بعد مرور أسبوع واحد من التقارب العملياتي بين العسكر والمدنيين في السودان، يستمر المؤيدون للاتفاق الإطاري الموقّع بينهما في الدفاع عنه ومحاولة تسويقه، فيما يجهد المناهضون له في إظهار عيوبه والتحذير من مخاطر التقارب مع العسكر.
ووقّع تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير وقوى سياسية وأجسام مهنية، في الخامس من شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي (الإثنين الماضي)، اتفاقاً إطارياً "مبدئياً" مع قائد الانقلاب العسكري الجنرال عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)، يتضمن نصوصاً عدة، أبرزها انسحاب المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي، وتشكيل سلطة مدنية كاملة بمستوياتها السيادية والتنفيذية والتشريعية.
كما يتضمن الاتفاق تسليم شركات الجيش الاقتصادية إلى وزارة المالية، لإدارتها وتصريف شؤونها داخل نطاق الموازنة العامة، وفرض رقابة على شركات التصنيع العسكري بواسطة فرق المراجعة. كذلك ينص الاتفاق على وضع جدول زمني لدمج التشكيلات المسلحة، بما في ذلك قوات الدعم السريع وقوات الحركات المسلحة، في الجيش الوطني، لغرض تشكيل جيش واحد وبعقيدة واحدة.
دعمٌ نسبي للاتفاق الإطاري
وبعد مضي أسبوع على توقيع الاتفاق الإطاري، توالت ردود الفعل في البلاد بين التأييد والمعارضة. وأودعت نحو 30 من القوى السياسية والنقابية والمطلبية، طلباتها للتوقيع على الاتفاق الإطاري، آخرها تحالف التراضي الوطني، والذي يضم عدداً من التنظيمات والأحزاب، على رأسها حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل المهدي. وكان الفاضل المهدي قد شغل في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، منصب مساعد رئيس الجمهورية بين عامي 2001 و2004، ونائب رئيس الوزراء بين 2015 و2018.
قوى إعلان الحرية والتغيير ستعقد بدعم خارجي خلال الأسابيع المقبلة مؤتمراً خاصاً بالعدالة والعدالة الانتقالية
ومن المنتظر أن ينظر تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير في تلك الطلبات للتقرير حولها، مؤكداً أن أبواب الانضمام إلى العملية السياسية برمتها، والتوقيع على الإعلان السياسي والاتفاق الإطاري ستظل مفتوحة لكل قوى الثورة والقوى التي رفضت انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
كما أعلن عددٌ من لجان المقاومة السودانية في المناطق دعمها للاتفاق. ورغم قلة عددها مقارنة مع اللجان الرافضة، إلا أن ذلك التأييد يعطي رمزية أكبر.
وبالإضافة إلى الدعم الداخلي، حظي الاتفاق الإطاري بدعم وتأييد إقليمي ودولي كبير. وزادت الولايات المتحدة التي رعت الاتفاق عبر سفارتها في الخرطوم، من خطاب الدعم الدبلوماسي، إلى حد تهديدها بتقييد الدخول لأراضيها لأي مسؤول سوداني حالي أو سابق أو غيرهم من الأفراد الذين يُعتقد أنهم مسؤولون أو متواطئون في تقويض التحول الديمقراطي في السودان، بمن في ذلك الذين أدوا دوراً من خلال قمع حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وطالبت واشنطن العسكريين في البلاد بالمضي قدماً في التنازل عن السلطة للمدنيين، وحثّت المدنيين أنفسهم على الجلوس إلى طاولة التفاوض بحسن نية وتقديم المصلحة الوطنية على بقية المصالح.
ولم يتطرق الاتفاق الإطاري إلى التفاصيل الخاصة بخمس قضايا رئيسية، في مقدمتها العدالة والعدالة الانتقالية، وتفكيك نظام البشير، وتعديل اتفاق السلام الموقع بين الحكومة والحركات المسلحة عام 2020، وإصلاح القطاع الأمني والعسكري، عدا إيجاد حل للأزمة المتفاقمة في شرق السودان (الاشتباكات القبلية والإغلاقات).
