّها كما حصل مع شبه جزيرة القرم التي سيطر عليها "الرجال المهذبون" بسرعة لافتة. بعدها رُتب استفتاء على عجل وافق فيه معظم سكان شبه الجزيرة الاستراتيجية على الانضمام إلى روسيا.
حينها رُسم سيناريو بأن بوتين لم يستطع مخالفة إرادة شعب القرم، وأعاد شبه الجزيرة كما كانت منذ عهد الإمبراطورة كاترينا الثانية مركزاً لأمجاد روسيا البحرية ودليلاً على انتصارها في المعارك ضد الإمبراطورية العثمانية.
وفي نهاية العام الماضي مرت الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفييتي، وكان لافتاً توجّه بروباغاندا الكرملين للتحضير للمناسبة بإعداد سلسلة من الأفلام والمقالات حول أوضاع الجمهوريات الحالية. ومن متابعة التقارير، فإن المتلقي يخرج بنتيجة أن الدول التي ترتبط بعلاقات جيدة مع روسيا تعيش أوضاعاً سياسية واقتصادية مستقرة، ولكن التي اختارت مواجهة روسيا والتوجّه نحو الغرب تعاني أوضاعاً صعبة، مع التركيز على أوضاع أوكرانيا.
التركة السوفييتية بعد ثلاثة عقود
ركز بوتين في معظم خطاباته ومقالاته، على أن روسيا كانت الخاسر الأكبر من انهيار الاتحاد السوفييتي، ووجّه أكثر من مرة انتقادات لاذعة للقادة السوفييت الذين وضعوا "قنبلة موقوتة" تحت بناء الإمبراطورية الروسية.
وعلى الرغم من جهود بوتين الحثيثة لمحاولة جذب الدول التي خرجت من العباءة السوفييتية ضمن أشكال وصيغ جديدة، إلا أن محاولاته فشلت.
وربما كان قرار أوكرانيا تأكيد توجهها نحو الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام لحلف شمال الأطلسي أقسى ضربة، لأن بوتين كان يراهن على تشكيل نواة لكيان جديد قد يكون جذاباً لباقي الجمهوريات السابقة، وذلك عبر الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بالاعتماد على المثلث السلافي المشكل من روسيا وأوكرانيا وروسيا، وكازاخستان.
وفي جلسة لمنتدى "روسيا تنادي!" عام 2019، قال فلاديمير بوتين إن سبب انهيار الاتحاد السوفييتي يعود إلى عدم كفاءة السياسة الاقتصادية لقيادته، والتي أثّرت أيضاً على المجال السياسي. وخلص إلى أن انهيار الاتحاد السوفييتي يكاد لا يرتبط بنمو المشاعر القومية في دول البلطيق.
حينها رد الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف على كلام بوتين، بالقول إن الانهيار كان بسبب العلاقات بين الجمهوريات وليس لأسباب اقتصادية. لكن الكثير من السياسيين الروس ينطلقون من أنها لم تكن موجودة كدولة قبل الحكم السوفييتي وذهب بعضهم إلى وصفها بأنها "منحة البلاشفة".
ومن المؤكد أن سبب انهيار الاتحاد السوفييتي سيبقى مادة للجدل لسنوات طويلة مقبلة، لكن أقوال وأفعال بوتين منذ إعادة انتخابه في 2012 تؤكد عزمه على تغيير هذا الواقع بأساليب مختلفة، منها القوة الناعمة التي تهدف أساساً إلى إعادة الاعتبار لـ"العالم الروسي"، وتوفير الدعم الاقتصادي لحلفائه والذي كلف حسب تقارير أكثر من 600 مليار دولار في العقدين الأخيرين.
وقبل أيام، أشار بوتين إلى أن بلاده قدّمت أكثر من 250 مليار دولار لدعم أوكرانيا بين 1991 و2013. وفي المقابل لم يتوانَ بوتين عن استخدام أسلوب "العصا والجزرة"، وصولاً إلى التدخل العسكري بخشونة كما جرى في جورجيا في 2008 و2014 وقبل أيام في أوكرانيا.