وطبقاً لمعلومات "العربي الجديد"، فإن قوى إعلان الحرية والتغيير، وفي إطار مساعيها للوصول إلى رؤية كاملة عن تلك القضايا الخمس المعلّقة، ستعقد بدعم خارجي، خلال الأسابيع المقبلة، مؤتمراً خاصاً بالعدالة والعدالة الانتقالية، لتحديد أنجع السُبل لتحقيق العدالة ودراسة النماذج في البلدان الأخرى مثل جنوب أفريقيا ورواندا. وبحسب المعلومات ستكون أسر الشهداء جزءاً لا يتجزأ من المؤتمر.
أما بخصوص القضايا الأربع الأخرى، فستعقد من أجلها ورش عمل بالهدف ذاته، وبعدها يتم التفاوض مع العسكر حول الاتفاق النهائي. وربما يحتاج ذلك كلّه إلى أكثر من شهر حتى تتقلد الحكومة المدنية مقاليد السلطة في البلاد.
معارضو الاتفاق... قصف من 3 اتجاهات
على ضفة المعارضين، فقد وجد الاتفاق الإطاري في أسبوعه الأول قصفاً من ثلاثة اتجاهات رئيسية، سعت جميعها إلى إفشاله والضغط على المكون العسكري للتراجع عنه. أولى تلك الجهات هي الكتلة الديمقراطية التي تضم تحالف حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان، وهما من الحركات الموقعة على اتفاق السلام في 2020، إلى جانب أحزاب سياسية أبرزها الحزب الاتحادي الديمقراطي - فصيل جعفر الميرغني.
تصر الكتلة الديمقراطية على شمول الحل السياسي ورفض الحوارات الثنائية، وعلى التفاوض ككتلة وليس مجرد حركات موقعة على اتفاق السلام
ومنذ توقيع الاتفاق الإطاري، سعت الكتلة الديمقراطية إلى شنّ حملات سياسية وإعلامية متواصلة على الاتفاق، وسط تركيز حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان على أن الاتفاق لا يقود إلى تحقيق استقرار في البلاد. وحاول التحالف وضع رسائل في بريد تنظيمات أخرى معارضة للاتفاق، بإمكانية التحالف وتوسيع قاعدة الرفض.
وانعكس ذلك من خلال زيارات لقيادة التحالف، مثل جعفر الميرغني وميني أركو ميناوي، لمنزل القيادي في الحزب الشيوعي السوداني صديق يوسف، بحجة الزيارات الاجتماعية. وتشدد الكتلة، والتي يعتقد البعض أنها تجد دعماً مصرياً، على شمول الحل السياسي ورفض الحوارات الثنائية التي أنتجت الاتفاق الإطاري، وتصر في الوقت ذاته على التفاوض ككتلة وليس مجرد حركات موقعة على اتفاق السلام، كما يريد تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير.
الطرف الثاني، والذي نشط خلال الأسبوع ضد ما يعده تسوية سياسية، هو تحالف التغيير الجذري، بقيادة الحزب الشيوعي السوداني وواحد من فصيلي تجمع المهنيين السودانيين، وهو التحالف الأقرب للجان المقاومة، دينامو الحراك الثوري المناهض للانقلاب. ويرفض تحالف التغيير الجذري بشكل قاطع مبدأ الجلوس للتفاوض مع العسكر والشراكة معهم. وخلال الأسبوع الماضي، سيّر التحالف موكبين، الأول يوم التوقيع على الاتفاق الإطاري، والثاني يوم الخميس الماضي، في ما يبدو أن مقصدهما الأساسي هو الاعتراض على التسوية السياسية. وكان ذلك واضحاً عبر شعارات الموكبين والهتافات واللافتات التي رفعت خلالهما، والتي دعت إلى عدم الثقة في العسكر والتعويل على الشارع.
أما في شرق السودان، أكبر بؤر التوتر، فجاء رد الفعل مختلفاً جداً، إذ لم يتم الاكتفاء بالمواكب أو البيانات الصحافية، بل تمّ الذهاب عملياً نحو إغلاق أحد الموانئ السودانية على ساحل البحر الأحمر وطرق برية، في محاكاة لعمليات الإغلاق التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر.
ونفّذ فكرة الإغلاق هذه المرة، تنظيم جديد تحت مسمى "تحالف أحزاب وقوات شرق السودان" الذي هدّد كذلك بحمل السلاح وتقرير مصير الإقليم، إذا لم يتم إشراك شرق السودان في العملية السياسية الجارية، وإلغاء اتفاق مسار الإقليم الوارد في اتفاق السلام مع الحركات المسلحة. اللافت هنا أن عملية الإغلاق لم تستمر هذه المرة طويلاً، إذ لم تتعد اليوم الواحد، عقب وساطات مع المحتجين.
وقال القيادي في قوى إعلان الحرية والتغيير، محمد عبد الحكم، وهو المتحدث الرسمي باسم حزب التجمع الاتحادي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن حصيلة الدعم السياسي والاجتماعي للعملية السياسية وللاتفاق الإطاري خلال الأسبوع من التوقيع، مقارنة بحالات الرفض، مرضية بالنسبة لهم. وتوقف عند صدور بيانات عديدة مؤيدة من زعماء القبائل وإدارات أهلية والمجمع الصوفي، فضلاً عن رغبة آخرين في الانضمام للعملية السياسية. وأكد عبد الحكم استمرار الجهود لتوسيع قاعدة القبول بالاتفاق الإطاري عبر تفاهمات مع قوى الثورة، وعلى رأسها لجان المقاومة، حيث تسير تلك التفاهمات بصورة جيدة.
واعتبر عبد الحكم أن "أغلب الكتل التي ساندت قبل سنوات ثورة ديسمبر المجيدة، دعمت الآن الاتفاق الإطاري". وقال إن "غالبية الشعب من غير المنتمين سياسياً أيدوا الاتفاق أملاً في تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي وحسم السيولة الأمنية التي أعقبت الانقلاب".
في المقابل، رأى عبد الحكم أن الكتل السياسية المتحفظة أو الرافضة للاتفاق الإطاري، لم تقدم نقداً مباشراً حتى الآن لفحوى ومحتوى الاتفاق، مضيفاً أنها رفضت لأسباب شكلية أو من باب الغيرة السياسية على قدرة تحالف الحرية والتغيير على الفعل.
وأكد عبد الحكم أن تحالفهم متمسك بشدة في استيعاب حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بقيادة ميني أركو ميناوي في العملية السياسية، لأنهما مرتبطتان باستحقاق دستوري عبر اتفاقية السلام. وأشار إلى أن التواصل معهما مستمر وأن التحالف طلب من الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي ومنظمة "إيغاد" (الهيئة الحكومية للتنمية – منظمة أفريقية شبه إقليمية) بذل مزيد من الجهد لإقناعهما باللحاق بالعملية.
وحول استمرار المواكب الثورية، أكد محمد عبد الحكم، أن قوى إعلان الحرية والتغيير ليس لديها أدنى تحفظ على ذلك، بل ترى في هذه المواكب استمرارية تصب في مصلحة الثورة والتغيير والاتفاق الإطاري نفسه، لأنها ورقة ضغط مستمرة على كل الأطراف للالتزام بمبادئ الثورة وشعاراتها.
وفي ما يتعلق بوجود توجهات رافضة للاتفاق داخل "الحرية والتغيير"، أبان أن القوميين العرب، ممثلين في حزب البعث والحزب الناصري، ورغم المحاولات معهما، بقيا على رفضهما للاتفاق بحجة رفضهم لوجود العسكر في المشهد. وهو موقف متناقض، بحسب تقديره، لأن الحزبين قبلا من قبل في عام 2019 شراكة مع العسكر، وهما يتحفظان الآن على اتفاق يقود العسكر إلى الثكنات.
في الجانب الآخر، قلّل المتحدث الرسمي باسم الكتلة الديمقراطية، محي الدين جمعة، من حجم التأييد الذي وجده الاتفاق الإطاري. ورأى جمعة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن أطراف الاتفاق لم تنجح لصغر حجمها في تسويقه للشعب السوداني، لأن الاتفاق يُعبّر عن عمليات إقصاء واضحة لمجموعات مؤثرة في المشهد السياسي.
وبيّن جمعة أن الكتلة الديمقراطية على رأيها السابق، بوجوب شمول الحلول السياسية وعدم إعادة إنتاج الأزمة. وشدّد على ضرورة جلوس السودانيين، عدا حزب المؤتمر الوطني (حزب البشير)، حول طاولة واحدة، بحثاً عن رؤية مشتركة توافقية وليس رؤية تحالف واحد لا يُعبّر إلا عن نفسه.