واليوم يبدو واضحاً أن بلدان الاتحاد السوفييتي السابق منقسمة في توجهاتها السياسية والاقتصادية، وفي علاقاتها مع روسيا، إلى عدة مجموعات، مع هامش للمناورة نحو القرب من الكرملين أو الابتعاد عنه حسب الظروف.
بلدان البلطيق الثلاثة، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، حسمت أمرها باكراً وتوجهت نحو الخيار الأوروبي والأطلسي، وباتت أعضاء في المنظمتين منذ مطلع الألفية الحالية.
وهي تتعرض بشكل دائم لانتقادات من موسكو التي تتهمها بتزوير التاريخ، وتدمير نصب الجيش الأحمر وكل ما يمت بصلة لعيد النصر، وكذلك اضطهاد الأقلية الروسية التي تتراوح بين 20 و27 في المائة من سكان هذه الجمهوريات.
وعلى عكس دول البلطيق، أخفقت جورجيا وأوكرانيا، في تحقيق توجهاتهما الأوروأطلسية، وواجهتا تدخلاً عسكرياً روسياً لوأد هذه الأحلام مع اقتطاع أراضٍ تابعة لهما، ودعم كيانات انفصالية، بعد فشل سياسات الترغيب، والمنح المالية.
أما مولدافيا وعلى الرغم من أنها أكدت حيادها العسكري وعدم وجود رغبة بالانضمام إلى حلف الأطلسي، فإنها لم تسلم من الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها جورجيا وأوكرانيا أيضاً، لثنيها عن التوجه غرباً.
في المقابل، يبدو أن الأحداث الأخيرة في بيلاروسيا وكازاخستان دفعت قياداتهما إلى التقارب أكثر مع روسيا. وبعد سنوات من محاولات بناء علاقات متوازنة بين الشرق والغرب والحياد العسكري، قدّم الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو تنازلات للمضي بمشروع "دولة الوحدة" المؤجل منذ 22 عاماً، بعد العقوبات الغربية المفروضة عليه إثر اتهامات الغرب بتزوير الانتخابات الرئاسية في أغسطس/ آب 2020.
وعرض لوكاشينكو على روسيا استضافة قواعد عسكرية، ونشر أسلحة نووية على أراضيها، وقرر الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم بعد سنوات من المماطلة والتأجيل، وانحاز إلى موسكو على حساب كييف الضلع الثالث من المثلث السلافي.
وفي كازاخستان، يبدو أن خيارات الرئيس قاسم جومارت توكاييف أفضل من خيارات لوكاشينكو نظراً لوضعها الاقتصادي الجيد، وعدم تضرر شبكة علاقاتها مع الشرق والغرب. لكن دروس القرم ودونباس تؤرقها وتجبرها على تبني سياسة أقرب إلى روسيا، خصوصاً في ظل المطامع في أراضي الشمال.
وحتى الآن تتقارب بلدان آسيا الوسطى الفقيرة، قرغيزستان وطاجيكستان، وبدرجة أقل أوزبكستان، مع روسيا ضمن منظومات سياسية وعسكرية واقتصادية، وتعوّل هذه الدول على دعم الصين المالي، وتعمل مع تركيا في إطار "العالم التركي". ومعلوم أن تركمانستان تسير في مسارها الخاص منذ عقود وباتت أشبه ما تكون بنظام كوريا الشمالية.
وفيما يخص أرمينيا وأذربيجان، فالأولى وعلى الرغم من الثورات ومحاولة بناء علاقات مع أوروبا، ما زالت غير قادرة على الابتعاد عن روسيا، فيما تشكل أذربيجان مثالاً نادراً بجمعها بين علاقات قوية مع روسيا والغرب وتركيا. ومن العرض يبدو واضحاً أن العودة إلى الاتحاد السوفييتي باتت مستحيلة.
بحث عن دور تاريخي
في غمرة التغطية الإعلامية لذكرى انهيار الاتحاد السوفييتي، قال بوتين في فيلم "روسيا. التاريخ الحديث"، الوثائقي الذي عُرض على قناة "روسيا 1" نهاية العام الماضي، إن انهيار الاتحاد السوفييتي كان بالنسبة له مأساة و"انهياراً لروسيا التاريخية".
وأشار إلى أن الدولة خسرت 40 في المائة من أراضيها وطاقتها الإنتاجية وعدد سكانها، إضافة إلى "ما راكمته على مدى ألف عام". وخلص إلى القول "لقد أصبحنا دولة مختلفة تماماً. وما تراكم على مدى ألف عام قد ضاع إلى حد كبير".
يتضح من حديث بوتين عن خلط كبير ربما يكون متعمداً بين المفهومين (الاتحاد السوفييتي وروسيا)، ولكنه قد يفسر تطور أفكاره السابقة. ففي 2005 قال بوتين الذي كان رئيساً للحكومة حينها "من لا يندم على انهيار الاتحاد السوفييتي ليس له قلب. ومن يريد إعادته في شكله السابق ليس لديه عقل"، مع توجهه نحو مزيد من التجديد بالرغبة في بناء الإمبراطورية الروسية ضمن معايير جديدة، ليسجل اسمه في تاريخ روسيا إلى جوار قياصرتها السابقين، خصوصاً في ظل اعتماده ليس على مبادئ توسيع الإمبراطورية وشعاراتها الدينية فقط، بل في تحديد توجهات روسيا وأدواتها الأساسية.
فبوتين كرر أكثر من مرة مقولة القيصر ألكسندر الثالث "في العالم كله لدينا حليفان مخلصان فقط - جيشنا وقواتنا البحرية. كل الباقين، في أول فرصة، سيحملون السلاح ضدنا".
مقولة ألكسندر الثالث ربما تكشف لماذا اختار بوتين المغامرة بتدخل عسكري هو الأوسع من نوعه في تاريخ روسيا، وتوجيه ضربة استباقية في أوكرانيا لفرض وقائع جديدة على الأرض، لمنعها من التحول نحو الغرب واستخدام أساليب كانت رفضتها موسكو سابقاً في تبرير الولايات المتحدة لغزواتها في العقود الأخيرة في أفغانستان والعراق ويوغسلافيا وغيرها.
وبات مؤكداً أن بوتين الذي وجّه انتقادات لاذعة للزعماء الشيوعيين والسوفييت، لا يريد أن يدرج في التاريخ ضمن الخانة نفسها مع القائد المؤسس فلاديمير لينين الذي وزع أراضي الإمبراطورية لتشكيل دولته السوفييتية، أو الأمين العام للحزب الشيوعي نيكيتا خروتشوف الذي تنازل عن شبه جزيرة القرم لأوكرانيا، وكذلك ميخائيل غورباتشوف المتهم بالتهاون مع الغرب، والتسبب بالانهيار.
وذهب بعض الخبراء إلى القول إن فترة بوتين تشبه إلى حد ما فترة "الجمود البريجنيفي" (تطلق على فترة حكم ليونيد بريجنيف سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي) فيما يخص السياسة والاقتصاد، و"القمع الستاليني" فيما يخص التضييق على الحريات العامة.
في المقابل، لا شك أن بوتين يرغب في تسجيل دوره في التاريخ ضمن القياصرة العظام قبل 2024، موعد استمراره في الحكم أو خروجه من الحياة السياسية.
ومن الواضح أن اجتياح أوكرانيا يشير إلى أن بوتين قرر استعادة الاتحاد السوفييتي، ولكن ضمن شكل مختلف يعتمد أساساً على العرق السلافي، بما يمكن وصفه الاتحاد السلافي أو الإمبراطورية الروسية السلافية، على أن يتمتع بمناطق نفوذ خاصة في أوروبا وآسيا الوسطى ضمن مشروع "الأوراسية" الذي تؤمن به نخب كثيرة قريبة من بوتين.
هذا الاتحاد قد يشمل أيضاً أجزاء من مولدافيا من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية. ومن المؤكد أن الاتحاد المقبل لا ينطلق من أن موسكو "قلعة الأممية الشيوعية" كما كانت عليه منذ ثلاثة عقود مضت، بل تحويلها إلى "روما الثالثة" المحافظة على القيم التقليدية في العالم.