وأكد جمعة أن التواصل بين قوى إعلان الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية، لم ينقطع قبل وبعد التوقيع على الاتفاق، وأن المعضلة الأساسية لتقدم التفاهمات بين الطرفين، هي إصرار الحرية والتغيير على فرض وصايتها بعدم الجلوس إلا لحركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان. وشدّد على أن الكتلة الديمقراطية لن تجلس إلا بمسماها الحقيقي، علماً أن قوى الحرية والتغيير تريد أيضاً فرض وصايتها بتعيين رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة والاستئثار بكل السلطة.
قوى إعلان الحرية والتغيير ليس لديها أدنى تحفظ على استمرار المواكب الثورية
أما الصحافي محمد الأقرع، فقال إن المشهد الأبرز بعد مرور أسبوع على توقيع الاتفاق الإطاري، هو تصاعد الأصوات الرافضة، سواء كان عبر كتل سياسية مناوئة أو حركة الشارع المتمثلة في لجان المقاومة. ويأتي ذلك، بحسب رأيه، "في وقت نلاحظ جموداً في عمل الآلية الثلاثية وغيرها من الجهات التي تُسيّر أو تتوسط بين الأطراف، خصوصاً في ما يتعلق بإقناع الأحزاب والحركات المسلحة المنضوية في تحالف الكتلة الديمقراطية".
وأضاف الأقرع، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه وعلى الرغم من توقيع الاتفاق، يبدو أن هناك أزمة ثقة حاضرة بين الأطراف لا تخلو من تربص. وظهر ذلك، بحسب رأيه، من خلال التصريحات المضادة والبلاغات الجنائية الأخيرة التي استهدفت قياديين من وفد التفاوض من الحرية والتغيير، وعضوي لجنة إزالة التمكين، وهما بابكر فيصل وطه عثمان.
كما أن اللافت، وفق قوله، أن التوقيع لم يوقف قمع الشرطة للتظاهرات التي تطالب بالحكم المدني، وما زالت الشرطة تستخدم الرصاص المطاطي والحجارة والزجاج المقذوف عبر سلاح "الأوبلن"، بالإضافة إلى استخدام المدرعات وعربات المياه للدهس المتعمد للمحتجين. وأوضح أن هذا القمع "يعزز من شكوك لجان المقاومة بأن التسوية لن تُصلح من شكل السلطة، إنما ستعطي العسكر ضوءاً أخضر جديداً لتصفية حركة الشارع ومن ثم العودة عبر بوابة انقلاب آخر".
وشدّد الصحافي السوداني على أن الشارع في السودان الذي تحركه لجان المقاومة منذ عام، لمناهضة الانقلاب، خرج بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري في مرتين، وبأعداد ضخمة، وظلّ يردد نفس الشعارات القديمة، بالإضافة إلى أخرى جديدة ضد قوى الحرية والتغيير التي تبدو أنها فقدت قبولها وسط الشباب إلى حد كبير، بحسب رأيه. واعتبر أن ذلك لا ينفي حدوث انقسام وسط الشارع وميول جزء من الشباب تجاه التسوية، وهو الأمر الذي سيقود بدوره إلى تفكك لجان المقاومة وإعادة اصطفافها من جديد.
واستطرد الأقرع في تحليله لواقع أسبوع ما بعد توقيع الاتفاق الإطاري بقوله إن "القضايا الخمس محسومة في الأساس بين الطرفين الرئيسيين في التفاوض (الحرية والتغيير والعسكر)، والدليل حديث البرهان الأخير بعد التوقيع عن منح العسكر حصانات، مستبعداً حدوث جديد بشأن العدالة. وتوقع أن يستخدم الطرفان آليات المؤتمرات والتشاور الواسع لإطالة أمد فتح هذه القضايا طيلة فترة الانتقال المقبلة، خصوصاً في ما يتصل بالجريمة التي تلاحق القادة العسكريين بمجزرة فضّ الاعتصام وقتل المتظاهرين بعد الانقلاب، على حدّ تقديره.